الأخ الأكبر

حسن عبدالوارث
April 16, 2020

الأخ الأكبر

حسن عبدالوارث
April 16, 2020

في بلدٍ ما، في زمنٍ ما، توافرتْ حكومةٌ ما على منظومةِ مراقبةٍ لشعبها بالصوت والصورة، آناء الليل وأطراف النهار. لم تكن تَخْفى عليها شاردةٌ ولا واردةٌ، بنتُ شفةٍ أو حفيفُ حركة؛ حتى تكاد نبضاتُ القلوب والأفكار والأحلام والآلام والمشاعر، وما تُخفي الدفاترُ، مرصودةً لدى تلك الحكومة وأجهزتها .

هذا ما تنبَّأ به الروائي الإنكليزي جورج أورويل في أواخر الأربعينيات، مُتصوِّراً حدوثَه في ناصفة الثمانينيات في زاويةٍ من زوايا العالم، في روايته الشهيرة "1948". ولم يكن الموضوع خيالاً روائياً، بقدر ما كان تحليلاً سياسياً لما يمكن أن يُسْفر عنه ذلك التراكمُ الرهيبُ من العلاقات والوقائع والنفسيات والأحداث التي أفرزتها الحربُ الكونيةُ الثانية على كل الأصعدة والمستويات .

وكانت "الأخ الأكبر يراقبك" هي العبارة - المانشيت - الثيمة- البيان الأبرز للمرحلة والدولة النبوءة، والتي -أي العبارة- يراها ويسمعها ويستشعرها كلُّ أفراد المجتمع الذين باتوا تحت سطوة شاشات الرؤية ومِجسَّات الصوت التي انتشرتْ في كل مكانٍ في الدولة، في كل بيتٍ ومرفقِ عملٍ ودراسةٍ، وفي كل زقاقٍ وشارعٍ وميدانٍ فيها، حتى لَيشعرُ المرءُ بوجودها حقيقةً لا خيالاً، في المرحاض وغرفة النوم، بل في رأسه وتحت جلده !

تخيَّلْ أن أجهزةَ تنصُّتٍ وتلصُّصٍ موجودةٌ في القلم الذي تكتب به يومياتك، في فنجان القهوة التي ترتشفها كل صباح، في الكتاب والجريدة بين يديك، في شاشة التلفاز أمامك، في الكرسي والمنضدة والسرير، في الوردة تلامس أنفك، والشفة تلثم فمك، والوجه قبالة عينيك.. جميعها تهمس إليك: "الأخ الأكبر يراقبك"!

أُقسم بالله إن زميلاً (يعرفه عديدٌ من زملائنا في الثمانينيات، وسيعرفون الآن من أقصد بالضبط) كان يعيش هاجس "الأخ الأكبر" في كل لحظةٍ من لحظات يومه، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً؛ حتى كِدْنا نعتقد، بصورةٍ مطلقةٍ، أن صواميلَ دماغه ستنفجر في أية لحظة. وقد هرب صاحبُنا هذا من "الأخ الأكبر"، الذي ظلَّ يراقبه ويترصَّده في صنعاء إلى عدن، لكنه وجد "أخاً أكبرَ" آخرَ، ماثلاً قبالته في عدن أيضاً .

تدهورت الحالةُ النفسية والذهنية والبدنية لهذا الزميل على نحوٍ غيرِ معقول. وقد ظل يتنقَّل بين محلات الإقامة بوتيرةٍ سريعةٍ ومتكررةٍ ومرتابة. وفي كل مرةٍ لم يكن ليسمحَ لأحدٍ بأن يعرف محل إقامته !

وفي هذه اللحظة، أدري أن "ق" متواجدٌ في صنعاء؛ لكنني لا أدري -ولا يمكن لي أن أدري- أين يقيم!

وبعد عشرين، خمسين، مائة عامٍ، سيظل "الأخ الأكبر" ماثلاً بالضرورة ؛ مادام ثمةَ حكومةٌ، وثمة مواطنٌ، وثمة حلمٌ يحاول أن يتفتّح !

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English