افتراش الموت

بتنا مخيرين بين موتين
عمار حسن
March 15, 2020

افتراش الموت

بتنا مخيرين بين موتين
عمار حسن
March 15, 2020

كانت الساعة 10:00 صباح 12 من ديسمبر/ كانون الأول 2019 حين رن هاتفي ليخبرني أحدُ أبناء مديرية ذو باب أنه قد انفجر لغم صباح هذا اليوم وأصاب الحاج صالح وزوجته وهما يرعيان الأغنام.

يا إلهي.. أنا أعرف الحاج صالح هذا؛ صياد سمك وراعي المواشي، وقد سبق أن التقيته في زيارة ميدانية لـ "مواطنة" قبل شهرٍ تماماً، وأدلى لي بإفادة تعرضه لاحتجاز تعسفي هو وولده في العام 2017.

تتعدد الانتهاكات وتتنوع في ذو باب؛ حتى ترى المواطن الواحد فيها ضحية لأشكال عدة من انتهاكات حقوق الإنسان.

أذهب- في كل مرة- لأجري مقابلة فإذا بالضحية يخبرني بأنه قد تعرض- أيضاً- لانتهاك آخر، ويجب أن يخبرني به!

طلبت من الحاج صالح في اللقاء الأول أن يأتيني بشاهد لأخذإفادة عن الإنتهاك الذي تعرض له، فإذا بالشاهد ضحية لاحتجاز تعسفي هو الآخر.

بتنا مخيرين بين نوعين من الموت: إما أن نموت جوعاً،
أو نتحرك وراء أرزاقنا فتتلقفنا الألغام

في الحقيقة أبدو وكأني أمام أسطورة التنين الصيني ذي الرأسين؛ التي تقول: إنه كلما حزَّ البطلُ له رأساً نبت مكانه رأسان، أو كأني أنظر إلى دمية ماتريوشكا الروسية؛ التي كلما فُتحت دمية ظهرت بداخلها دمية أخرى، في متوالية طويلة من الدمى المتداخلة والمتباينة الشكل.

تحوز مديرية ذو باب بمحافظة تعز؛ أحدَ أهم المضائق المائية في العالم؛ مضيق باب المندب، وتطل على بحرين كبيرين تتشاركهما الكثيرُ من الشعوب العربية والإفريقية.. البحر الأحمر والبحر العربي، كما تحتضن أراضي زراعيةوأخرى صحراوية، وتمتلك سلسلة جبال سعيد علي، والمثلث، والعُمَري، والمُديَّة، المتجاورةوالصغرية، بعضُها يعانق البحر، وبعضها الآخر يحتضنها من الشرق؛ وكانت هذه الجبال تمثل سياج حماية حدودية لليمن والمديرية، بوجود معسكرات حرس حدود وخفر سواحل فيها.

تتعدد الانتهاكات هنا وتتنوع لكن تظل الألغام هي الأعلى حضوراً، وتستوطن معظم أراضي المديرية، وتتركز في الحدود الشرقية المحاذية لمديريةموزع، وتظل القضيةً الحيةً التي تلاحق البشر والحيوانات ككابوس لا فكاك منه.

هنا تجد أن جميع الأهالي (ضحايا وشهوداًّ)؛ يشيرون إلى أن المسؤول عن زراعة كل هذه الألغام هم جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيون) قبل أن ينسحبوا من المنطقة في يناير/ كانون الثاني 2017 ليتمركزوا في الحدود الغربيةلمديرية موزع والتي تلتقي مع الحدود الشرقية لمديرية ذو باب.

قال لي شيخ مسن: "بتنا مخيرين بين نوعين من الموت:إما أن نموت جوعاً، أو نتحرك وراء أرزاقنا فتتلقفنا الألغام".

يعمل أهالي مديرية ذو باب في أربع مهن لا تكاد تجد لها خامسةً:

صيادو سمك وهم الأغلب، أو رعاةُ مواشٍ، أو فلاحون، أوحطابون- وهاتين الأخيرتين هما الأقل امتهاناً.

لكن في ذو باب وحدها يصير الصياد فريسةً لوحش مستتريتربص به في كل شبر من تراب مديريته ذات الـ 1557 كيلو متر مربع.

حبيب علي صالح؛ الصياد والغواص الذي عشق الصيد، وعُجنت سنين عمره برائحة البحر حتى اقترب من عقده الخامس.

لم يتخيل حبيب يوماً أنه سيعجز عن ممارسة هوايته التي يُطعم منها صغاره.

تخبرك ملامح حبيب أنك أمام رجل بكامل عنفوانه وحيويته.

ولكن في 11 مايو/ آيار 2017؛ وبينما كان يبحث عن أماكن أسماك الحبّار، بين صخور جبل العُرض المتصل بالبحر، انفجر به لغم فأحال حياته إلى عجز دائم، وإعاقة مثبطة، وقد وجد نفسه بقدم يمنى مبتورة.

لكنه- مع ذلك- يقف شاكراً لله حين يتذكر صديقه الشاب في القرية المجاورة، فهدَ محمد أحمد (34 سنة)، صياد الطيور الجارحة، والذي صار إنسان بنصف جسد.

ففي قرية بدوية نائية، لا تتعدى بيوتها عدد أصابع اليد تقع إلى الشرق من قرية الحُريقية، عمل فهد في مهنة صيد الصقور.

لم نعد نحتمل المزيد من النزوح والعناء،
واضطررنا إلى العودة إلى بيوتنا
ونحن موقنون أنه لم يعد في تربتنا موطأ قدم آمن

طوَّع فهد قساوة الصحراء اللاهبة التي يعيش فيها حتى لانت له وواجه جميع مخاطرها، إلا أنه لم ينجو من مصائد الحرب.

ففي 2 يوليو/ تموز 2019، خرج فهد في رحلة لمطاردةالصقور، فانفجر به لغم؛ وبُترت قدمُه اليسرى، وفقدَ عينيه، وكُسرت أسنانُه، وتشوهتملامح وجهه.

حين سألت فهداً عن حاله؟ أجاب: ها أنا ذا شخصٌ آخر لميعد يميز الشمال من الجنوب.

غادرتُ فهداً وهو يتحامل واقفاً على عكازيه.. مشيتقليلاً.. ثم التفت إليه فرأيت إحدى طفلتيه تتشبث بما تبقى منه وتحتضنه في مشهدينطق ألماً كأنها تريد أن تقول: ما يزال لدي أب.

يقول علي: "لم نعد نحتمل المزيد من النزوح والعناء،واضطررنا إلى العودة إلى بيوتنا ونحن موقنون أنه لم يعد في تربتنا موطأ قدمآمن".

في قرية السَّيمن كنتُ منهمكاً في الاستماع إلى الضحايا واحدٍتلو الآخر إذ بدارجة نارية تقترب مني وعليها أحد الأطفال اليافعين.

حيدري إبراهيم أحمد (14 سنة).. طفلُ البادية الذي ترعرعإلى جوار أغنامه حتى بات يفهمها وتفهمه.

اعتاد الطفل - في كل صباح- أن يتجول مع أغنامه؛ يلعبويلهو بينما هي تسرح في مراعيها، ثم ينادي عليها بأسماء بشرية وهي تجيب، ولا يعودإلا مع غروب الشمس لينتظر صباحاً جديداً يلتقي بهم.. وهذا دأبه.

وفي صباح 20 إبريل/ نيسان 2019؛ رأى حيدري كرتوناً فيمنتصف جبل المُديَّة؛ الصغير في مكان المرعى الذي هو فيه فأثار فضول طفولته.

التفت الطفلُ إلى أغنامه وتحدث إليها بأن تبقى هادئةًإلى أن يعود.

صعد الطفلُ الصغيرُ الجبلَ الصغيرَ؛ ليرى ما هذاالكرتون! لكن لغماً قطع طريقه والتهم قدميه من الفخذين..

حُمل الطفلُ إلى بيته بنصف جسد.

حين تنظر إلى عيني حيدري تراهما تختزلان الشقاوة، وتخبرك عن حركةٍ كُبحت قسراً.

ليس من المبالغة القول إن مديرية ذو باب بأكملها افترشت الموت والتحفت الجوع، وبات الأهالي فيها يحدّقون إلى بعضهم كل صباح تحديق وداعٍ؛فكثير من الذين يغادرون قد لا يعودون، وإن عادوا؛ عادوا بإعاقة أو عاهة مستديمة.

تتكشّف الكثير من الألغام والعبوات المموهة للأهالي يوماً عن يوم؛ بفعل السيول والرياح، فيرونها ولا يجدون من ينتشلها من طرقاتهم.

زرت قرية البحصاء.. وفي طريقي إليها قال لي المُعرِّف الذي يصحبني: "انظر إلى هذا اللغم الذي على يمينك قد كشفته السيول، ولم نجد منينتشله من الطريق. وضعنا حوله الأشجار والشوك حتى لا تمر فوقه السيارات والدراجاتالنارية، ثم استدرنا بالطريق حوله.. نحن مضطرون لاستخدام هذه الطرق لتستمرحياتنا.. نحن نعلم أننا نجازف بالسير في هذه الطرقات لكننا مضطرون".

دعوني أخبركم عن ثلاث شابَّات شقيقات:

أُميمة؛ (25 سنة)، وميَّاسة (21 سنة)، وفاطمة (18 سنة)..يتيمات الأب من قرية عُبيدو.. اشتقن إلى جدتهن التي تسكن في قرية الكَدْحةالمجاورة؛ والتي لا تبعد سوى ثلاثة كيلومترات.

استأجرت الشقيقات الثلاث سيارةَ هايلوكس (تويوتا)، وذهبنإلى زيارة جدتهن، وفي طريق العودة، وعند الساعة 2:00 ظهراً في 5 أكتوبر/ تشرينالأول 2017 انفجر لغم أرضي بالسيارة التي تُقلهن وهن على مقربة من قريتهن من جهةالغرب.

فقدت كل واحدة منهن عيناً من عينيها، لتبقى كلٌ منهنبعين واحدة؛ فضلاً عن عدة كسور في أقدامهن.

ولم تكن كل هذه المشاهد قد امّحت من رأسي حتى تأتيني المكالمة المشؤومة: انفجر لغم بالحاج صالح وزوجته.

اعتاد الحاج صالح سالم أحمد (60 سنة)، وزوجته سلمى عليأحمد (40 سنة)؛ أن يغادرا بيتهما بحثاً عن المرعى لعدة أيام، ولربما لشهر كامل؛ فيأرض فلاةٍ لا أصوات حولهما إلا ثُغاءُ الأغنام.

في الصباح الباكر يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019؛ ذهبا كعادتهما يسرحان مع الأغنام في المرعى؛ في خبت بير حُنَيش، ويتحدثان.

وأثناء حديثهما رأت سلمى لغماً فردياً قد تكشَّف بعضُه بفعل الأمطار والسيول وكادت أن تطأ عليه.

أخبرت سلمى زوجها أن ثمة لغم في طريقهما، فقال لها:"لنبتعد عنه" فاستدارا حوله ليكملا طريقهما وحديثهما، لكن ثمة لغم آخرمطموراً إلى جواره كان يترصدهما.

وطئت سلمى عليه وانفجر بهما؛ وطارت منه شظايا فتحت صدرهاواخترقت قلبها، وسقطت سلمى أرضاً على الفور، أما الحاج صالح فكُسرت ساقه اليمنى.

حين رأى الحاج صالح أن شريكة حياته قد خمدت حركتُها؛ جمع جسمَه المُسنّ وراح يسحب نفسه على مؤخرته حتى وصل إلى زوجته، فوجدها قد فارقت الحياة.

تم إسعاف الحاج صالح إلى أحد مستشفيات عدن وتم تجبيرقدمه، لكنه غدا وحيداً إلا من طيف رفيقة دربه الذي لم يبرح خياله، وغصةٌ تخنق أنفاسه.

في اليوم الثالث بعد حدوث الواقعة؛ ذهبتُ إلى المنطقة،فلما وصلت إلى جوار منزل الضحيتين رأيت تجمعاً للدراجات النارية والأهالي وحين سألت عن سبب التجمع؟ رد علي سائق الدراجة التي استأجرتها بأن اليوم هو اليوم الثالثللعزاء.

كدت أبكي لألمهم وعَتَبهم وأنا أعلم جيداً مدى ما تعرضوا ويتعرضون له من فَقْدٍ وإعاقات وخسائر لا يكاد يخلو منها بيت في المنطقة.

وثَّقت الانتهاك ثم غادرت مكسور النفس؛ لا حول لي ولاقوة في تقديم أي شيء أواسيهم به.

في ذو باب؛ يفقد الأهالي بعضهم، وأجزاءهم، ومركباتهم، ومواشيهم، وكل ماله صلة بحياتهم، وتفقد البشرية إنسانيتها حين تقف تنظر إلى هذا الموت المتواصل.


تنشر هذه المادة بالتزامن على موقع منظمة "مواطنة" وموقع "درج".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English