ما إن انطلقت الرصاصةُ الأولى لهذه الحرب، حتى بدأت حربٌ موازيةٌ على الثقافة والفن وكل ما يُظهر جمالَ هذا الشعب وشغفَه بالحياة. توقفت الفعالياتُ الفنية الرسمية والمهرجانات الغنائية بمبرر المعركة؛ هددت جماعاتٌ متطرفةٌ ومنعت إقامةَ فعالياتٍ ثقافيةٍ وأخرى فنيةٍ في بعض المدن؛ وقّع فنانون على التزاماتٍ بعدم الغناء في مدنٍ أخرى، مع شعورٍ كبيرٍ بالنصر لمحاربي الفن والثقافة.
غير أن أرضاً غنيةً بالتراث الفني، وضاربةً جذورها في الثقافة، كانت عصيةً على المنع، وشهدتْ طفرةً غيرَ مسبوقةٍ في عدد الفنانين ونتاجاتهم المختلفة؛ وهو أمرٌ لا يشبه إلا ما كان في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، حين بدأ الغناءُ للزراعة والأرض والحب، بتشجيع من الرئيس الحمدي، وامتدّ سنواتٍ بعد رحيله.
صحيحٌ أن الطفرة الحالية ليست كسابقتها، من حيثُ ضخامةُ الإنتاج؛ لكن ما يُحسب لها أنها قائمةٌ على جهدٍ ذاتيٍّ، بعيداً عن أي دعمٍ رسميٍّ، ومع غيابٍ كليٍّ حتى لشركات الإنتاج والمال الخاص الداعم.
يُحسَب للطفرة الحالية أيضاً عودتُها لتُغني وتُجدد تلك الأعمال الضخمة، والتي أرّخت لحقبةٍ مهمةٍ من تاريخنا وبلونٍ جديدٍ يُمكّن الأغنية اليمنية من الانتشار عربياً؛ وهو ما تم بالفعل.
هاني الشيباني –مثلاً- جدّد العديدَ من الأغاني الصنعانية والحضرمية، أدخل الموسيقى على تراثٍ اقتصرَ على العود، أوضح بعضَ الكلمات لتُفهم وتصلَ إلى من لا يتقنون اللهجة اليمنية.
في تعز أيضاً، نشأت فرقة جميلة اسمها "مشاقر تعز"، غنت بما توفر لها من آلاتٍ موسيقيةٍ، وبرتمٍ جديدٍ تتماشى مع المزاج العربي العام. وفي صنعاء، مجموعةٌ من الفنانين أغنُوا التراثَ بشكلٍ جديدٍ وجميلٍ يصل أيضاً لجمهورٍ جديدٍ غير الجمهور اليمني.
غنى هؤلاء الشبان في البيوت والمطاعم والمقاهي، فضلاً عن الاحتفالات والمناسبات تحت عنوان "فن خفافي"، ونشروا في مواقع التواصل الاجتماعي.
أما ما يمكن أن نسميهم بفناني الصف الأول والثاني، فقد أظهروا تطوراً كبيراً في قدرتهم وتمكنهم، وتنافسوا ولا يزالون في الإنتاج الغزير والرائع؛ ما جعلهم هدفاً لاستضافتهم في أكبر الفعاليات الغنائية خارج اليمن.
شجّع مثل هؤلاء الفنانين أطفالاً موهوبين على الغناء، ظهرَ طفلٌ يبيع الماء ويغني، فذاع صيته، وأخرى تبيع المناديل الورقية وتُطرب زبائنَها بالغناء وتبهر العرب، كل العرب.
وظهر فنانون مغمورون إلى الواجهة، وانتشرت العديد من الدورات الفنية وسط إقبال كبير، مقابل مركزٍ وحيدٍ للموسيقى كان يعمل كل ذلك في السابق.