تسود خيبة الأمل في الذكرى العاشرة لثورة 11 فبراير، حيث ينظر المرء إلى الأوضاع الجارية في البلد، ويتساءل ما إذا كان ضرر الثورة أكثر من نفعها. لقد تحول الجوع الذي احتجّ الناس عليه إلى شبه مجاعة، وانهارت مؤسسات الدولة، التي سعى الثوار لإصلاحها، وتفككت بشكل شبه كلي، وأصبح الرفاق الذين اتحدوا تحت راية الثورة يوجهون أسلحتهم ضد بعضهم بعضًا، مما أدى إلى تأجيج حرب عقيمة تسببت بأسوأ أزمة إنسانية في العالم.
يلقي الكثير من الناس باللوم على الثورة في المصير القاحل والقاتم الذي وصلت إليه البلد. بعضهم يزعم أن اليمن تمتعت باستقرار وأمن لا مثيل لهما في ظل نظام علي صالح الذي أطاحت به الثورة. والبعض الآخر يجادل أن الثورة لم تأتِ في وقتها المناسب، فالمجتمع كان بحاجة للنضج السياسي والفكري قبل أن تندلع شرارة الثورة. ومع ذلك، فإن هذا السرد لا يصمد أمام التدقيق الدقيق.
في الحقيقة، جزء كبير من الدمار والتشرذم الذي نراه اليوم لم يكن سوى نتيجة مخلفات حكم صالح الاستبدادي الذي استمر لعقود. لم تأتِ الثورة إلا لإزاحة الغشاء عن الظلم والفساد المدقع، وغياب الدولة في العديد من المناطق والذي كان سيتسبب بهلاك البلد عاجلًا أم آجلًا. ولكن، لن أتناول هذا الموضوع في هذا المقال. ما يثير اهتمامي هو النوع الثاني من الحجج، الذي يشترط قيام ثورة فكرية لنجاح الثورة السياسية ضد نظام الحكم، لا أتفق في الحقيقة مع هذا النوع من الحجج لسببين. أولًا لأنه يقيد الثورة في نموذج محدد ويحكم عليها بالفشل إن خالفته. وثانيًا لأنني أعتقد بأن هذا النوع من الحجج هو انهزامي بطبيعته ويحكم بحتمية فشل الثورة، مما قد يوفر فسحة للناس، للتوقف عن النضال وللتخاذل ولوم النتائج على الثورة. على العكس من ذلك، أعتقد أن الثورة قدمت لنا فتحات صغيرة قد تسمح لنا، إن واصلنا البناء عليها، بالوصول إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي خرج الثوار للمطالبة بها.
ثورة تقودها اللقمة لا الفكرة
لا يمكن إنكار أن ثورات الربيع العربي، بما في ذلك الثورة اليمنية، لم تكن مستوحاة من كتابات المفكرين السياسيين، كما كان الحال مع الثورة الفرنسية، التي كانت نتاج عصر التنوير إلى حد كبير. في الدول العربية، كانت لقمة الخبز والكرامة والظلم هو ما دفع الناس للنزول إلى الشوارع احتجاجًا على حكم الديكتاتوريات العربية. ولكن، افتقرت هذه الحركات الثورية، وخاصة الثورة اليمنية، إلى النضج السياسي والفكري، الذي كان كفيلًا بأن يجنب الثوار ارتكاب بعض الأخطاء الفادحة وتفويت الفرص المهمة.
التحدي أمامنا اليوم هو خلق الظروف الملائمة لدعم عملية الانتقال السياسي في اليمن، الذي سيتطلب الكثير من الصبر والشجاعة، خصوصًا عند مواجهة العصبوية والتطرف السياسي والديني الذي ساد في البلد
فبالرغم أن ساحة التغيير كانت مليئة بالشعارات التي تدعو إلى المساواة والحرية وقيام دولة مدنية عادلة، إلا أنه لم يكن هناك تصور واضح وكامل، وبذلك قبول حقيقي، لهذه القيم في الوعي الجمعي للمجتمع اليمني. في الواقع، لا يزال فهم المجتمع لهذه القيم قاصرًا حتى يومنا هذا. فمطالب المساواة التي كانت تصدح بها الساحات الثورية لم تترجم إلى تغيير في النظام الاجتماعي للمجتمع اليمني، حيث لا يزال أعضاء المجتمع، ومن ضمنهم العديد من الثوار، يساهمون، بطريقة أو بأخرى، في تكريس التقسيمات الطبقية بين الناس: سيد، قبيلي، مزيّن، خادم وغيرها. وبالمثل، تم تعريف مفهوم الحرية داخل الساحات بشكل ضيق للغاية فلم ينتشر قبول واسع لحرية الفرد مقابل حرية الجماعة، ولا لحرية المرأة مقابل حرية الرجل. وأيضًا، ما زالت جميع الأطراف السياسية، ومن ضمنها تلك التي انضمت للثورة، تفتقر إلى مشروع وطني حقيقي قادر على إخراج البلاد من معمعة الصراع المسلح حول السلطة.
هل يعني هذا أنه ما كان يجب أن تقوم الثورة حتى يصل المجتمع إلى مستوى معين من النضج السياسي والفكري؟ أعتقد أن الإجابة هي: لا؛ لسببين. أولًا، أي حجة تقول بأنه كان يجب على الثورة الانتظار حتى تحقق شروطًا معينة، هي حجة تقوم على افتراض أن الثورات مصممة هندسيًّا، وأن لها بالضرورة قيادة واضحة تقرر موعد انطلاقها. بالطبع، لا تنطبق هذه الافتراضات على الثورة اليمنية، أو على أي ثورة شعبية أخرى. وبالأحرى، فأن ثورة فبراير كانت فعلًا عفويًّا دفعته مظالم عميقة الجذور. فقد اكتسبت عجلة الثورة قوة دفعها الكبيرة من الظروف القاهرة التي مر بها الشعب، ولم تكن ستتوقف بسبب افتقارها إلى الأفكار التي من شأنها أن تساعد في تشكيل مسار الثورة لاحقًا. السبب الثاني هو أن البيئة التي سادت في ظل نظام صالح لم تكن مواتية لقيام ثورة فكرية حقيقية؛ فقد كان المجتمع المدني، والذي يضم في دائرته النقابات والإعلام والجامعات والمفكرين وغيرهم، في حالة يرثى لها في عهد صالح. فإما إنه قد تم استقطاب هذه الجهات الفاعلة من قبل النظام، وبذلك تم تحييد خطرها على استمراريته، أو أنه قد تم قمعها بالإضافة إلى تقييد المساحات المدنية والمنتديات السياسية والتي من شأنها رفع مستوى الوعي السياسي والثقافي عند المجتمع. لذلك، انتظار ظهور هذه الظروف المثالية كان ليكون خياليًّا في أحسن الأحوال.
فتحت الثورة نوافذ للمشاركة السياسية الحقيقية
فتحت ثورة فبراير مساحات لحرية التعبير لم تكن موجودة من قبل. هذا لا يعني أن حرية التعبير مسموح بها الآن في ظل الحكم الاستبدادي السائد إما في الشمال أو في الجنوب. بل وفي الكثير من الأحيان، تكلفة المعارضة الآن أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الثورة. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع الناس من التحدث علانية ضد ظلم سلطات الأمر الواقع المختلفة، حتى مع علمهم المسبق بالعقاب. فقد عززت الثورة حرية التعبير، ليس عن طريق إزالة القيود من حولها، ولكن من خلال استنفار شجاعة الناس للحصول عليها والتمسك بها بالقوة. وأعتقد أن أحد أسباب تمسك الناس العنيد بحرية التعبير هو أنه بمجرد أن لامسوا هذه الحرية أثناء الثورة، كان من الصعب للغاية العودة إلى ما سبقها. حتى أنصار نظام صالح، والذين ما زالوا لا يرون أي جانب إيجابي للثورة، يرفعون أصواتهم اليوم ويعبرون عن آرائهم السياسية حتى عندما تتعارض مع مصالح سلطات الأمر الواقع، وهو ما لم نشهده أثناء عهد صالح. يجب الاستهانة بهذه القدرة على التحدث بحرية، فهي حجر أساسي للحرية وللحكم الديموقراطي.
بالطبع، لن تساهم حرية التعبير وحدها بتعزيز الديمقراطية إذا لم تُستخدم لتشكيل النظام السياسي وللتأثير على صنع القرار، الأمر الذي يتطلب معرفة سياسية كبيرة بين أوساط المواطنين حول الحياة السياسية في بلدهم ويتطلب فهمًا أعمق للمواطنة. في سبيل ذلك، دفعت ثورة 11 فبراير اليمنيين خطوة نحو الديمقراطية من خلال رفع مستوى الوعي السياسي بين الناس، حيث أصبحوا الآن أكثر اهتمامًا بشؤون بلادهم، وأكثر وعيًا بحقوقهم كمواطنين. وأصبح عالم السياسة في متناول الجميع، كبارًا وصغارًا، ورجالًا ونساءً على حد سواء. فعلى سبيل المثال، أصبحت النقاشات السياسية الساخنة تدوي في مجالس النساء، وهو خروج كبير عن نوع المحادثات التي اعتدن على إجرائها في السابق، والتي كانت تقتصر بشكل أساسي على الأسرة والملابس ومستحضرات التجميل والأطفال. من الجدير بالذكر أن دوافع الناس للانخراط بالنشاط السياسي تتوافق مع تصورهم لإمكانية إحداث تغيير، فعندما يفقد الناس الأمل بإحداث تغيير، يسود الخمول السياسي في المجتمع. وقد يفسر ذلك ابتعاد العديد من الناس، وخاصة الشباب، عن الانخراط في العملية السياسية أثناء عهد صالح، وتبنيهم بدلًا من ذلك قبولًا واقعيًّا متشائمًا لأوضاع البلد باعتبارها ثابتة في ظل حكم صالح الاستبدادي. لذلك، فإن سقوط نظام صالح كان بمثابة إشارة للناس أن التغيير ممكن، بغض النظر عن مدى قوة النظام. وينطبق هذا أيضًا على الوضع الآني، فبالرغم من الحكم الشمولي لسلطات الأمر الواقع، إلا أن هناك الكثير من المتغيرات والكثير من اللاعبين في الساحة السياسية، ولذلك ما زالت هناك فرص لإضافة تيارات سياسية جديدة معتدلة وتحمل مشروعًا وطنيًّا حقيقيًّا.
الطريق نحو التغيير
كما ذكرت سابقًا، الثورة فتحت نوافذ صغيرة للتغيير، وما زال الطريق طويلًا أمامنا للاستفادة منها وإيصال البلد والعملية السياسية في اليمن إلى بر الأمان. خلقت الثورة سوقًا حرة لتبادل النقاشات والأفكار بين مختلف التيارات السياسة والدينية والفكرية، ولكن هذا لا يعني أن جميع هذه الأفكار جيدة بالضرورة. وما نراه اليوم هو انقسامات حادة في النسيج الاجتماعي للمجتمع اليمني وغياب واضح للهوية القومية، يصاحبه ظهور هويات ضيقة ترتكز على الانتماء الجيوغرافي، أو العرقي، أو الديني. وللأسف، ما زال الخطاب العنصري والتخويني والتكفيري التي تتبناه هذه الجماعات هو البارز في الساحة في ظل غياب الخطاب المعتدل والذي يسعى لجمع اليمنيين في أرضية مشتركة. بالطبع، تعدد التيارات ليست المشكلة هنا، بل غياب الإطار المشترك للتشاور والتفكير في مشاكل البلد من دون استقصاء أي طرف ولا اللجوء للعنف عند غياب الإجماع.
التحدي أمامنا اليوم هو خلق الظروف الملائمة لدعم عملية الانتقال السياسي في اليمن، والذي سيتطلب الكثير من الصبر والشجاعة، خصوصًا عند مواجهة العصبوية والتطرف السياسي والديني الذي ساد في البلد. هذا يعني أن هنالك ضرورة للتكثيف من الإنتاج الفكري في الوسط اليمني، سواء عبر الكتابة أو إقامة الفعاليات السياسية والثقافية، أو عن طريق نشر الفن. وقد بدأ بالفعل الكثير من اليمنيين، وخاصة الشباب، بالاتجاه نحو الإنتاج الفكري الهادف، والذي من شأنه أن يخلق وعيًا سياسيًّا وثقافيًّا متزنًا ومعتدلًا. ففي الذكرى العاشرة لثورة فبراير لوحدها انتشرت الكثير من الندوات والكتابات التي تناولت الثورة من منظور تحليلي نقدي، وهي إشارة جيدة وإن كانت هذه المحاولات محدودة النطاق والأثر في بداياتها. قد لا تسبق الثورة الفكرية قيام الثورة، ولكنها يجب بالضرورة أن تسبق قيام الدولة المدنية القائمة على قيم المساواة والحرية والعدالة للجميع.