منذ انسحاب العثمانيين من اليمن عام 1918م؛ بسبب اشتداد المقاومة الوطنية لحكم الأتراك في البلاد، وعلى إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى- تولى حكم اليمن في الشمال الأئمة من أسرة حميد الدين. وقد اتسم النظام الذي أقاموه تحت مسمى (المملكة المتوكلية اليمنية) بالاستبداد، واحتكار السلطة بيد شخص الإمام، والعزلة المحكمة عن العصر، ومعاداة التحديث والتقدم والعلم، وخنق المعارضة، ورفض كل محاولة لتأسيس دولة حديثة تواجه مستجدات الحياة؛ ما أوقع البلاد في وضع اجتماعي وسياسي واقتصادي متخلف.
وقد شهدت اليمن عدة محاولات للتخلص من هذا النظام المتحجر الغشوم، وكان من أبرزها ثورة 1948م التي استهدفت تأسيس نظام دستوري، وحركة 1955 بقيادة الشهيد أحمد الثلايا، وكان أعظمها وأكثرها نجاحًا ثورة 26 سبتمبر 1962م التي قضت على الحكم الملكي الإمامي نهائيًّا، وأسّست أول نظام جمهوري شعبي في البلاد، وقد قاد الثورة (تنظيم الضبّاط الأحرار) الذي تأسس بصورة سرية في ديسمبر 1961م، والمكون من مجموعة من ضبّاط الجيش المثقفين، وعاونته عناصر كثيرة من المثقفين المدنيين، وصغار المشايخ، والطلبة، والموظفين، وعناصر من حركة الأحرار اليمنيين التي قادت حركة المعارضة للحكم الإمامي منذ نهايات الثلاثينيات من هذا القرن.
وكانت الثورة ذات هوية ديمقراطية وطنية وتقدمية برزت من خلال أهدافها التي أعلنتها فور قيامها، والمكونة من الأهداف الستة التالية:
ثم جاء البيان الأول للثورة؛ ليجلي الهوية السياسية بشكل أوضح، فتضمن ما يلي:
بسم الله، ثم باسم الشعب اليمني الحرّ المستقل، وباسم الجمهورية العربية اليمنية، تعلن قيادة الثورة أهدافها وسياستها العامة في المجال الداخلي، والمجال القومي، والمجال الدولي، وأهداف الثورة هي:
أ- إحياء الشريعة الإسلامية الصحيحة بعد أن أماتها الحكّام الطغاة الفاسدون، وإزالة البغضاء والأحقاد والتفرقة السلالية والمذهبية.
ب- تنظيم جماهير الشعب في تنظيم شعبي موحد يشارك في عملية البناء الثوري، ويمكنها من مراقبة أجهزة الدولة مراقبة تامة يمنعها من الانحراف عن أهداف الثورة.
ج- رعاية الجيش وتنظيمه على أساس حديث يصبح قوة لحماية الشعب، وحماية الثورة.
د- إحداث ثورة ثقافية وتعليمية تقضي على مخلفات العهود البائدة التي عمّقت الجهل والتأخّر الفكري.
هـ- تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق نظام اجتماعي يتلاءم مع واقع شعبنا، ومع روح الشريعة الإسلامية والتقاليد الوطنية الصالحة.
و- تشجيع رأس المال الوطني على ألا يتحول إلى احتكارات واستغلال، ويحول دون سيطرة الدولة وتوجيهها لقدرات البلاد الاقتصادية.
ز- تشجيع عودة المهاجرين إلى الداخل، والاستفادة من خبراتهم وأموالهم.
ج- العمل على تدعيم الجامعة العربية، وزيادة فعاليتها لمصالح الأمة العربية.
د- إنشاء علاقات اقتصادية مع جميع الدول العربية بلا استثناء.
هـ- إيجاد روابط أوثق مع الدول العربية المتحررة لتحقيق الوحدة العربية.
ج- التقيد بميثاق هيئة الأمم المتحدة، وتأييد مواقفها من أجل السلام.
د- إقامة علاقة ودية مع جميع الدول التي تحترم استقلالنا وحريتنا.
هـ- قبول الإعانات والقروض الخارجية غير المشروطة والتي لا تمس استقلال البلاد.
لأول مرة تلقى الثورة ضد الإمامة تجاوبًا شعبيًّا عارمًا، فقد سارعت جماهير عريضة لتأييد النظام الجديد من مختلف أرجاء البلاد، ومن فئات الطلبة، والعمّال، والمشايخ، والعلماء، والتجار، والزعماء السياسيين لحركة الأحرار؛ فتوافد على صنعاء أحرار اليمن من الخارج، وجموع من مشايخ البلاد.
ومن الواضح أنّ الثورة هي هذه الإعلانات الأولى لاندلاعها التي قد حددت بشكل واضح خياراتها العامة على مستويات ثلاثة:
وبحسب أصدق الروايات لضباط الثورة، فقد كان المفترض أن يقود الثورة الزعيم حمود الجائفي، باعتباره من أبرز ضبّاط الجيش آنذاك، لكنه اعتذر عن ذلك؛ بحجة عدم توافر الظروف الموضوعية المناسبة للثورة، بخاصة وجود الحسن ابن الإمام يحيى الطامح في الإمامة خارج البلاد؛ فكان اختيار الزعيم عبدالله السلال قائدًا للثورة، والذي قبل المخاطرة عندما عرضها عليه مبعوث الضبّاط الأحرار القاضي عبدالسلام صبرة دون تردد. وفي اليوم الأول لثورة 26 سبتمبر 1962م، تم تشكيل مجلس قيادة الثورة بزعامة السلال، وعضوية حمود الجائفي، والنقيب عبداللطيف ضيف الله، والنقيب عبدالله جزيلان، والملازمين علي عبدالمغني، وسعد الأشول، وأحمد الرحومي، وصالح الرحبي، ومحمد مفرح.
ولأول مرة تلقى الثورة ضد الإمامة تجاوبًا شعبيًّا عارمًا، فقد سارعت جماهير عريضة لتأييد النظام الجديد من مختلف أرجاء البلاد، ومن فئات الطلبة، والعمّال، والمشايخ، والعلماء، والتجار، والزعماء السياسيين لحركة الأحرار؛ فتوافد على صنعاء أحرار اليمن من الخارج، وجموعٌ من مشايخ البلاد.
وفي الأسبوع الأول من أكتوبر 1962م، أعلنت الثورة تشكيل الحرس الوطني؛ فانخرط فيه عشرات الآلاف من شباب اليمن في شماله وجنوبه.
وعلى الصعيد القومي والدولي، رحبت الكثير من الدول بالجمهورية الفتية، فاعترفت بها الجمهورية المتحدة في 29 سبتمبر 1962م، ثم الاتحاد السوفيتي في أكتوبر 1962م، ثم توالت الاعترافات من الجزائر، وسوريا، وتونس، والعراق، ولم ينتصف شهر نوفمبر إلا وقد اعترفت باليمن أكثر من خمس وثلاثين دولة، وقبل مندوبها في الأمم المتحدة في 20 ديسمبر 1962م، كما أنّ الولايات المتحدة لم تلبث أن اعترفت بالنظام الجمهوري في 19 ديسمبر 1962م، ومعها كندا، وأستراليا، ورفضت السعودية، والأردن، وإيران، وبريطانيا، وفرنسا، الاعتراف بالنظام الجديد.
احتاجت الثورة إلى مزيد من الدعم العسكري المصري، ولم يبخل عبدالناصر بذلك؛ إذ زاد من إرسال القوات المصرية إلى اليمن، حتى بلغ حجمها نحو سبعين ألف جندي، وتشكّلت في صنعاء قيادة مصرية لهذه القوات موازية ومتكاملة مع جيش الثورة، وتمكّنت الثورة من الصمود ببسالة خارقة.
ولم تلبث الدولة أن واجهت خصومًا محليّين وإقليميين ودوليين كثيرين، فأعلن الحسن ابن الإمام يحيى عودته من الولايات المتحدة إلى السعودية، وفي 5 أكتوبر 1962 نصّب نفسه إمامًا لليمن بدلًا من البدر المخلوع، وشكّل حكومة في المنفى.
وفي 13 أكتوبر 1962م، ظهر البدر محمد في السعودية، وأعلن بعدها تنازل الحسن لابن أخيه البدر بالإمامة، وحشدت السعودية قوات مسلحة على طول الحدود مع اليمن؛ استعدادًا لدعم البدر في استعادة عرشه. وفي المقابل، وقفت الجمهورية العربية المتحدة إلى جانب حكومة الثورة، وبدأت مساعدتها العسكرية لمواجهة التآمرات السعودية البريطانية؛ فوصلت إلى الحديدة طلائع من القوات المصرية في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 1962م، ثم ازداد الدعم العسكري المصري في بداية نوفمبر 1962م، وكان هناك من القوات المصرية نحو ثمانية آلاف جندي يعسكرون في المدن الرئيسية للبلاد: صنعاء، تعز، الحديدة، وتكاثف الدعم السعودي من الشمال، ومن شرق الشمال، والبريطاني من الجنوب والشرق لفلول الملكيين، وبدا أن الثورة في مواجهة معركة طويلة وشرسة؛ لكي تثبت أقدامها في اليمن، وهو ما حدث بالفعل؛ فقد أشعل خصوم الثورة حربًا شرسة اشتد أوارها في عام 1963م، حيث بدت حكومة الثورة في مواجهة نحو أربعين جبهة، قوامها بقايا أسرة حميد الدين، وأعوان لهم من الداخل، ومجموعة كبيرة من المرتزقة الأجانب المجلوبين من الكونغو، وأوروبا، وبدعم هائل من المال والسلاح من السعودية، وبريطانيا، وإيران، والأردن، وألمانيا الغربية الاتحادية، ودول أخرى.
واحتاجت الثورة إلى مزيد من الدعم العسكري المصري، ولم يبخل عبدالناصر بذلك؛ إذ زاد من إرسال القوات المصرية إلى اليمن، حتى بلغ حجمها نحو سبعين ألف جندي، وتشكّلت في صنعاء قيادة مصرية لهذه القوات موازية ومتكاملة مع جيش الثورة، وتمكّنت الثورة من الصمود ببسالة خارقة، ولم تكن الحرب التي يشنها الملكيون هي المشكلة الوحيدة التي واجهت حكومة الثورة؛ فقد بدأت الخلافات تدب في صفوف الجمهوريين من فترة سابقة على مؤتمر عمران المنعقد في 1963م، ثم تصاعد بعد مؤتمر خمر الذي أسمي (مؤتمر السلام)، وعُقد في (2-5) مايو 1965م، وحضره خمسة آلاف شخص، ورأسه القاضي عبدالرحمن الإرياني، واتجه المؤتمِرون إلى مهادنة الملكيين، ومعارضة سياسة المواجهة التي تنتهجها حكومة السلال، وقد عيّن المؤتمر لجنة خماسية للاتصال بالملكيين، وقرر إرسال وفود إلى الدول العربية للتعاون معها على إنهاء الحرب في اليمن، وغادرت اللجنة صنعاء فعلًا في 25 مايو 1965م، وعلى رأسها القاضي عبدالرحمن الإرياني، والأستاذ محسن العيني، وتطور الانشقاق في الصف الجمهوري بوصول وفد من عناصر جمهورية إلى عدن في يوليو 1965م، ومناشدته للأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية بضرورة انسحاب القوات المصرية، وما لبث أن اتجه الوفد للقاء بالملكيين في السعودية، وعقدوا مؤتمرًا في الطائف في أغسطس 1965م، وخلالها أعلن جمال عبدالناصر مبادرته بالذهاب إلى السعودية، واستعداد مصر لحل مشكلة الحرب في اليمن، ووقع مع الملك فيصل في جدة اتفاقية تضمّنت قبول مصر سحب قواتها من اليمن، وقبول السعودية قطع المساعدات عن الملكيين، ودعوة اليمنيين إلى مؤتمر مصالحة يعقد في حرض خلال نوفمبر 1965م. وفي 23 نوفمبر بدأت أعمال المؤتمر، لكنه فشل في بدايته؛ فقد تشبث الوفد الجمهوري برئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني بالنظام الجمهوري بصورة مطلقة، وعدم المساومة بشأنه، وعادت السعودية في ظل وقف إطلاق النار الذي مهّد للمؤتمر إلى تكثيف مساعداتها للملكيين؛ فتجددت المعارك العسكرية؛ ما حمل عبدالناصر إلى إعلان سياسة (النفس الطويل)، ثم سياسة إعادة توزيع القوات على معظم أجزاء البلاد، وتمكّن المصريون واليمنيون من ضرب معقل البدر في (قارة)، ثم إخراجه منه ليتمركز في (شدا)، واستعادت القوات الجمهورية مناطق كثيرة من ضمنها: برَط، ومارب، وحريب في 1966م.
لقد كان المشروع السياسي والاجتماعي للثورة طموحًا بالقياس إلى المعطيات التي أفرزها الواقع، فلم يكن من السهل إقامة نظام ديمقراطي مضمونه الاجتماعي جذري يعتمد إزالة الفوارق بين الطبقات، وإقامة العدالة الاجتماعية؛ لذلك ليس من السهل القول إن الثورة حقّقت كامل أهدافها، لكن مع ذلك؛ فإن الثورة قلبت أوضاع البلاد بشكل جذري.
ومع هزيمة يونيو 1967م، بدأ عبدالناصر يفكر جديًّا في سحب الجيش المصري من اليمن؛ ولذلك أعلنت مصر في مؤتمر وزراء الخارجية العرب المنعقد في الخرطوم أغسطس 1967م -اقتراحها بإعادة إحياء اتفاقية جدة عام 1965م، وفي مؤتمر القمة (29 أغسطس - 1 سبتمبر 1967م) وافقت مصر والسعودية على اتفاقية الخرطوم التي تقضي بسحب القوات المصرية، ابتداءً من 15 أكتوبر، لتنتهي في نهاية ديسمبر 1967، وتشكيل لجنة ثلاثية، وأنهى الجانبان مساعدتهما المباشرة لليمن، غير أنّ السلال أعلن رفضه للاتفاقية، وعند وصول اللجنة الثلاثية في 3 أكتوبر 1967م، جوبهت بمظاهرة عنيفة في صنعاء؛ فعادت اللجنة إلى القاهرة في الحال غير أنّ الانسحاب المصري بدأ بالفعل وتواصل.
وقد وفر ذلك إغراء بلا حدود للملكيين كي ينقضّوا على النظام الجمهوري، وبدأ السلال يستعد لتطوير القدرة القتالية للجيش، وكان قد أرسل نائبه عبدالله جزيلان إلى موسكو على رأس وفد كبير بغرض الحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية مباشرة، ثم عزم على السفر إلى موسكو بنفسه؛ لاستعجال إرسال المعونات العسكرية السوفيتية التي اتفق عليها مع جزيلان، ولكن حدث انقلاب 5 نوفمبر 1967م، بقيادة القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي أقصى السلال من الحكم، وشكّل مجلسًا جمهوريًّا من ثلاثة أشخاص، وكانت الاستعدادات الملكية جارية على قدم وساق بهدف محاصرة صنعاء، وحسب إعلانات الجانب الملكي نفسه حشدوا لذلك (5000) جندي مدرب، ونحو (50000) من القبائل، ويدعمهم نحو ثلاث مئة من الضباط المرتزقة الأجانب، وبدأ الحصار على صنعاء باحتلال الجبال المحيطة بها مع نهاية نوفمبر 1967م، ولم يكن بصنعاء أكثر من 3000 جندي من الجيش، وسارع الاتحاد السوفيتي بإرسال مساعداته من الطائرة والعتاد العسكري، وواجهت صنعاء الحصار لسبعين يومًا بصمود باسل عماده الجيش، والمقاومة الشعبية، والقبائل، وتم للجمهورية إنهاء الحصار، ودحر الملكيين في هزيمة عسكرية ماحقة، وكان ذلك إيذانًا بأن الثورة وجدت لتبقى، وأنه يستحيل إنهاء النظام الجمهوري عسكريًّا، وأنّ مستقبل الملكية في اليمن أغلق إلى الأبد. ومن المؤكّد أنّ القوات المصرية كان لها الدور الرئيسي في صمود النظام الجمهوري، واستمرار الثورة، إلا أنّ الانتصار الذي حقّقته الثورة في حصار السبعين قد أبان أنّ الثورة تملك من القوة الذاتية ما يكفل لها الاستمرار، وأنّها خيار شعبي عام غير قابل للتراجع، ولقد قيل الكثير عن تأثير مصر ودورها في تفجير الثورة، ولكن لا يمكن الجدل بأنها في التحليل الأخير ثورة يمنية أصيلة، وسيلةً وهدفًا، ولا شك في تأثير ثورة يوليو 1952 المصرية، لكن ذلك لا يتعدى الإطار القومي العام الذي كان يضمّ معظم حركات التحرر العربي بما فيها الثورة اليمنية، والنظرة الفاحصة لأهداف ومبادئ الثورة اليمنية تكشف بسهولة الطابع اليمني الخاص بها، فلا يمكن القول إن أهداف الثورة الستة مجرد صدى لأهداف ثورة يوليو الستة.
لقد كان المشروع السياسي والاجتماعي للثورة طموحًا بالقياس إلى المعطيات التي أفرزها الواقع، فلم يكن من السهل إقامة نظام ديمقراطي مضمونه الاجتماعي جذري يعتمد إزالة الفوارق بين الطبقات، وإقامة العدالة الاجتماعية؛ لذلك ليس من السهل القول إنّ الثورة حقّقت كامل أهدافها، لكن مع ذلك؛ فإنّ الثورة قلبت أوضاع البلاد بشكل جذري، لعل أهم نتائجها هي:
____________________
(*) الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، الطبعة الثانية، 2003.