ما أن تكتب منتقدًا هذه الجهة أو تلك -وهو ما يضمنه لك القانون في أن تنتقد من هو مسؤول عنها- حتى تذهب العيون أولًا إلى من هو فلان الذي يدير الجهة، إلى أي فئة اجتماعية مذهبية ينتمي! يتم التأكد، عليك أن تجد نفسك في موضع اتهام "محاولة شيطنة الفئة الفلانية"، أنا هنا لا أبرر ولا أعتذر ولا أحاول إرضاء فلان أو علان، أنا أسلط الضوء على حالة تعاني منها المجتمعات الجاهلة، خاصة من تسقط الانتماء المذهبي أو الطائفي على كل مناشط الحياة.
إذا أنت قليل عقل، وتمنحها فرصةً لمن في رؤوسهم مرض، فتذهب إلى التبرير، وحتى إلى الاعتذار، فتثبتها تهمة يرتاح لها الطرف الآخر "هااا شفتوا، ألم أقل لكم إنه يقصدنا". هنا عليك أن تحمل قلمك وتستقيل من مهنة الكتابة.
كثيرون يتحولون بحكم العُقد الشخصية والانتماء المقدس، سواء أكان سياسيًّا أو مذهبيًّا أو دينيًّا، يتحولون إلى مراقبين يحصون عدد أنفاس الآخرين، لاعتقادهم أنهم منزهين، وأن مجرد انتمائهم إلى هذا الحزب أو ذاك، هذه الجماعة أو تلك، يعطيهم الحق في أن يقولوا لا، حيث يفترض أن تقال نعم، والعكس صحيح.
إلى اللحظة، ولأننا نفتقد أي تراكم معرفي في كل مجالات الحياة، ترانا لا نفرق بين ما هو وظيفي وبين ما هو إنساني.
وظيفي، يحق لك قانونًا أن تنقده بالدليل وبكل الطرق، وفي نفس اللحظة لا علاقة لشخصه كإنسان بنقدك ولا يجوز أن تتعرض أسرته إلى النقد، لأنها أسرته كموظف!
تكتب لتسلط الضوء على خطأ رسمي فظيع، فتجد وكلاء السماء ينبرون بنعتك بالخروج عن الدين، ووكلاء الأرض يرون أن ثمة انحرافًا في توجهك لا بد من تقييمه بالعصا، ولذلك تجد القلم الرسمي قد تحول إلى عصا "من كتب لبج"!!!
هنا نعيد التأكيد على أن التربية العامة والوطنية قد جرى إعدامهما جهارًا نهارًا، عمدًا ومع سبق الإصرار والترصد. جرى تمييع قيم، وإبدالها بكل ما هو مناقض للقيم الأخلاقية لأي مجتمع.
في بلدان الجهل تصير السفاهة محل احترام النفس، ويصير الانتماء لكل ما هو سيئ قيمة جديدة، يضفي عليها الحاكم بعدًا رسميًّا به يخيف الآخرين ويحولهم إلى مجرد "إمّعات" كل عملها هز الرؤوس والهتاف كلما رأت أن الحاكم في مأزق!
يا ويلك أن تضع قلمك على الورق، فعليك أن تتنبه إلى أن الشك عنوان العلاقات العامة في بلد يعود حثيثًا إلى الوراء بداعي الأصالة؛ لأن بعض الناس رأوا في سكنى الماضي حلًّا مثاليًّا لمسألة التقدم نحو المستقبل.
تكتب لتسلط الضوء على خطأ رسمي فظيع، فتجد وكلاء السماء ينبرون بنعتك بالخروج عن الدين، ووكلاء الأرض يرون أن ثمة انحرافًا في توجهك لا بد من تقييمه بالعصا، ولذلك تجد القلم الرسمي قد تحول إلى عصا "من كتب لبج".
خذ حكاية مسجد النهرين كمثل، فكثيرون -وهم المدافعون عن الغلط- يدافعون فقط؛ لأن فلان المسؤول ينتمي إلى الأسرة الفلانية، وهذا من وجهة نظرهم ما دعا الآخرين إلى استنكار ما جرى، وهو فعل خطأ، بل وخطأ فظيع، كشف أن ثمة مسؤولين لا يدركون معنى أن تكون صنعاء على قائمة التراث، استندوا إلى فتوى ومحضر عليهم أن يشربوه، ومن ثم قاموا بالهدم، لو أن المدافعين حثوا هؤلاء على احترام أنفسهم والبقاء في منازلهم، لكان أشرف لهم جميعًا!
في اليابان، عندما يُكتشف أن فلانًا سرق، ذلك الفلان لا يظهر على أسرته وعائلته؛ لأنه يكون مشغولًا بالبحث عن أفضل طرق الانتحار ليطهر أسرته وعائلته، حيث المجتمع ينظر إلى الفساد على أنه "خيانة"، هنا أيام ونسي الجميع الأمر حتى يهدم مبنى آخر!
وكلاء السماء والأرض هم من خربوا قيم هذه البلاد الإنسانية، وأفسدوا قيمًا عامة كانت بحكم المعرفة والتأثر بالآخرين قد بدأت تتشكل، لأنهم جاؤوا وما يمثلوه من باب تصفية الحساب، فيا ويلك أن تشير إلى أحدهم ليس لأنه موظف عام، بل أنه منزه بحكم الانتماء!
ثم يأتي الوكلاء بكل الأسانيد والحجج على نقمتك على أنك خائن، ومقصدك النيل ممن يعتبرون أنفسهم فوق الناس، وعندما تقول هدفي المصلحة العامة، يقال لك: لا، أنت تقوم بشيطنة هؤلاء!
ليس الأمر دفاعًا هنا على النفس، فقلمي وكل قلم حر لا يهاب وكلاء السماء والأرض، ومن يرى في نفسه ثمة خوفًا، فليرمِ قلمه ويعود إلى منزله.
الكتابة أمانة، ومن لا يريد أن يفهم فذلك حقه، ومن يوغل في الشك، فهو مجرد مريض لا بد من علاج مرضه. الصحيح في الأمر كله أن الموظف يحق له قانونًا أن ينقد وتحفظ كرامته الشخصية.
والقضاء يكون الفيصل. هذا في البلاد التي يكون للقضاء -كسلطة وليس وظيفة- كلمته واستقلاله، وحتى ذلك الوقت، علينا أن نعيد الحسبة من نقطة الصفر، فنحن أصلًا في لحظة تصفية الحساب.