في 9 فبراير 1977م، أعلن الرئيس إبراهيم محمد الحمدي مشروع تأسيس المؤتمر الشعبي ككيان جامع يضم مختلف فئات الشعب اليمني، ويغدو تنظيمًا للشعب لا للسلطة، وهذا ما أوضحه الرئيس الحمدي بقوله: "دعوتنا للمؤتمر الشعبي واضحة المعالم، هي عودة إلى الشعب واستفتاء رأيه فيما تم، وتلمس رغبته فيما يجب أن يتم".
لكن الذي تم هو اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي في 11 أكتوبر 1977م، ثم اختطاف مشروع "المؤتمر الشعبي" وحرف اتجاه بوصلته من تنظيم للمحكومين إلى حزب للحاكم بأمر نفسه، حيث أعلن الرئيس السابق علي عبدالله صالح تأسيسَ المؤتمر الشعبي العام في 24 أغسطس 1982م، كحزب شمولي قبل أن يتم السماح بالتعددية السياسية عقب إعلان تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م، لينتقل المؤتمر الشعبي العام من شمولية الحزب الواحد إلى الشراكة الثنائية "المتشاكسة" مع الحزب الاشتراكي اليمني، لفترة ثلاث سنوات، حتى جاءت أول انتخابات نيابية في العام 1993م، لتعلن عن حكومة ائتلاف ثلاثي بين أحزاب المؤتمر والاشتراكي والإصلاح، لكنها لم تدُم طويلًا فسرعان ما اندلعت حرب صيف 1994م، والتي أعقبتها شراكة ثنائية جديدة بين المؤتمر الشعبي العام وحليفه القديم الجديد "التجمع اليمني للإصلاح".
وتحول المؤتمر الشعبي العام من تنظيم إبراهيم الحمدي إلى حزب علي عبدالله صالح وحزب قيادات الدولة وحزب المشايخ والقبائل وحزب الإخوان المسلمين وحزب الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر قبل عام 1990م، وحزب حسين بدرالدين الحوثي قبل إنشاء حركة الشباب المؤمن بدعم وتمويل من علي عبدالله صالح رئيس المؤتمر الشعبي العام.
لقد كان المؤتمر الشعبي يمثل حزب الأحزاب اليمينية وحتى اليسارية، بما يتمتع به من جاذبية مالية وامتيازات جهوية يمنحها لمن يمحضونه الولاء وييممون شطرهم نحوه بعد انشقاقهم عن أحزابهم قسرًا أو طواعية، وكان يطلق على المؤتمر بأنه (حزب الخزينة والوظيفة).
استمر التحالف الثنائي بين حزبي المؤتمر والإصلاح حتى انتخابات العام 1997م، عندما أعلن رئيس المؤتمر علي عبدالله صالح فض الشراكة الثنائية وتفرده بالحكم، وبدأت الحرب الباردة بين الحليفين، بلغت ذروتها عام 2002م عندما قررت الحكومة إلغاء المعاهد العلمية وإدماجها ضمن وزارة التربية والتعليم، وحينها أدرك حزب الإصلاح بأنه بلغ مرحلة الفطام السياسي، وكان ذلك دافعًا أساسيًّا لموافقة حزب الإصلاح على تشكيل تكتل حقيقي لأحزاب المعارضة، وتم إنشاء تكتل اللقاء المشترك في 6 فبراير 2003م، ويضم 7 أحزاب معارضة، هي: الإصلاح والاشتراكي والتنظيم الناصري والبعث العربي "القومي" واتحاد القوى الشعبية، والتنظيم السبتمبري الديمقراطي.
وكانت هذه تجربة فارقة في تاريخ الحياة السياسية اليمنية، فبالرغم من حداثة عمرها ومحدودية تأثيرها وحجم التباينات بين مكوناتها، استطاعت أن تجرد الحاكم من أهم حبائله وأدواته التي كان يتكئ عليها في بقائه على سدة الحكم، وهي إشعال فتيل الصراعات البينية داخل المكونات الحزبية والمجتمعية، وفق سياسة "فرّق تسُد".
وبمجرد أن اتفقت هذه الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية (السنية) والإسلامية (الشيعية) انكشفت سوْءَة الحاكم وسقطت ورقة التوت التي كان يتدثر بها.
وهذا ما أثبتته الانتخابات الرئاسية عام 2006م -أي بعد ثلاث سنوات من تشكيل اللقاء المشترك- والتي فاز فيها مرشح المعارضة فيصل بن شملان، حسب اعتراف الفريق علي محسن الأحمر، الذي كان يطلق عليه (الأخ غير الشقيق للرئيس صالح) لشدة قربه منه، والذي أكّد أنّ نتائج الانتخابات كانت لصالح ابن شملان، لكن الرئيس صالح قال بأن الكمبيوتر أخطأ، وهدد باستخدام الطائرات لقصف مناوئيه، ثم أعلنت لجنة الانتخابات فوز صالح.
ولعل هذا ما يفسر موقف المرشح فيصل بن شملان الذي رفض الاعتراف بالنتائج المعلنة للانتخابات، وأصر بشدة على عدم مباركته لصالح وتهنئته بالفوز رغم توسلات بعض قيادات أحزاب المعارضة له.
وكانت انتخابات 2006، البذرة الأولى للتداول السلمي للسلطة، وفتحت بصيص أمل في نفق الاستبداد واحتكار الحكم، وشكّلت بداية العد التنازلي لأفول الحزب الحاكم ورئيسه الصالح حتى تاريخ 27 فبراير 2012م، يوم تسليمه للسلطة عقب ثورة 11 فبراير 2011م التي أطاحت بحكمه.
ومثلما كان المؤتمر الشعبي حاصل ضرب خمسة أحزاب، فقد بات اليوم قابلًا القسمة على خمسة أجنحة متفرعة عنه، هي مؤتمر صنعاء بقيادة صادق أمين أبو راس، ومؤتمر أحمد علي عبدالله (مؤتمر أبوظبي والقاهرة)، ومؤتمر طارق صالح (مؤتمر الساحل الغربي)، ومؤتمر رشاد العليمي والبركاني (مؤتمر تعز)، ومؤتمر أحمد الميسري وعبد ربه منصور (مؤتمر الجنوب).
وتخلى رئيس المؤتمر (شكليًّا) عن كرسي السلطة، لكنه لم يتخلَّ عن عاداته القديمة، إذ حاول استخدام جماعة الحوثي لضرب حليفه اللدود وخصمه الألد (حزب الإصلاح) منقادًا لسلطة غضبه وجموح رغبته في الانتقام، الذي أدى إلى هدم المعبد فوق رأسَي الصالح والإصلاح معًا.
حيث غادر الإصلاح العاصمة صنعاء، وغادر صالح الحياة الدنيا إثر أحداث ديسمبر 2017م، على يد الحوثيين، وغادر المؤتمر الشعبي العام واحديته.
ومثلما كان المؤتمر الشعبي حاصل ضرب خمسة أحزاب، فقد بات اليوم قابلًا القسمة على خمسة أجنحة متفرعة عنه، هي مؤتمر صنعاء بقيادة صادق أمين أبو راس، ومؤتمر أحمد علي عبدالله (مؤتمر أبوظبي والقاهرة)، ومؤتمر طارق صالح (مؤتمر الساحل الغربي)، ومؤتمر رشاد العليمي والبركاني (مؤتمر تعز)، ومؤتمر أحمد الميسري وعبد ربه منصور (مؤتمر الجنوب).
وربما نسمع قادمًا جناحًا سادسًا؛ مؤتمر المحايدين بقيادة أحمد الكحلاني وأبوبكر القربي.
كما قد يحدث صراعٌ داخلي مستقبلًا بين أحمد علي عبدالله وطارق صالح الذي يجمع بين قيادتي العمل العسكري (القوات المشتركة) والعمل السياسي (المكتب السياسي للمقاومة الوطنية) ويضم العشرات من قيادات المؤتمر وكتلته البرلمانية.
وهذا يؤشر على وجود صراع خفي وغير معلن بين أحمد علي وطارق صالح الذي يأبى أن يكون مجرد ذراع عسكري لنجل عمه.
ورغم أنّ المؤتمر الشعبي اليوم يتربع على سدة مجلس القيادة الرئاسي ويمتلك الأغلبية في المجلس، وفي الحكومة، وفي البرلمان، فإنها مجرد أغلبية رقمية غثائية منزوعة القرار ومسلوبة الإرادة، ومجزأة الرأي، وكل جزء منكفئ على ذاته وأذوائه ومشروعه الصغير، وينأى عن المشروع الكبير للبلد الواحد أو حتى للحزب الواحد.
هذه التفرعات المؤتمرية لم تكن مجرد تكتيك سياسي أو توزيع أدوار بما تقتضيه المرحلة المتشظية، بل انقسامات حقيقية تعززها قرارات تنظيمية متبادلة بفصل قيادات وازنة في الحزب، وتؤكدها اتهامات بينية من العيار الثقيل إلى درجة أنّ قيادة مؤتمر صنعاء تصف في بيان رسمي (في يناير 2023) قيادة مؤتمر الخارج بالخيانة وبيع أنفسهم لأعداء اليمن، وأنها تؤدي دور الدمية في خدمة ما تصفه بالعدوان.
في المقابل، ينبري الأمين العام المساعد لمؤتمر الخارج سلطان البركاني، للرد على قيادة مؤتمر صنعاء، ويصفها بالمولى الآبق لسيده، والمتآمر على قتله، في إشارة إلى مقتل الرئيس السابق صالح.
صفوة القول؛ إن حزب المؤتمر الشعبي العام كغيره من الأحزاب السياسية اليمنية التي تأثرت بمجريات الحرب الدائرة منذ سنوات ثمان، والتي طالت كل شيء في البلاد بما فيها الأحزاب السياسية التي أفقدتها الحرب وظائفها السياسية والثقافية والفكرية وأدواتها السلمية، وتحول رجال السياسة إلى أمراء حرب وقادة فصائل مسلحة، يؤمنون بسياسة القوة بدلًا عن قوة السياسة.
ولهذا لم تعد هذه الأحزاب صالحة للاستعمال السياسي.