خيوط الفجر
قالت من القاهرة: وكيف الجو في صنعاء؟
قلت: الجو خرافي. وأضفت سريعاً: لو كانت صنعاء نظيفة ومخططة.
عادت تقول: ستكون إن شاء الله.
قلت: سننتظر، فهي تستحق الانتظار.
صديق آخر سأل: أيش أخبار صنعاء؟
قلت سريعاً: هدوء ومطر.
كلما غزر المطر تحول بسبب عشوائية "دولة الإعجاز والإنجاز" إلى نقمة، وهذا ما حصل ليلتها بسبب ما ورثته العاصمة من عشوائية في التخطيط، وبالذات البناء في مجاري السيول. كتبنا أيامها كثيراً عن العشوائية، فلم يسمع أحد، كتبنا عن مدن الليل فلم يعر ما كتبته أنا وغيري أدنى التفاتة. ويكفي أن تطل على مذبح وجبل عطان ونقم فترى كل يوم التشويه الذي ينعكس على النفوس بادياً.
لن أنسى ما قاله لي ذات يوم، أيام أن كان وكيلاً للبلديات، ظل المهندس أحمد عبدالعزيز يحدثني عن صنعاء وضرورة التخطيط، قال: تخيل أننا نفاجأ بحارات جديدة عندما يأتون للمطالبة بشق الشوارع أو إيصال الخدمات. ذكر يومها، وأنا هنا أتحدث عن لقاء تم معه أيام الحمدي: "حارة النور" فوجئت بها، وعلى هذا فقِس.
تم ترييف صنعاء كما حصل لكل المدن، ولو استعدنا الفيلم كله لرأينا أغنام من احتلوا بنايات المعلا في بلكوناتها. نساء الإنجليز كن يصحين فجراً يطرزن بجمالهن تلك البلكونات لتحل محلهن أغنامنا!!
ثلاثة أو أربعة أيام مطر كادت أن تودي بمعظم أحياء صنعاء؛ "الخفجي"، وهو حي ناتج عن عودة المغتربين وصورة من صور العشوائية، وشميلة، وبيت معياد، وكم سنذكر من أمثلة، تحولت إلى صائح واحد في بهيم الليل: "أنقذونا".
أتذكر أيام أن كانت مدينة الأصبحي الكائنة على طريق دار الرئاسة؛ كان العقلاء، وخاصة من كبار السن يصيحون: "يا ناس، ما أحد يبني في مجاري السيول"، فلم يسمع أحد من أعضاء "دولة الإعجاز". لو مر أحدكم اللحظة ليرى ما نقول، فسيجد المجرى وقد اختصر إلى بضعة أمتار، ما يعني أن المنازل على ضفتي ما تبقى منه يمكن أن يسحبها السيل إلى الروضة !!
العشوائية في البناء وسرقة المساحات المخصصة للحدائق والمدارس والمرافق العامة، عكست تواجد دولة الفساد التي شوهت كل شيء في حياتنا، وانظر عشوائية البناء وتغيير اتجاهات الشوارع واختصارها، انعكس عشوائية على مجمل حياتنا، وينسحب الأمر على أشكال المباني، فلا رؤية أبداً للأمر؛ هذا يبني "بلُك"، وذاك بحجر، ثم يعود ويرتفع بالبلك، وذاك يطلي واجهة مبناه بأي لون يدله عليه وعيه الجمالي، وذاك يرفع السور فوق السور إلى عنان السماء خوفاً "لا يشلّوا المكالف"، ولا أحد حدّد ارتفاع الأسوار، فكل ليلى تقرأ القصيدة التي تريد.
ثلاثة أو أربعة أيام مطر كادت أن تودي بمعظم أحياء صنعاء؛ "الخفجي"، وهو حي ناتج عن عودة المغتربين وصورة من صور العشوائية، وشميلة، وبيت معياد، وكم سنذكر من أمثلة، تحولت إلى صائح واحد في بهيم الليل: "أنقذونا". أما سائلة صنعاء فكم تحدثنا أيامها عن ضرورة وجود وسائل إنذار مبكرة عن السيول القادمة فجأة من الجبال، "أذن من طين وأخرى من عجين"، وخاصة من قبل أولئك الذين رصفت السائلة أيامهم، فبعض العقلاء من المهندسين كانوا يقولون بضرورة ترك فتحات بين مسافات محددة لتغذية المياه الجوفية خاصة في بيوت صنعاء التاريخية. لم يسمع أحد؛ المستفيدون كانوا على عجلة من أمرهم.
ها هي النتيجة نراها فيما تستمر العشوائية؛ سيأتي ذلك اليوم، فإن كنا لا نزال أحياء سأقول لمن سألتني عن صنعاء: الجمعة الجمعة.