كانتثمة مدينة اسمها "عدن". نعم، كانت... فالمدينة التي أرى اليوم، ليست هيالمدينة التي عرفتُ يوماً، وكانت تُعرف بذاك الاسم.
كان ذلك فيزمنٍ مضى. زمنٍ كله أيامٌ حلوة وأوقاتٌ خصبة وذكرياتٌ جميلة. وعدن التي كانت. كانتمدينة بكل معنى الكلمة، مدينة ينام أهلها ليلاً وأبواب بيوتهم مُشرعة للريحوالبخور، أو ينام بعضهم على الأرصفة وفي الميادين وملاعب الكرة، هرباً من الحرّالشديد والقيظ البليد، ثم يصحون على صباحٍ ينضح بالسكينة والسلامة.
عدن التيعرفتُ في ما مضى كانت مدينة يتوضَّأ أهلها بالتعايش والتسامح والكرم والنبل والرضاوالقناعة. لا يعرفون الحقد والحسد والضغينة، ولا يفقهون حرفاً في كتاب التمييز أوقاموس العنصرية. وإذا كان ثمة أبسط من البساطة، فـهُم.
كانت "الحافة" في عدن فسيفساء عجيبة وبديعة وراقية من الأديان والمذاهب والأعراق والمناطق واللهجات والطبائع والصفات والمناقب. يسكنها أفقر الفقراء والمستور بحفظ الله، وذاك الذي فتح عليه الرزاق الوهاب. حتى الرئيس أوالوزير الذي خرج منها، لم يخرج قط من جلدها. وكانت السكين في يد شخص يسير في الشارع سلاحاً خطيراً ومشروع جريمة قتل مع سبق الإصرار، أما المسدس فلا يحمله غير رجل أمن أو ضابط في الجيش، ولا يستخدمه إلَّا بأمر القانون، وفي ظرفٍ قهري لا يقبل التأويل.
بإمكانك أن تسأل كل من عاش فيها خلال الزمن الممتد منذ الثلاثينات حتى الثمانينات: هل عدن اليوم هي عدن التي تعرفها؟ ولا تنتظر إجابته، بل اقرأ كلام الدموع في عينيه، فهي أصدق إجابة
وكانت "أُمّالفُل" و"أبو العَتَر" و"أُمّ الخمير" و"أبو الثريب"و"أُمّ الزعقة" و"أبو التمبل"، هم أبطال الشاشة في مدينة حُبلىبأبطال الحياة اليومية البسيطة، من كل المستويات الفئوية والثقافية التي تندرحكلها تحت طبقتين لا ثالثَ لهما: البروليتاريا والوسطى. أما "الهاي لايف"،فرئيس الدولة شخصياً لا ينتمي إليها، ولا أكبر تاجر أو مقاول- ماذا؟ أتراني أكذبأم أُبالغ؟ إذن، سَلْ كل من عاش فيها خلال الزمن الممتد منذ الثلاثينات حتىالثمانينات. سَلْهُ عن عدن اليوم: هل هي عدن التي تعرفها؟ ولا تنتظر إجابته، بلاقرأ كلام الدموع في عينيه، فهي أصدق إجابة. ستقول لك تلك العيون الغرقى بالدموعأن عدناً لم تطرد يوماً لاجئاً إليها من أيّ جنس أو عرق أو دين أو لون، ناهيك عنأبناء الجنس والعرق والدين واللون نفسه الذي تحمله عدن. ستقول لك ما سبب تسميتهاالتاريخية بأُمّ المساكين. وستقول لك أن الجار في الحافة لم يكن يهتم من أية قريةتدحرج جاره إلى عدن، وما إذا كان ينطق القاف جيماً أو الجيم ياءً أو الغين قافاًأو العكس، أو يضُم في صلاته أو يُسربِل، أو لا يُصلّي أصلاً صلاة المسلمين. ستقوللك أن أحداً لم يجُع يوماً في عدن، وأن المائدة كانت واحدة في الحافة، وأن الفرحةواحدة، والمأتم واحد، وأن لا أبواب بين البيوت، ولا قضبان بين القلوب، ولا ترجمةبين المشاعر، فتلك اللغة لم تكن حينها في أدنى حاجة الى مترجم.- أما زلتَ تتهمنيبالكذب أو المبالغة؟ "أوكّيه". ستردّ عليك عجائز عدن وشيوبة الحوافي.ستردّ عليك ذرّات التراب في كل "زغطوط" (زقاق) من "زغاطيطها".ستقول لك أن عدن اليوم ليست عدن!
عدن اليوم لم تخرج من بركان وتتدلّى صوب البحر. عدن اليوم يا هذا، هي مدينة أخرى لا علاقة لها بالمدينة التي عرفها وسكنها وعاشها كل هؤلاء وأولئك. اليوم، ليس ثمة عدن في عدن !