فكرة تنصيب محمد البدر (ولاية العهد) التي روّج لها أبرز شخصيات ثوار 1948، بعد خروجهم من سجون حَجّة، وبرغبة من الإمام أحمد وجمعوا التواقيع من أجلها، صارت إسفينًا ضرب في خاصرة أسرة آل حميد الدين، وقد كان شقيق الإمام الحسن المعروف بتشدّده يعارضها بشدة، ويرى أنّها ستقضي على حكمهم، "وإذا كانت ولاية العهد من أركان وخصائص النظام الملكي الوراثي، فإنّ معارضيها كانوا يرفضونها، ويرفضون النظام الملكي، وظلّوا يتمسّكون بنظام الإمامة الزيدية التي ترفض مبدأ الوراثة في الحكم".
وخلال شهرَي يونيو ويوليو 1954، بلغت المواجهة بين أنصار البدر وأنصار الحسن أوجها، واستخدمت فيها أجهزة السلطة والجرائد والمساجد والمهرجانات والاحتفالات، وأمام الضغوط اضطر الإمام أحمد إلى إيقاف الحملة وتجميد المشكلة، ومنع الخوض فيها، في انتظار وسيلة أخرى لحلها، ولم يبقَ أمامه إلا الوساطة العربية، حيث وصل الملك سعود إلى صنعاء وحاول إقناع الأمراء بمبايعة البدر وليًا للعهد، ولكن محاولته باءت بالفشل.
كان الجو محتقنًا بين المعسكرين، وقيل إنّ مخططًا أُعدّ لتصفية الإمام في صنعاء، هو الذي جعله يعود إلى تعز على وجه السرعة، ثم عمل سريعًا على إخراج الحسن من اليمن بحُجة المشاركة في مؤتمر الحكومات العربية في القاهرة، قبل أن ينفيه إلى الولايات المتحدة تحت مسمى مندوب اليمن في الأمم المتحدة، وبالمقابل استدعى شقيقه عبدالله إلى تعز، وعيّنه وزيرًا للخارجية ومستشارًا خاصًّا، لامتصاص غضب بقية الأمراء المنقسمين.
في هذه الظروف، ظهر على مسرح الأحداث المقدم أحمد الثلايا (قائد الجيش) "الذي كان يطمح إلى ثورة تحجب أحمد، وتفسح الطريق أمامَ إمامٍ غير مستبد، واستقرّ رأيه على السيف عبدالله الذي كان على تواصل معه، وأبدى له تذمره من الوضع، فصادفت هذه الشكوى هوى كامنًا في نفس الثلايا".
كان عبدالله قد ضمّ إليه أكثر أفراد الأسرة المالكة، كأخيه العباس، والأمير الحسن ابن سيف الإسلام علي، وكان الثلايا قد أعدّ خطة، منها القبض على البدر وتبديل المجاميع العسكرية بقلعة القاهرة ودار النصر في صبر. وقبل أن تحبك خيوط الخطة، حصل احتكاك من بعض الجنود وأهالي حوبان تعز فيما يعرف بحادثة الحوبان؛ إذ خرج يوم الأربعاء (30 مارس 1955) بعض الجنود النظاميين من معسكرهم للاحتطاب؛ فجرت بينهم وبين بعض أهالي الحوبان منازعة قتل فيها جندي، وفي رواية أخرى جنديان، فعاد الجنود يستصرخون الجيش الذي خرج ينهب قرية الحوبان، ويحرقها، ويقتل من وجد ثم يعود إلى ثكناته بعد مغرب شمس نفس اليوم.
"ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فعرفوا أنّهم قد تجاوزوا حدودهم، وأنّ الإمام سوف ينتقم منهم، وأخذوا يفكرون في الفرار، وجاءهم الثلايا ومرشد السريحي، وقالوا لهم إن الذي أهانكم وسبّب لأن ترتكبوا هذه الأعمال ضدّ إخوانكم المواطنين المساكين هو الإمام الذي اضطركم إلى أن تخرجوا للاحتطاب، فنشأ الخلاف بينكم وبين المواطنين، والآن وقد فعلتم ما فعلتم، فإنكم لن تنجوا من العقاب الشديد، ونحن كضباط مستعدون لأن ندخل مع الإمام في معركة من أجلكم، وبدلًا من أن تفروا إلى خارج الحدود، وتتشرّدوا، تعالوا نحاصر القصر ونرغم الإمام على التنازل لأخيه عبدالله الذي وعد بتوفير مرتباتكم وحمايتكم ومعاملتكم كما تعامل الجيوش في العالم. وأقنع الجنود وتحمسوا، وكان أن جاء يوم الخميس 31 مارس 1955 ( الساعة السادسة صباحًا)، وقد ضرب الجيش حصارًا على القصر والمقام في العرضي، واحتل المباني الحكومية، وفتح مخازن الذخيرة، ووزع السلاح على من لا سلاح له، واستولى على السيارات والمطار، وقطع أسلاك البرق والتلفون، واحتل محطة اللاسلكي، وهتف الجنود مطالبين الإمام بالتنازل لأخيه عبدالله.
استدعى المقدم الثلايا أهل الشأن، وجميع أعضاء الحكومة المتوكلية، منهم: النعمان، والإرياني، وأمير البيضاء محمد بن عبدالله الشامي، ومحمد الذاري، وحمود الوشلي، وزيد عقبات، وعبدالله الشماحي، ويحيى السياغي، وأحمد زبارة، ويحيى الكبسي، ويحيى محمد باشا المتوكل، وأمير جيش تعز محمد الحوثي، ومحمد بن علي المجاهد، وعبدالله عبدالإله الأغبري، وأحمد بن محمد المهدي، وقاسم بن إبراهيم، ومحمد بن حسن عبدالقادر، ومحمد بن قاسم بن الهادي، وتم استدعاء السيف عبدالله من غرفته بالقصر، فحضر وبدأ الاتصال مع الإمام أحمد، فلم يجب إلى التنازل.
اندفع الجيش يقوده السريحي في إطلاق الرصاص على حجرة الإمام بالقصر نحو خمس دقائق، كما ضربت المدفعية شرفات القصر، صارخين بتنازل الإمام، ومبايعة عبدالله، مهدّدين بأنه في حالة عدم الاستجابة، سينسفون الإمام مع قصره، ويسحقون المجتمعين بالعرضي، فيذهب أمير الجيش محمد الحوثي، وأمير البيضاء محمد الشامي، فيوقفان إطلاق النار، ويتصلان بالإمام أحمد الذي أجابهما في هدوء إلى أنه متنازل، وناولهم ورقة فيها شيء من المخاتلة؛ إذ قال فيها أنّه متنازل لأخيه عن الأعمال، وأنه من قبيل انتقال الخاتم من اليمين إلى اليسار.
استمرّ القائمون بالانقلاب على وضعهم، واطمأنوا على الوضع الداخلي، ورأوا أنّ أكثر المشاكل قد حُلّت بتنازل أحمد من دون إراقة دم، وقد كان أغلب الشخصيات المسؤولة يميلون إلى عبدالله، ولم يكن هناك من عقبة سوى البدر، وقد ذهب النعمان إليه، وقد تركز اهتمامهم على موقف الحسن الموجود بالخارج، وموقف الملك سعود، والجمهورية العربية والجامعة العربية؛ فشكّلوا ثلاثة وفود، ومن مهمة الوفد إلى الحسن، إقناعُه بمبايعة عبدالله، وتجميد نشاطه في مكانه بالخارج حتى تستقر الأمور، وقد تم إعداد الوفود، وعمل ما يلزم لسفرهم بعد صلاة الجمعة.
لكن في صباح الجمعة، كان قد تغير كل شيء، وذلك لأنّ البدر نجح في أن يضمّ النعمان إليه، ويسافر معه إلى حَجة يستصرخ القبائل، وهكذا انقلبت الأمور رأسًا على عقب، وقد أصدر الإمام أحمد منشورًا يعلم فيه الناس أنّ ابنه البدر قد صعد إلى حَجة، والقبائل هناك تلتف حوله، وأنه لم يتنازل عن الحكم، وكان لذلك أثر السحر في تبدل الموقف تمامًا.
لم تمضِ غير أيام ثلاث، حتى كانت الأمور تسير في اتجاه سيطرة الإمام على الأوضاع، بعد أن استطاع استمالة الجيش البراني (الجنود غير النظاميين)، والحاميات العسكرية في القلعة وجبل صبر وصالة والجحملية بكثير من الأموال، فبدأت المدفعية بالضرب على ثكنات الجيش ومقر القيادة، بالعرضي بدلًا عن ضرب المقام.
استمرّت الحرب ليلة الثلاثاء ويومه، وفي منتصف ليلة الأربعاء فرّ المقدم الثلايا ومرشد السريحي، وكان الجند قد فرّوا جماعات لِمَا عانوه من القصف المدفعي، وقد نجا السريحي بنفسه وفر إلى عدن. وأما المقدم الثلايا فقد انتهى به المطاف إلى قرية اللوازم من قرى جبل صبر، فقبض عليه المواطنون، أمّا الإمام عبدالله ومن معه، فقد بعثوا إلى الإمام أحمد يعلنون استسلامهم، فأمر بحبسهم، بمقر وزارة الخارجية، قبل أن يتم إرسالهم إلى سجن حجة.
أُعدِم المقدم الثلايا بميدان العرضي، بعد ساعات من القبض عليه (ظُهر الأربعاء 6 أبريل)، وبعدها بأسبوع واحد، الأربعاء 13 أبريل، أعدم عبدالله وشقيقه العباس في حَجّة. وخلال الفترة بين 6 أبريل و24 أبريل، تم إعدام (16) شخصًا من ضبّاط الجيش والشخصيات المدنية (أهل العقد) الذين وقفوا إلى جانب الثلايا وعبدالله.
المصادر:
- اليمن الإنسان والحضارة، القاضي عبدالله عبدالوهاب المجاهد الشماحي، منشورات المدينة، الطبعة الثالثة، 1985م.
- انقلاب عام 1955 في اليمن، حيدر علي ناجي العزي، منشورات وزارة الثقافة والسياحة – صنعاء 2004.
- مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، الجزء الأول 1910-1962، الطبعة الأولى 2013.
- التاريخ العسكري لليمن 1839-1967، سلطان ناجي، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية 1985.