(2-2)
3- عنت اجتماعيّ ومقاومة نسائية لدخول عالم الغناء
من المشكلات المستعصية في المجتمع اليمني، دخول المرأة إلى عالم الغناء والطرب، وقلّة قليلة من يدلف إلى هذا العالم الصُّلب على نعومته وجماليته، والصلابة هنا لا ترتبط بهذا العالم في ذاته، بل في علاقة المرأة التي تريد أن تقتحمه في بيئة مثل البيئة اليمنية المعادية بضراوة للغناء، ومعاداتها هنا بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى الديني، وهذه المعاداة المركبة تصبح أكثر تركيبًا وتعقيدًا كون من يُغني امرأة؛ فظهورها محرم قبل أن تغني، وكذلك وهي تغني، وبعد أن تغني. فهي تغري المستمع بصوتها، وتفتن المشاهد بجسدها، فضلًا عن الضغوطات الاجتماعي الهائلة الموجهة ضدها. ولذا نرى الكتاب صمّم عنوانًا مستمدًّا من روح المقاومة حينما تناول هذا الموضوع، وكان على النحو الآتي: "في المواجهات الباكرة لتعنيف المجتمع لغناء النساء". وتحت هذا العنوان المقاوم، كشف الكتاب عن التعسف الذي مورس ضد النساء اللاتي تمردن وامتطين صهوة الغناء المحرمة، وتطلعن إلى الحرية في صورتها المستفزة جدًّا لذهنية التعصب المذهبي، والتعنت الاجتماعي؛ ففي مثل هذه الحالة من التحرر يرتفع سقف القمع والمنع الذي قد يصل أحيانًا إلى درجة القتل والتصفية الجسدية. مثلما حدث مع (تقية الطويلية) التي تعرضت مرة لمحاولة قتلها بالرصاص، ومرة ثانية محاولة قتلها بتسميمها، وقبلها المطربة والمغنية (نبات أحمد) التي أدمتها العزلة القاهرة من زوجها، وانتهت حياتها الفنية برشقات ساخرة أُطلِقت عليها من أفواه السفهاء الوسخة في المجتمع، فوصفوها (بسكّر نبات) بدلًا من نبات أحمد الإنسانة، فحشروها في قائمة السكر الصُّلب الذي يتم تناوله مع مضغ القات، وحولوا حياتها إلى حياة مرة انتهت بها إلى الاستسلام وطلاق الغناء بالثلاث، ولم تسلم حياة (نبيهة عزيم) من الضرب من طرف زوجها والانتهاك الجسديّ من أهلها، وتحولت حياتها إلى جحيم. وعلى الرغم من أن معاناة من التحقن بعالم الغناء أقل خشونة في عدن، فإنّ رجاء باسودان، وصباح منصّر، وأم الخير عجمي، تعرضن لضغوطات أسرية قبل الزواج وبعدها، وهذه نماذج لما جرى للنساء اللاتي غامرن بالدخول إلى عالم الغناء.
والكتاب استهواه أن يتناول فنّانِي الشوارع في اليمن، والصفحات الآتية ستكون من نصيب هذا الموضوع الطريف الظريف.
ظاهرة فنّانِي الشوارع ظاهرة لا تدوم.
(4)
4- الاحتفاء والتحيّز لفنّاني الشوارع
كان وجود فنانين يغنون ويتجولون في شوارع صنعاء، نعمة صحفية وشعرية عثر عليها الشيباني، فتفاعل معها وتماهى، ولم يتردد في التحيز لها كتابةً صحفية وشعرًا إبداعيًّا بحجم تمرد (رشيد حريبي)، الذي لم يسعه غير القصيدة النثرية التي بث روح التمرد في عنوانها (أوسع من شارع، أضيق من جينز) في تسميتها الحميمية رشيد حريبي.
في الشارع يجد المرء رشيد حريبي يحتضن عوده غير المكتمل في أوتاره، وعبدالله البحري الذي ينفخ بأطراف شفاهه في نايه البلاستيكي وليس الخشبي، وهاني البريمي الذي يدق على علبة الحليب بدلًا من الطبل الحقيقي.
إنّ الاحتفاء بهؤلاء الثلة الصغيرة لم يقتصر على مستوى الداخل الوجداني والخارجي المحدود، بل امتدّ إلى التعريف المعلن على الفضاء العمومي لمنصة قناة الجزيرة، وهي قناة لها شنّة ورنّة في ذهنية المشاهد العربي، والمؤلف أقام علاقات ودّية معهم، دفعت رشيد إلى أن يفصح عن محبة شديدة للمؤلف، وعبّر عن محبته بقوله: "إنّ محمد الشيباني هو الوحيد الذي يفهمني"، وليس بالغريب أنَّ تخصص صحيفة (الشارع) مكانًا لهم في صفحاتها، فاسمها وتوجهها يسمح، إذ لا مكان يمكن أن يتسع لهم غير صحيفة الشارع، فهم ينتمون إليها ومنها وإليها يرجعون، وحديثها عنهم يزيدها معنى ومصداقية في اسمها، ولا معنى لها إن لم تعتنِ بكل ما يحدث في الشارع؛ فهم أقرب إلى روحها، والتحيز لهم ولفنهم واجب قيمي ومهني بالدرجة الأولى.
إنّ القارئ وهو يتابع التقاطات الشيباني الذكية التي تدل على حساسيةٍ صحفية تحسب له، فضلًا عن تقديمه صورة غير نمطية عن الشارع. مثل صور المتسولين والأطفال المشردين والباعة الجائلين الذين يطلقون أصواتًا مزعجة يروجون لما يبيعون، وتُهمل صورة فناني الشوارع، ويتكشف الشارع عن تنوع صور الناس في الشارع، فهم ليسوا كتلًا صمّاء تتدحرج في الشارع، بل يختلفون في المزاج والطباع وجموح الأحلام، بل إن الشارع ليس مكانًا سيئًا على الدوام وخاليًا من جمال الغناء البسيط المصحوب بالدعابة الطرافة على طريقة البريمي. ففي الشارع يجد المرءُ رشيد حريبي يحتضن عوده غير المكتمل في أوتاره، وعبدالله البحري الذي ينفخ بأطراف شفاهه في نايه البلاستيكي وليس الخشبي، وهاني البريمي الذي يدق على علبة الحليب بدلًا من الطبل الحقيقي ليصدر أصواتًا متقلبة ممزوجة بالمزاح والهزل أكثر من الجد، والأدوات التي يعزف ويدق بها هؤلاء وفق هذه الهيئة التي وصفها الكتاب، تؤكّد انحيازها الفظيع للشارع، ولا معنى لها في مؤسسات الغناء الرسمية.
المؤسسات الرسمية لا تقيم وزنًا للثقافة والفنّ خصوصًا، فهي تجهل قيمة الفن الروحية وقدرته على التأثير في الوجدان وصياغته، وتنشيط مواطن الإبداع بداخله.
الأول كان يحلم بأن يكون فنّانًا طموحًا لا يرضيه سوى ألبومٍ مطرز بصورته، محتضنًا عوده ويخرج إلى الأسواق، لكنه مات وحيدًا في أحد فنادق صنعاء، ورحل دون ضجيج مثل أي مهمش منسي لم يسمعه أحد، لكن حياته كانت ألبومًا حيًّا من الأغاني المتنوعة المحسوبة على التراث التقليدي الذي كان يرددها في شوارع صنعاء، بحسب الطلب المدفوع الأجر. والثاني لم يعلن عن حلمه وظل يردد معزوفات بنايه الذي يحاكي بها أيوب طارش والسنيدار والحارثي والسمة وغيرهم، وانتهى نهاية تراجيدية بعد أن صرح للمؤلف بأنه "تاعب" بعدها ذوّبه التعب في سوق الملح، ولعل للمكان دلالته في ذوبانه. أمّا الثالث الذي شكّل ثنائيًّا مع البحري فقد أتى من (المحوى) ويحمل بيته على ظهره، وهو جار الزبالة لا جار القمر، لكنه استطاع أن يضيء بداخله قمره الخاص، إلا أن هذا القمر أطفأته قسوة الحياة المحيطة به.
إنّ هؤلاء الثلاثة لم يحملوا بعضًا من تراث الأسلاف بتعبير الصريمي، بل إنّهم بقايا مواهب تفتَّتَت ولم تقوَ على التّماسك أمام ضربات الواقع الخشن ولا مبالاة المؤسسات الرسمية التي لا تقيم وزنًا للثقافة والفن خصوصًا؛ فهي تجهل قيمة الفن الروحية وقدرته على التأثير في الوجدان وصياغته، وتنشيط مواطن الإبداع بداخله. ولا تكتمل شخصيته بدون الفن، لقد مثّل هؤلاء الثلاثة ذاكرة متحركة وجاهزة تحت الطلب، وعلى تواضع ما يقدمونه فإنهم منحوا الشارع بُعدًا إنسانيًّا وجماليًّا بحاجة شديدة إلى أن يحضر في شوارعنا بعد أن تخربت آذاننا بسماع الزوامل والشيلات.
تبقى مسألة بحاجة إلى تدقيق، وهي: هل فنّانو الشوارع مثّلوا ظاهرة في أكثر من مدينة يمنية، أو اقتصر حضورهم على مدينة صنعاء فحسب؟ والمسألة الأخرى: هل أثّر فنانو الشوارع في الأغنية اليمنية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فما حجم ونوعية هذا التأثير، هل في أسلوب العزف، أو طريقة الأداء في الأغنية، أو طريقة عرض الأغنية، والسؤال الأخير الذي يراود القارئ عن نفسه: هل فنانو الشوارع يمكن أن يتكرر ظهورهم في شوارع صنعاء وفي غيرها من مدن اليمن؟ ربما، ولكن ظهورهم سيكون بنسخة جديدة تختلف تمامًا عن النسخة القديمة في المظهر والمخبر.
تبقى مسألة أخيرة، وهي قضايا أثارها الكتاب تستحق الحوار.
الدان الحضرمي ليس دندنة عابرة، بل قالبًا غنائيًّا يمتص القصيدة من البداية إلى النهاية، وهذا القالب يؤطرها وينظمها في حين أنّ الدان اللحجي هو دندنة في أول القصيدة، ثم ينتهي أمر هذه الدندنة تمامًا.
(5)
5- قضايا أثارها الكتاب، تحتاج إلى نقاش
• قضية الدان الحضرمي والدان اللحجي والموال الذي يلازم بداية القصيدة في المناطق الشمالية مثل: البالية، الليلة، ما للنسمة السارية. والسؤال التقني: هل هذه الأشكال من الدان متساوية وتحمل المعنى نفسه، أو أنّ هناك اختلافًا يصل إلى حدّ التقاطع التام، لأنّ هناك من يرى أن الدان الحضرمي ليس دندنة عابرة، بل قالبًا غنائيًّا يمتص القصيدة من البداية إلى النهاية، وهذا القالب يؤطرها وينظمها وهو أنواع: الريض والهبيش أو الحيفي... إلخ، ولعل هذا يفسر ظاهرة أسبقية اللحن على الكلمات عند المحضار. فالمحضار يُجري تأطيرًا للكلمات الشعرية وفق القالب الغنائي المناسب لها، وهذا القالب يضبط القصيدة من البداية إلى النهاية، في حين أن الدان اللحجي هو دندنة في أول القصيدة، ثم ينتهي أمر هذه الدندنة تمامًا؛ أي إنها لا تتحول إلى قالب غنائي، وينطبق هذا الأمر على البالة، والليلة.
• قضية الغناء التعبيري الذي يتجاوز الغناء الطربي، وهذه السمة خص بها عصام خليدي الفنان (محمد عبده زيدي) دون سواه من كبار الفنانين، مثل: محمد مرشد ناجي، وأحمد قاسم، ومحمد عبده خرج من معطف أحمد قاسم، وغيرهم، وهم يُحسبون على الأغنية العدنية. ويعرِّف خليدي هذا الأسلوب من الغناء بأنه يعتمد على رقة الصوت ودقة التصوير والتعبير الذي يجسد المعاني بإحساس قوي مصحوب بأداء هادئ عميق راكز للفنان دون تكلف أو انفعال، ولا يخفى على أهل الاختصاص مسألة التباين بين الغناء التعبيري والطربي، تباين دقيق وعميق يشمل جوانب حضارية وتقنية؛ فالغناء الطربي مستواه دون التعبيري بكثير، والسمة الطربية سمة غالبة على الغناء الشرقي بصفة عامة، وينطبق الأمر على الغناء اليمني، والطربية ليست منقصة وإنما سمة غالبة. فكيف لهذا الفنان أن يتحرر وحده من هذه الطربية التي لا تعني رقة الصوت أو تكبيره. بل تعني القدرة على تحويل الصوت إلى أداة موسيقية تسعى إلى إظهار فنية الصوت إلى أبعد مدى ممكن من أجل تجسيد المعنى التعبيري. ولعل الغناء الأوبرالي يُمثّل نموذجًا مثاليًّا للغناء والأداء التعبيري، ومحمد عبده زيدي يحسب على الموجة الغنائية العدنية التي تأثرت بالأسلوب المصري في الغناء، وهذه الموجة انحسرت ولم تتغلغل في وجدان الذائقة الشعبية، في حين أنَّ الأغنية العدنية في صورتها الشعبية تصاعدت موجتها وانتشرت في السبعينيات من القرن الماضي، وحتى ما قبل، ومن رموزها: محمد مرشد ناجي، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد صالح عزاني الذي عدّه عصام خليدي من الفنانين القلائل الذين يتمتعون بحضور إبداعي (غنائي مسرحي فني)، قوي ومؤثر على كافة المستويات في توصيل الأغنية، فيصل في كثير من الأحيان إلى (حالة من التوحد الوجداني والإبداعي)، ولعل أغنية (مستحيل أنساك) تحفة وجدانية تمثل صورة حية إلى ما ذهب إليه خليدي بشأن العزاني الذي شكّل ثنائيًّا رائعًا مع بامدهف. وعلى العموم، فإنّ ما قاله خليدي يحتاج إلى برهنة بوساطة دراسة نوعية صوت الفنان محمد عبده وطبقاته الصوتية، وصورة النقاء في صوته مهما ارتفع وانخفض، فضلًا عن دراسة جمله الموسيقية وكوبليهاته، وكل هذا لا يقلل أبدًا من رأي خليدي، بل سيعززه.
الحفاظ على الذائقة وتنميتها لن يتم إلّا بإشاعة الثقافة الموسيقية، وتدريس الموسيقى في مدارسنا ومعرفة النوتة وقواعد الموسيقى، والعمل على تدوير وبث الأغاني التقليدية والرصينة في إذاعاتنا وقنواتنا الفضائية بوساطة برامج تعد من أهل الاختصاص.
• ومسألة أخرى بشأن إلحاح محمد مرشد ناجي، الشديد على تقديم هويته الثقافية والسياسية على هويته الفنية الغنائية والموسيقية، فمسألة تغليب الهوية على أخرى بسبب الجهل أو الكسل المعرفي، لن يقلل من هذه أو تلك، فلكل هوية مكانها ومقامها، ثمَّ إنّ القارئ الحصيف والعارف باهتمامات المرشدي السياسية والثقافية لن يقيم وزنًا للتفاضل بين هذه وتلك، بل لا معنى للتفاضل هنا، فشخصيته شخصية إبداعية مركبة جمعت بين الهويتين، لكن الصورة النمطية الشائعة عنه بأنه ملحن ومغنٍّ فحسب، ويجهل الكثير من العوام الذين يحبون ويطربون للمرشدي بأنه مثقف وسياسي، بل لا يهمهم هذا الأمر، لكن المشكلة في جهل بعض النخب الثقافية بهذا الأمر، وإلحاحه على تأكيد هويته الثقافية محاولةٌ منه لتغيير الصورة النمطية عنه، ثم إن شهرته الغنائية والموسيقية لا تحتاج إلى تعريف، لكن هويته الثقافية في أمس الحاجة إلى التعريف.
• مسألة أخيرة ترتبط بتنظيف ذائقة المستمع من الأصوات المزعجة التي لا تعتمد على تكبير الصوت وإطلاق الصيحات كما هو الحال في الزوامل والشيلات. هذه المسألة تتوقف على التربية من الصغر، والمؤلف نفسه لاحظ أن سائق الباص كان مستمعًا جيدًا من الصغر للأغاني التقليدية، فظلّت ذائقته سليمة ولم تخرب، وبالمناسبة فإن الحفاظ على الذائقة وتنميتها لن يتم إلّا بإشاعة الثقافة الموسيقية، وتدريس الموسيقى في مدارسنا ومعرفة النوتة وقواعد الموسيقى، والعمل على تدوير وبث الأغاني التقليدية والرصينة في إذاعاتنا وقنواتنا الفضائية بوساطة برامج تعد من أهل الاختصاص للتعريف لا بمغنيها ولا بملحنها ولا بمضمونها الشعري فحسب، بل والتعريف بها موسيقيًّا من حيث معرفة المقام الموسيقي وأسلوب العزف وغيرها من القضايا الموسيقية التي لها علاقة بالفن الموسيقي من داخله.