لقد نكأَت "خيوط" الجراح التي امتلأت بقلبي حول هذه الذكرى، حينما طلبَت مني أن أكتب مقالًا بمناسبة مرور 33 عامًا على عيد الوحدة اليمنية. والأسئلة التي يفرضها الوضع اليوم: هل حقًّا ما زال هذا اليوم عيدًا يثير الفرح والابتهاج؟ أم أنه تحول لمأتم كبير يستدعي مشاعر الألم والحزن والقهر، أم تحول لموضوع يثير الجدل والخلاف والاختلاف بين اليمنيّين ويقسمهم إلى شماليين وجنوبيين، بل ويعيدنا إلى ما دون المربع الأول، حينما كان هناك جنوب يمني. اليوم يتحدّث البعض عن جنوب عربيّ للنأي بنفسه مسافة ضوئية عن الهُوية اليمنية التي كانت بالأمس القريب تجمعنا.
من المتسبّب في ذلك؟ وهل ما زال أمل المعالجة والإصلاح متاحًا؟ أسئلة كثير وكبيرة، بالتأكيد لا يمكن الردّ عليها من خلال هذه السطور المتاحة، وفي هذه العجالة بعد أن تقادم عليها الزمن، ونخر فيها العفن، وأهملها من كانت بيده مقاليد الأمور، وحتى الدراسات المعمقة التي خاضت في الأسباب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لفشل الوحدة، لم تستطع أن تشخّص الداء، وتحلّل المعضلة، وتقدم ربما حلولًا ممكنة، ربما ليس لاستعادة دولة ما قبل مايو 1990، ولكن للحفاظ على اللُّحمة الوطنية والتآخي والمشاعر الوطنية والقومية التي كانت طَبعًا وسِمةً أصيلة في اليمنيّين، أينما كانوا شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا.
من المتسبّب في ذلك؟ الوحدة بحدّ ذاتها قوة، وعزة، وكانت أمل وحلم كل أبناء الوطن، ولكن كان الخطأ الجسيم يكمن في إدارة الوحدة بالعقلية العسكرية والأمنية والقبَلية التي أدار بها نظام صنعاء الجمهورية العربية اليمنية ثم الجمهورية اليمنية، وزاد الطين بلّة إجراءات ما بعد 7 يوليو 1994، حيث إنّ الزهو والنشوة بالانتصار، دعته إلى مزيد من الإجراءات التعسفية ضدّ أبناء الجنوب، والتي ما زالت تداعياتها وآثارها مستمرة حتى اليوم، وقد تداولت وسائل الإعلام خبر قرار رئيس المجلس الرئاسي د. رشاد العليمي، بتسوية أوضاع 52 ألفًا من المبعدين قسرًا عن وظائفهم، مدنيّين وعسكريّين، وما زال ملف تسوية أراضي الجنوب والممتلكات العامة المستولى عليها، مفتوحًا لم يسوَّ بعد.
الجراح عميقة وغائرة، وكأيّ يمنيّ في داخل الوطن أو خارجه، فالقلب فيه من الهموم والشجون ما يفيض عن قدرته على التحمل، ولكن -تحديدًا- موضوع الوحدة يحتل همنا الأكبر وخيبتنا الأقسى والأمرّ.
ماذا فعلنا بأنفسنا وبأحلامنا الجميلة وآمالنا العظيمة وقيمنا السامية والنبيلة حتى نصل إلى تمزيق الوطن، لا، بل تمزيق الحي الواحد والأسرة الواحدة ما بين شمالي أو جنوبي يتمسك بالوحدة، وجنوبي لا يرغب باستمرارها، وشماليّ سئم خطاب الجنوبي في تحميله كلّ أوزار ومثالب ما بعد 22 مايو 1990.
لم نكن كذلك من قبل، كنّا أكثر توادًّا ورحمة وحبًّا لبعضنا البعض، وأكثر تراحمًا وتعاطفًا، يفرّ الجنوبي من النظام الشمولي إلى الجمهورية العربية اليمنية، والتي لم يكن يسودها نظامٌ مثاليّ بالطبع، ولكن كان يتم الترحيب فيها بأبناء الجنوب، والذين كانوا أيضًا قد اتجهوا إليها في موجات متتالية بعد الاستقلال، ومنهم من استقرّ فيها وأنشأ أعماله الخاصة، عوضًا عن الأملاك والمصالح التي تم تأميمها في عام 1969، ومنهم من فرّ من التضيّيق على حرية السفر أو هربًا من التجنيد الإلزامي إلى الخارج، خاصة الشباب، وكانوا يعتبرونها محطة عبور إلى أرض الأحلام في الدول المجاورة، ليجدوا فرص عمل في أسواق مدن النفط الناهضة.
وكان الشماليّون الفارّون من جحيم النظام السياسي الذي خنق الحريات العامة ومنع حرية نشاط الأحزاب السياسية وضيق على المعارضين كانوا يجدون في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ملاذًا آمنًا ومناخًا متاحًا للعمل السياسي والنشاط الخيري والمدني.
لم يدُم (العرس الوحدوي) في مايو 1990، سوى أشهر قليلة حتى أدرك الجنوبيّون بأنّ هذه ليست الوحدة التي كانوا ينشدونها، ويتغنّى بها أبناؤهم في الطوابير الصباحية والمسائية المدرسية، وفي ساحات احتفالاتهم الوطنية وساحات تدريباتهم الأمنية والعسكرية "وحدتي وحدتي، يا نشيدًا رائعًا يملأ نفسي"، بل لقد تكدّرت أنفسهم، وانكسرت أفئدتهم وتعكّرت أمزجتهم قبل أن يجف حبر اتفاق الوحدة، ولم تنفع جهود المملكة الأردنية الهاشمية في يناير 1994، في رأب الصدع وإصلاح ذات البين بين شركاء الوحدة ولم تصمد كثيرًا وثيقة العهد والاتفاق؛ لأنّ شرارة حرب ما سُمّي بإعادة الوحدة، انطلقت بعدها بأسابيع قليلة.
اليوم، وبعد حرب أكثر من 8 سنوات، اليمن أمام وضع جديد غير مسبوق، لأنّنا لسنا مخيرين بين شمال وجنوب فحسب، بل ظهرت مشاريع أخرى تتحدّث عن مظالم شرق وغرب اليمن، وبالرغم من جهود إنقاذ ليس الوحدة فحسب، بل اليمن عامة، أرضًا وإنسانًا، استنادًا إلى الإجماع الوطني المتمثّل في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني ومشروع الدستور الجديد، ولكن وللأسف، فإنّ البندقية في الأخير ستفرض شروطها حينما يحين الوقت للجلوس على طاولة الحوار والمفاوضات، وما علينا كقوى مدنية في كل أرجاء الوطن سوى تحسين شروط ذلك الاتفاق، ليكون أكثر استجابة لقيم العدالة وحقوق الإنسان، وقيم المدنية والديمقراطية والحكم الرشيد، ولا يغض البصر أو يتجاهل حقوق ضحايا الحروب والصراعات الراهنة أو حتى السابقة، وإلّا فإنّنا سنكون أمام سلامٍ هشّ لن يصمد، وينذر بتكرار دورات العنف والصراع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ناشطة مدنية ووزيرة سابقة.