أربعة أشقاء تسبّبت في إعاقتهم جرثومة

ما الذي يعنيه أن يكون سُدس اليمنيين من ذوي الإعاقة؟!
لطف الصراري
February 22, 2022

أربعة أشقاء تسبّبت في إعاقتهم جرثومة

ما الذي يعنيه أن يكون سُدس اليمنيين من ذوي الإعاقة؟!
لطف الصراري
February 22, 2022

عادةً ما تكون قواعد الكتابة مرهِقة للمشتغلين بها، لكني لن أسمح لها بذلك هذه المرة. فقصة الحاج أحمد الحاجبي لا تحتمل المقدمات، وإن كان هناك ما يستدعي ذلك، فليكن بعدها.

رجل سبعيني من سكان شارع الدائري في صنعاء العاصمة؛ لديه ثلاثة أولاد وبنت من ذوي الإعاقة. رأيتهم في شارع لا يحمل اسمًا متعارفًا عليه بين سكان المدينة، وهو الشارع الواقع بين شارعَي "الدائري" و"هائل". كان يدفع الفتاة على كرسي متحرك، بينما يمشي الأولاد الثلاثة على أرجلهم وأيديهم، أما وجهته، فكانت إلى "فاعل خير" ليساعده في دفع إيجار المنزل الذي يعيش فيه مع أسرته. استوقفته على استحياء لأسأله كيف يتدبّر أمور حياته مع أربعة أشخاص من ذوي الإعاقة، وهو في هذا السنّ! لم أَعِده بشيء غير كتابة هذه القصة بحسب ما سيعطيني هو من معلومات أساسية عنهم وعن وضعه الراهن.

حسن هو الابن الأكبر (30 سنة)، ناشر (26 سنة)، عابد (24 سنة) وكفاية (23 سنة). لديهم ثلاثة أشقاء آخرين، وهم لا يعانون من أي إعاقة جسدية، لكن هؤلاء الأربعة وُلدت الإعاقة معهم، كما أفاد الأب ذي اللحية البيضاء والوجه الأسمر الذي ينمّ عن روح تقاوم مشقة الأقدار بالرضى والصبر. يمكن لمن يقرّر مساعدته أن يرى ذلك أيضًا، بالإضافة إلى كون الرجل لا يبدو من أولئك الذين يتسوّلون بأبنائهم المصابين بالإعاقة. لقد كان ذاهبًا إلى "فاعل خير" سبق أن عرف حالته أو أن أحدًا دلّه عليه، ولم أثقله بمزيد من الأسئلة عن ذلك؛ فبالنسبة لشخص لا يستطيع تقديم المساعدة، يكون توجيه الأسئلة الكثيرة للمحتاج نوعًا من الصفاقة. لكني سألته عمّا إذا كان لدى أولاده الثلاثة، الذين يزحفون أمامه وخلفه، كراسي متحركة؟ "معاهم في البيت كراسي، لكن من يِسوقَهم معي؟" أجاب الحاج أحمد، وأضاف أنه أخرجهم معه اليوم لكي "يِشُمّوا هواء"، فأغلب أوقاتهم يقضونها في المنزل. ومن حركتهم وأصواتهم العالية أثناء وقوفه للحديث معي، يمكن للمرء أن يدرك ما يعنيه بقاء ثلاثة رجال يعانون من إعاقة مصدرها الدماغ، حبيسين طيلة اليوم والليلة بين أربعة جدران.

كارثة صحية غير مرئية

"حدثت لهم الإصابة وهم في بطن أمهم بسبب جرثومة". هكذا اختصر الأب الصابر بلا تذمر قصة إعاقة أولاده بناءً على إفادات الأطباء، وقد نجا إخوتهم الثلاثة من جرثومة الحمل الخبيثة لأنه كان قادرًا على الذهاب بأمهم إلى المستشفى في بداية حملها، وعلى شراء الدواء اللازم لإنقاذهم من هجوم الجرثومة. هذه إحدى المشكلات الصحية في اليمن، وهي مشكلة لا تحظى بالاهتمام المكافئ لخطورتها لدى السلطات الصحية، وبالمثل وعي المجتمع. وإذا كانت الإحصائيات المتداولة مؤخرًا أن نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، وصلت إلى 15% من إجمالي عدد السكان، فيجدر بسلطات هذا البلد وأطبائه ومثقفيه وإعلامييه، أن يرفعوا مستوى الاستنفار للبحث في كل أسباب هذه الكارثة التي أصابت أكثر من سُدس أفراد المجتمع بالإعاقة الجسدية الدائمة. 

باحتساب عدد سكان اليمن التقديري 30 مليون نسمة حاليًّا، فإن نسبة 15% من سكان اليمن لا تقل عن أربعة ملايين و500 ألف شخص! كل فرد من هؤلاء لديه عائلة معذّبة كحال عائلة الحاج أحمد الحاجبي

تصنّف منظمة الصحة العالمية جرثومة الحمل ضمن "داء الليستريات"، وتفيد نشرتها الخاصة بهذا الداء أنه يصيب النساء الحوامل 20 مرة أكثر من غيرهن، وأن مصادره الرئيسية هي الأغذية الملوثة والعدوى. ولا تخلو النشرة الصحية للمنظمة العالمية من إشارة إلى كونه "أحد أخطر وأوخم الأمراض التي تنتقل عن طريق الأغذية"، وأنه "سلسلة من الأمراض التي تسبّبها جرثومة الليستيرية المستوحدة، وتحدث فاشياته في جميع البلدان"، وأن النوع "الباضع" منه هو "الأكثر حدّة"، وتأثيره يتركز على "السكان الأكثر عرضة للمخاطر". ومن هم الأكثر عرضة لمخاطر داء فتّاك مصدره الأغذية غير الفقراء وقليلي الحظ في التعليم وفرص الحياة النظيفة!

لا شيء يعني قادة الحرب

في الوضع الراهن للبلاد، تأتي الحرب، المستمرة للعام الثامن على التوالي، في طليعة الأسباب التي تحوّل الآلاف من السكان إلى قائمة الأشخاص ذوي الإعاقة، وإذا لم يكن هناك ضرورة لإيقاف الحرب غير هذا لكفى. ثم هناك الأمراض التي تصيب الأجنّة في بطون أمهاتهم، وسوء التغذية والأمراض المسببة للإعاقة المنتقلة جينيًّا للأطفال؛ إنها أم الكوارث، وهي مع أسف شديد، لا تعني قادة الحرب وأساطين الفساد بأي حال، لأنها لو كانت تعنيهم أو يفكرون بأسبابها، لأوقفوا الحرب فورًا، ووجهوا أولوياتهم إلى المستشفيات ومراكز رعاية الحوامل والأشخاص ذوي الإعاقة. سُدس سكان اليمن يعانون من الإعاقة الجسدية، ناهيك عن الحالات غير المرصودة بسبب قصور آليات الإحصاء أو صعوبة وصول باحثي الرصد الميداني إليهم. هل هناك برامج ميدانية أساسًا مكرّسة لرصد الأشخاص ذوي الإعاقة وأحوالهم! 15% هو إجمالي ما فقده الاتحاد السوفيتي من سكّانه في الحرب العالمية الثانية، وباحتساب عدد سكان اليمن التقديري (30 مليون نسمة حاليًّا)، فإن نسبة 15% من سكان اليمن لا تقل عن أربعة ملايين و500 ألف شخص! كل فرد من هؤلاء لديه عائلة معذّبة كحال عائلة الحاج أحمد الحاجبي. إن علامات الفقر والعذاب بادية في وجهه ونبرة صوته، على الرغم من تعفّفه وصبره ورضاه بقدره. أربعة أبناء أحالتهم جرثومة متخفّية إلى قائمة الأشخاص ذوي الإعاقة الكلية، وكم يعرف كل واحد منا من عائلات تعاني آلامًا مماثلة. أن يكون لدى أحدنا ابن واحد أو ابنة من ذوي الإعاقة، فذلك يعني أن تكرّس حياتك لفلذة كبدك المحكوم بهذا القدَر، وأن تنفق كل قرش تحصل عليه في علاجه، فكيف الحال بأربعة!

 هل حان وقت المقدمة؟

نعم؛ إنها قصة صغيرة وقد ألفت كتابة القصص كوجوه البسطاء في بلدي الجريح.

أردت القول إن الشوارع والأزقة طالما كانت تعبيرًا حيًّا عن واقع سكان المدن والبلدات، بمستويات معيشتهم المتفاوتة، بآلامهم وهمومهم، بأفراحهم وأحزانهم. صحيح أن البيوت تحتفظ بالجزء الأكبر من كل هذا، لكن كل من يخرج من بيته لا بدّ أن يحمل معه ما يدلّ عليه وعلى حاله، ولو في ملامح وجهه. غالبًا ما نهيم على وجوهنا عندما نخرج للاستعانة على آلامنا الخاصة وتقدمنا في العمر، بالمشي واستنشاق الهواء النظيف. وفي مدينة يختنق سكانها بحرب لا أُفق لها ولا أخلاق، وسلطة لا مبالية بكلِّ ما عدا الحرب، نمرّ على المآسي في الشوارع بعيون كأن عليها غشاوات الدهر. ومع ذلك، هناك من يلتقط ما يقوى قلبه على حمله من الأسى ويعبّر عنه في مواقع التواصل الاجتماعي التي سهّلت لكل شخص التعبير عمّا يخطر في ذهنه، هناك من يلتقط لحظات مبهجة، وهو ضروري لكي تستمر الحياة، وكم هو مبهج أن يستطيع المرء غرس فرح صغير في وجه يستبد به الحزن، خاصة في ظروف الحياة التي يعيشها بلدنا من أقصاه إلى أدناه. 

هناك لحظات تبدو كما لو أن يدًا بصيرة تقود أحدنا إليها. من منا لم يحدث له ذلك في بعض أيامه؟ 

اليوم هو الثلاثاء 22 فبراير/ شباط 2022؛ خرجت مبكّرًا للمشي وقضاء بعض الأعمال اليومية. توقفت عند مقهى وشربت كأس شاي بالحليب، وأمام الكراسي الخارجية، مرّ رجل ستّيني، بلحية مقصوصة بشفرة حلاقة من الجانبين على امتداد خديه. طلب مساعدة من مدير المقهى، بينما غضضت بصري عنه لأني أعتبر التسوّل إحدى العاهات التي نُكب بها مجتمعنا كريم النفس، وذهب الرجل إلى حال سبيله. بعدها خطر لي أن أتوجه أولًا إلى شارع الدائري وسط صنعاء لأشتري شتلة من نبات "الأُزّاب" بدلًا من التي أعاقتها جرعة سماد، كان البائع كريمًا في وضعها العام الماضي بناءً على طلب زبون بلا خبرة زراعية. 

هذه الشجرة العطرية التي تُسمى في صنعاء "بردقوش"، تذكرني بأمي ومشتلها الصغير الذي كانت تعتني بتوجيه مزاريب سقف البيت إليه قبل حلول موسم الأمطار في فصل الربيع. وفي محل الشتلات، رأيت نبتة "شذاب"، الذي صارت تفضله أكثر من البردقوش. تداعت الذاكرة العجيبة إلى معلومة قرأتها في كتاب تاريخي، تفيد بأن نبتة "الشذاب" كانت إحدى النباتات التي استخدمها اليمنيون القدامى في معالجة بعض الأمراض، ولطرد الأرواح الشريرة، خاصة من حول الأطفال حديثي الولادة. وجدت نبتات أخرى أعجبتني وأردت اقتناءها، لكني قرّرت تأجيل ذلك والاكتفاء بتصويرها.

استجاب الأب للرد على الأسئلة الخجولة التي وجّهتها له، وأذن لي بنشر رقم هاتفه، وها أنا أضعه في السطر الأخير من هذه القصة، مع رجاء شديد بألّا يسيء أحد استخدامه أو استغلال مأساة الرجل

عندما أدخلت يدي إلى الجيب لأخرج الهاتف والتقاط صور للشتلات التي لن أشتريها، تفاجأت بأني نسيته في البيت، وهذا يحدث معي أحيانًا، لكن ليس غالبًا. أخذت الشتلة وقد صارت في حوض جديد، وتوجهت نحو شارع "الرّقّاص" لكي أطيل مسافة المشي، وعندما وصلت أمام محطة الوقود الشهيرة في نفس الشارع، ترددت في السير على طول الشارع أم أنعطف يسارًا نحو الشارع الذي لا يحمل اسمًا متداولًا ويقع بين شارعَي "الدائري" و"هائل". قادتني قدماي إليه، وبعد قرابة خمسين مترًا، رأيت شابًّا يمشي على يديه ورجليه. كان يزحف بضع خطوات ويتوقف، صارخًا بكلمة غير واضحة، لكن نبرة الصوت تفيد بأنه ينادي شخصًا ما. كان ذلك "عابد"، أصغر الإخوة الذكور الذين فتكت بهم الجرثومة وهم في بطن أمهم. وعلى بعد عشرة أمتار، رأيت "حسن"، وبعده بقليل، رأيت أباهم يدفع الكرسيّ المدولب الذي تكومتْ فيه أختهم "كفاية".

عندما تمرّ بجانب شخص تفوق معاناته قدرتك على المساعدة، فمن العيب أن تمعن النظر إليه، لذلك تسارعت خطاي. غير أنّي شعرت بثقل الخطوات بعد أن اجتزت سيارة واقفة قرب الرصيف القصير. كان ناشر -الأخ الرابع- خلف تلك السيارة، واقفًا على يديه وينظر من بين رجليه إلى الخلف بانتظار أن يظهر أبوه وأخواه. واصلت سيري كما لو أن ثقّالتين مربوطتان على قدميّ، وانسحبت نحو درَج السيراميك الرابطة بين عمارة رخامية حديثة البناء وبين الرصيف، وجلست. ما الذي بمقدوري أن أفعله لأجل هؤلاء؟ سألت نفسي، ولعنت الحرب والفقر وكل ما أوصلنا إلى هذا الحال.

في غضون الدقائق القليلة التي استغرقها الحاج أحمد وأولاده للوصول قبالتي، فكّرت بالملف الذي استنفرت "خيوط" لإعداده من أجل الأشخاص ذوي الإعاقة، وهو الملف الذي بدأت نشره منذ يوم الجمعة الماضي. تذكرت إبراهيم الذي علّق البارحة على منشور في صفحتي الشخصية على "فيسبوك"، متمنّيًا أن يحظى ذوو الإعاقة بحضور متناسب مع معاناتهم في القصص التي أكتبها، والوعد الذي قطعته في ردّي على تعليقه، بأن أخصص لهم مجموعة قصصية كاملة. هل بعد كل هذا أتردّد في الحديث إلى هذا الأب الصالح، وأحتار في نوع المساعدة التي أستطيع تقديمها له! تجرأت وتقدمت منه، وأخبرته بعد إبداء التعاطف الإنساني اللائق، بأني أستطيع فقط، الكتابة عن محنته. قال: "جزاك الله خير"، واستجاب للرد على الأسئلة الخجولة التي وجّهتها له. 

أخيرًا، يبقى أن أشير إلى أنّ الذهن الصحفي فكّر حينها بأن هذه القصة قد تحتاج لصورة من أجل نشرها، لكنه سرعان ما انتبه لمعنى نسيان الهاتف في البيت قبل الخروج. كما لا بدّ من الإشارة إلى أنه في اللحظة التي كان فيها ذلك الحديث على وشك الانتهاء، اقترب منا رجل ستيني بلحية مقصوصة من الجانبين على امتداد خديه، وطلب مني عرض حالته أيضًا. ما الذي جاء به إلى نفس المكان الذي أتواجد فيه بعد قرابة ثلاث ساعات من رؤيته في المقهى! سألت نفسي، ثم سألته عن مشكلته؛ اسمه أحمد الشلّي ولديه ضمور في شبكية العينين بنسبة 95%، وبالكاد يتلمّس طريقه بعصاه الخشبية الداكنة.



إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English