الدعواتُ التي تُطلق من أجل إيقاف الحرب وإحلال السلام، أو البدء بخطوات السير نحو المصالحة، تبدو لدى البعض دعواتٍ حالمةً، غيرَ واقعيةٍ، سطحيةً، وساذجةً، إلى غير ذلك من النعوت السلبية التي تحيط بأي مبادرة سلام. بالنسبة للمجتمع، لا تعني هذه التوصيفات نفوراً من العبور نحو السلام، ولا تعني أيضاً أن الناس أدمنوا الحرب، أو صارت خيارَهم المفضل؛ كل ما في الأمر أن تراكمَ دعوات السلام، دون الاستجابة لها في السابق، شكَّلَ حالةً من خيبة الأمل الجمعي، ليصبح حاملو هذه الخيبة بحاجةٍ إلى سلامٍ إضافيٍّ يُنقذهم من انعكاسات الحرب الطويلة، التي تسلّلتْ إلى النفوس على شكلِ إحباطٍ ويأسٍ وتوجُّس.
أما على مستوى أطراف النزاع المعنية بالاستجابة لهذه الدعوات، فإن الأمر يبدو مختلفاً بعض الشيء. يتم التعامل مع أي مبادرة من منطلَقِ قُربِ أو بُعدِ فحواها من المخاوف والمواقف والمصالح التي كوّنتْها في زمن الصراع. وفي محاولة توصيف مسألة القبول والرفض لمبادرات السلام بنَسَقِها الكلي، لا بد من الإشارة إلى أن اشتداد حدة المعارك يدفع الجميع إلى رؤية الأشياء من خلال زناد البندقية فقط. حتى الطاولات التي تعد للحوار، لا ينظر لها سوى امتدادٍ لميدان معركة، أو سلسلةِ متاريسَ تفرض دوامَ حربٍ لا أفُقَ لنهايتها. ولذلك تتعثر تلك المبادرات في بداياتها.
وهنا يُبرز لنا الصراع ضحايا من نوع مختلف. فمن يتصدرون أمر الصراع، رغم ارتكابهم لانتهاكات جسيمة، هم أيضاً ضحايا لسطوة الحرب على مخيلتهم، فيصابون بعجز رؤية الأفق السلمي. ومع سقوط المزيد من القتلى من بين أوساطهم، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لديناميكية الحرب، يصبح التوقفُ عن مواصلة الحرب خيانةً في نظرهم. وتزدهر مع هذا السلوك العديدُ من العبارات التي تجسد رومانسية الحرب التي ليس لها حدّ. إذن، خيبة الأمل، متوالية الضحايا، وسطوة الحرب.. هذه المشكلات مجتمعةً تُشكل مناعةً سلبيةً كافيةً، ليس لرفض أي دعوة فقط، ولكن لشيْطنتها أيضاً.
يدرك الجميع أن نار الحرب تُتلف الكثيرَ من الفرص التي تتراءى لنا؛ لكن لا يعني ذلك أن الوقت قد فات. لا يوجدُ وقتٌ أهمُّ من الآن لانتهاء دوامة الصراع. حتى الماضي، الذي كان من الواجب توقُّفُ الحرب عنده، لم يعد مهماً.
أولى خطوات الإنقاذ لكارثية الحرب على المجتمع والأطراف، هو عدم التوقف عن المبادرات الرامية للسلم. فالتجاهل لتلك الدعوات ليس مؤشراً لفقدان جدواها، بل لمدى فداحة الكارثة التي تتطلب عدمَ التوقف عن رفع صوت السلم في كل محفلٍ، دونما كللٍ أو ملل. وليس مطلوباً أن تؤخذ تلك الدعواتُ بوضعها المثالي الكلي، وإن كان مهماً، بل يجب الالتفاتُ إلى تعدد المسارات المساهمة في تخفيف حجم المأساة، مهما كانت متواضعةً. فالتحركات المحلية التي تُسهم في كبح جماحِ العنف في منطقةٍ ما، أو الوساطات التي تنجح في احتواء تداعيات صراع، أو المبادرات التي تُسهم في تبادلٍ للمحتجَزين، جميعها رصيدٌ مهمٌّ باعثٌ لأمل السلام في أوساط المجتمع. فلا يوجد نمطٌ معياريٌّ لشكل تلك المبادرات؛ لكن الأهم من ذلك هو القدرة على خلق مساحاتٍ آمنةٍ للمدنيين.
يتطلب العبور نحو السلام دفع بعض الأكْلاف. وذلك ليس تراجعاً للخلف، بل تقدمٌ من مقابر الموت إلى حقول الحياة. وليس تنازلاً، بل تسامٍ. وهنا نتذكر مقولة عالم الإنسانيات إيراسموس: "هناك حالاتٌ تَفرِض علينا واجبَ شراء السلام. وعندما نقوم بعمليةٍ إحصائيةٍ لتكاليف الحرب ولعدد المواطنين الذين سينجون من الموت، يبدو السلام كأنه اشتُرِيَ بسعرٍ زهيدٍ، مهما كان ثمنُه. وعندما نفكر، بعد ذلك، في الأوجاع التي تفاديناها والممتلكات التي أنقذناها، لن نتأسف كثيراً على ثمن السلام الذي نكون قد دفعناه".
يدرك الجميع أن نار الحرب تُتلف الكثيرَ من الفرص التي تتراءى لنا؛ لكن لا يعني ذلك أن الوقت قد فات. لا يوجدُ وقتٌ أهمُّ من الآن لانتهاء دوامة الصراع. حتى الماضي، الذي كان من الواجب توقُّفُ الحرب عنده، لم يعد مهماً.