تعتبر ثورة الدستور 1948 أحد أهم الثورات اليمنية التي نادت بضرورة الإصلاح في منظومة الحكم، ورفع المظالم الجائرة التي أثقلت كاهل الشعب اليمني، ونادت بدستور يكفل الحريات، ويوزع السلطات، وهو ما دعت إليه المعارضة التي ضمت في تكوينها كل أطياف الشعب اليمني. وقبل الحديث عن هذه الثورة، فلا بد من إطلالة سريعة بالحديث عن المعارضة التي حملت على عاتقها هم التنوير والثورة، وكانت ثورة رائدة، وأمًا لثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
تعود بداية المعارضة للحكم الإمامي في شمال اليمن إلى منتصف الثلاثينات، وتحديدًا إلى ما بعد عام 1934، ففي هذا العام مني الحكم الإمامي بهزيمتين مريرتين كانت الأولى عندما رضح الحكم الإمامي للضغوط البريطانية، فوقع معاهدة فبراير 1934 مع الحكومة البريطانية، اعترف الإمام بمقتضاها بالسيادة البريطانية على جنوب اليمن، وجاءت الهزيمة الثانية على يد الملك السعودي عبد العزيز الذي شن حربًا ضد اليمن، واستطاع إجبار الإمام يحيى على توقيع معاهدة الطائف 19 مايو 1934، والتنازل عن إقليمي عسير ونجران.
أظهرت هاتان الهزيمتان نقاط ضعف النظام الإمامي، وسمحت لمخزون التذمر من هذا الحكم أن يعبر عن نفسه ويرتفع إلى السطح، كما عبرت هاتان الهزيمتان الكبيرتان عن حدة التناقضات التي كان يزخر بها المجتمع ونظام الحكم معًا.
كانت أبرز هذه التناقضات حينها تتمثل في التناقض بين دعوة الإمام يحيى لتوحيد اليمن، وبين الطابع الطائفي الضيق للحكم الإمامي، والتناقض بين حاجة المجتمع إلى التطور الشامل، وبين ممارسات الحكم الإمامي المحافظة التي عطلت كل إمكانية للتقدم، والتناقض بين الميول المركزية للدولة، وبين النزعات القبلية الضيقة، والتناقض بين أقسام واسعة من الشعب، وبالذات المزارعين (الرعية)، وبين الدولة التي أرهقتهم بالضرائب والواجبات، وأذلتهم بعساكرها وموظفيها، والتناقض بين تطلعات شرائح اجتماعية متنفذة: القضاة، مشايخ الأرض، مشائخ القبائل للمساهمة في الحكم، وبين الطابع الفردي للحكم الذي كبح تلك التطلعات.
عبرت المعارضة السياسية بظهورها عن حاجة المجتمع إلى قوة طليعية تذلل تلك التناقضات، وتفسح السبيل أمام تطوره الصاعد، وعكست المعارضة فيما بعد تطلعات ومصالح تلك الفئات والشرائح التي تضررت من الحكم الإمامي وممارساته.
تشكلت نواة المعارضة السياسية في أوساط الشباب المتنور الذي توفرت له فرص الاطلاع على الموروث الثقافي، وعلى الأدب السياسي المعاصر لتلك الفترة، وقد نهلت الجموع الأولى من طلائع المعارضة في بناء ثقافتها السياسية من مصدرين أساسيين:
الأول: هو الأدب المعتزلي الذي يحض على الثورة على الحكام الظلمة، ويؤكد على قدرة الإنسان وحقه في صياغة مصيره.
الثاني: تمثل في مؤلفات زعماء الإصلاح من العرب والمسلمين الذين برزوا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن هؤلاء جمال الدين الأفغاني 1839- 1897، ومحمد عبده 1849- 1905، وعبد الرحمن الكواكبي 1854- 1902، ومن أفكار هؤلاء المصلحين استقت طلائع المعارضة جل مفاهيمها السياسية كمفاهيم: الدستور، والشورى، والحكم النيابي، والاستبداد، والحرية، وتمثلت طلائع المعارضة أفكار هؤلاء المصلحين ودعوتهم إلى التقدم والأخذ بأسباب العلم الحديث، واستيعاب منجزات الحضارة المعاصرة كأمور لا بد منها للتصدي لهجمة الغرب الاستعماري على شعوب الشرق، واستوعب رجال المعارضة استنتاجات هؤلاء المصلحين من أن تحقيق التقدم مرهون بتغيير أنظمة الحكم الاستبدادية في الشرق.
قطعت المعارضة اليمنية في تطورها ثلاث مراحل:
في بداية المرحلة الأولى عام 1935 سعت تجمعات المعارضة المنتشرة في عدن وصنعاء وإب وتربة ذبحان إلى توحيد نفسها في إطار منظمة سياسية واحدة، غير أن مثل هذه المنظمة لم تتشكل في الواقع رغم أن هناك من توهم قيامها، فأعطاها تسمية "الجمعية اليمنية"، وأعطاها البعض الآخر تسمية هيئة النضال، ولكن المصادر التاريخية، وشهادات المعاصرين نفت أن تكون قد تشكلت في ذلك العام كمنظمة سياسية، ولكنها لم تكلل بالنجاح إلا أنها أوجدت نوعًا من الصلات بين مختلف تجمعات المعارضة، ومن الواضح أن ظروف العمل السري، وحداثة عهد أولئك الشباب بالعمل السياسي ومقتضياته، وصعوبة الاتصال بين مختلف مناطق شمال اليمن كانت من الأمور التي عسرت ظهور منظمة سياسية موحدة آنذاك للمعارضة.
لم يمنع عدم ظهور مثل هذه المنظمة المعارضة من القيام بنشاط دعائي ضد الحكم الإمامي، وكان هدف هذه الدعاية هو التعريف بعيوب النظام الإمامي، وإشهار ممارسات موظفيه وعساكره تجاه الأهالي، وإظهار تقصيره في توفير الخدمات العامة من تعليم، وصحة، ومواصلات، وكهرباء... إلخ، وكانت هذه الدعاية تمارس شفويًا في التجمعات الخاصة، وتضمنت في الوقت نفسه المطالب الأساسية للمعارضة، وهي المطالب التي اختزلت في شعار واحد هو الإصلاح، وفيما بعد، وعندما صدرت مجلة الحكمة اليمانية استطاعت المعارضة التعبير عن جانب عن أفكارها ومطالبها علنًا وعلى نطاق واسع عبر هذه المجلة، وأهم ما دعا إليه هؤلاء في الحكمة هو تحسين نظام الإدارة، وإشاعة التعليم، وتطوير مناهجه، والأخذ بالعلوم الحديثة، وبناء جيش وطني قوي، وإقامة صناعة وطنية كضمان لاستقلال البلاد وازدهارها، وتطوير الزراعة بالاعتماد على التقنية والعلوم الحديثة، ووحدة الشعب بطوائفه المختلفة، كما تعرض رجال المعارضة لموضوع الدستور، وحكم الشورى، ولكن بحذر شديد، وهكذا فقد ساهمت المجلة إسهاماً كبيراً في نشر أفكار المعارضة والترويج لمطالبها في الإصلاح.
وإلى جانب نواة المعارضة التي تشكلت في داخل شمال اليمن نشطت في أواخر الثلاثينات نواة أخرى للمعارضة تشكلت في القاهرة من الطلبة الدارسين فيها، وكان من بين هؤلاء الدراسين: أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري اللذان أصبحا فيما بعد على رأس حركة المعارضة، وتصدرا زعامتها حتى عام 1962.
نشطت نواة القاهرة أساسًا في كتابة المقالات المناهضة للحكم الإمامي في الصحف المصرية، وفي 28 سبتمبر 1940 شكل أفرادها منظمة سياسية سرية في القاهرة عرفت باسم "كتبية الشباب اليمني"، وفي الأدبيات المكرسة لهذا الموضوع يطلق على هذه المنظمة تسميات مختلفة منها: "الكتيبة الأولى"، و"الكتيبة اليمنية الأولى".
صاغت كتيبة الشباب اليمني لنفسها برنامجًا ونظامًا تحت اسم قانون كتيبة الشباب اليمني. في هذه الوثيقة عبر أصحاب المنظمة عن عزمهم على إنشاء فروع لها في داخل اليمن، أما أهداف المنظمة؛ فقد صيغت بعبارة شديدة العمومية في القانون.
في عام 1941 عاد محمد محمود الزبيري إلى المحافظات الشمالية حاملاً معه وثيقة جديدة هي برنامج "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ويمكن اعتبار هذه الوثيقة بمثابة أول برنامج يعرض أهداف المعارضة بصورة موسعة، ويتكون البرنامج من مقدمة، و37 فقرة، وقد تضمن أهدافًا أخلاقية -تربوية، وأهدافا تنويرية، وأهدافًا اقتصادية- اجتماعية، وأهدافا وطنية عامة، ومن أهم هذه الأهداف الحفاظ على استقلال البلاد من أطماع المستعمرين، ونشر التعليم، وإنشاء شركات وطنية، والأخذ بالنظم التجارية الحديثة، والعناية بالزراعة والصناعة، ورفع مستوى الفلاح، والرأفة بحاله، ونشر الخدمات الصحية.
أما مسألة الحكم، فقد تجنبها البرنامج كما يبدو لحساسية هذا الموضوع لدى الإمام يحيى الذي تقدم إليه الزبيري بالبرنامج آملاً منه التجاوب، وتحقيق هذه الأهداف، غير أن الإمام يحيى رفض البرنامج جملةً وتفصيلاً، واتخذ إجراءات تنكيلية بحق الزبيري، وعدد آخر من شباب المعارضة.
وفي بحثهم عن سند من السلطة يتجاوب معهم في تحقيق مطالبهم الإصلاحية لجؤوا إلى سيف الإسلام أحمد ابن الإمام يحيى في مدينة تعز، غير أنه برهن بأنه ليس أحسن من أبيه، بل أخذ يتهددهم بالتنكيل؛ مما أجبرهم على الرحيل عن المحافظات الشمالية في عام 1944؛ فتوجه بعضهم على القاهرة، وتوجه البعض الآخر إلى عدن.
في المرحلة الأولى استطاعت المعارضة أن تبرز إلى الساحة السياسية كقوة تناهض الحكم القائم، وترفع لواء الإصلاح، كما استطاعت أن تبلور لنفسها عددًا من الأطروحات السياسية والفكرية كأدوات لا بد منها للعمل السياسي، وخلال هذه المرحلة نضجت الحاجة لدى المعارضة إلى تكوين منظمة سياسية تؤمن مركزًا قياديًا واحدًا لكل عناصر المعارضة، وتجمعاتها، غير أن المعارضة كانت ماتزال قوة محدودة التأثير، ولم تخرج بعد عن نطاق جمهور الشباب المتنور.
بدأت المرحلة الثانية من تاريخ المعارضة بتشكيل "حزب الأحرار اليمنيين" في خريف عام 1944، ومنذ هذا التاريخ بدأ تداول اسم حركة الأحرار للدلالة على حركة المعارضة نسبةً إلى اسم الحزب، كما أصبح أبرز شخصيات المعارضة يعرفون باسم الأحرار.
أعلن الحزب المعارضة على الإمام يحيى، ونظم حملة إعلامية ضده عبر الجرائد العدنية، وبالذات جريدة "فتاة الجزيرة"، واستهدف الحزب في هذه الحملة إظهار عيوب النظام الحاكم في شمال اليمن، وإبراز اختلالاته تجاه الوطن والشعب، وفي الوقت نفسه حددت هذه الحملة مطالب المعارضة في الإصلاح، كما نشطت المعارضة باتجاه كسب تأييد تجمعات المهاجرين اليمنيين فتلقت منهم دعمًا ماليًا ساعدها على تمويل نشاطها، غير أن نشاط الحزب تجمد بعد العام نفسه، عندما دبت الخلافات بين كوادره الأساسية، ثم حظرت السلطات البريطانية نشاط الحزب تمامًا بعد احتجاج الحكم الإمامي.
وردًا على قيام حزب الأحرار وإشهار المعارضة في عدن، قام الحكم الإمامي بجملة اعتقالات واسعة في عام 1944 طالت عددًا كبيرًا من البارزين من المعارضة الموجودين في المحافظات الشمالية، كما طالت حملة التنكيل أقارب وممتلكات أولئك الذين نزحوا إلى عدن.
وفي 4 يناير عام 1946 شكل الأحرار منظمة جديدة عرفت باسم "الجمعية اليمنية الكبرى"، وأصدروا صوت اليمن 31 أكتوبر 1946 – مارس 1948 كجريدة ناطقة بلسان الجمعية، وقد تركز نشاط الجمعية في السنوات الأولى على العمل الدعائي، وكسب تأييد ممثلي الرأي العام العربي، وضمان تأييد تجمعات المهاجرين.
مارس الأحرار نشاطهم هذه عبر جريدة "صوت اليمن" التي كانت تصدر في عدن، وجريدة "الصداقة" التي كانت تصدر في القاهرة برعاية عبد الغني الرافعي، كما اهتمت حركة الأحرار بإصدار الكتيبات، وطبع وتوزيع المنشورات ومن خلال هذه الكتابات قدم الأحرار تصوراتهم حول مشاكل شمال اليمن، وطرحوا بدائلهم.
خلال هذه الفترة نضجت تصورات الأحرار كحركة سياسية، وصاغوا برنامجًا سياسيًا متكاملاً استوعب أهم قضايا المجتمع، وقد تناولت الوثيقة التي نشرت في جريدة الصداقة العدد 71 الصادر في 5 أغسطس 1946 تحت عنوان "مطالب الشعب اليماني".
ارتأت هذه الوثيقة إقامة حكم دستوي شوروي يغير طابع الحكم من حكم استبدادي إلى حكم ديمقراطي، وإنشاء إدارة عصرية تستطيع الإيفاء بمهام الإصلاح، ومن أبرزها تأمين الخدمات العامة للسكان من تعليم، ورعاية صحية، ومياه شرب، وكهرباء، والنهوض باقتصاد الوطن عبر إقامة صناعة حديثة، وتطوير الزراعة، وتأمين وتعليم التعليم المهني، وتخصيص الضريبة على الفلاحين، وكسر احتكار التجارة من جانب كبار الموظفين، وتطوير المواصلات والاتصالات، وأفردت الوثيقة حيزًا هامًا لحقوق السكان السياسية؛ فدعت إلى تأمين حرية الكلام والنشر والاجتماع، وتأليف الجمعيات، وتأمين حياة الناس، وأعراضهم، وأموالهم، وحظر الاعتقال التعسفي، وضمان حرية السفر، والتنقل دون قيود، وأعلنت الوثيقة اعتبار العلم والعلاج والعيش حقًا طبيعيًا لكل يماني يحصل عليها كما يحصل على الهواء والشمس".
ونصت الوثيقة أيضًا على ضرورة الاهتمام بالمهاجرين، وحفظ حقوقهم وكرامتهم في أماكن شتاتهم. وفيما يتعلق بالعلاقات الخارجية دعت الوثيقة إلى كسر حاجز العزلة، وفتح أبواب اليمن لأبناء الأقطار العربية، والاستفادة من خبراتهم، وتوثيق الصلات مع الدول العربية الأخرى.
في أواخر 1947 اتجه نشاط الأحرار نحو الإطاحة بحكم الإمام يحيى، وإقامة حكومة دستورية، ولما كانت حركة الأحرار ما تزال عاجزة وحدها عن تنفيذ هذه المهمة، فقد اتجهت إلى التحالف مع قوة أخرى في البلاد وهي الأسر الهاشمية المناوئة للأسرة الحاكمة، وكان يتصدر هذه القوة حينها عبد الله بن أحمد الوزير، وتم الاتفاق بين الأحرار والوزير على الإطاحة بآل حميد الدين (الأسرة الحاكمة)، وإقامة حكم دستوري شوروي، وتحقيق جملة من الإصلاحات ثم تثبيتها في الميثاق الوطني المقدس، وبموجب هذا الاتفاق حصل عبد الله الوزير على منصب الإمامة، بينما حصل الأحرار على عدد من المناصب في الحكومة ومجلس الشورى، إضافة إلى تثبيت إصلاحاتهم كبرنامج ملزم للحكم الجديد.
في 17 فبراير 1948 نفذ الأحرار وآل الوزير ما عزموا عليه، بقتل الإمام يحيى ببندقية الشيخ علي ناصر القردعي بمنطقة حزيز شمالي صنعاء، وقاموا بالثورة في صنعاء، وأعلن عبد الله الوزير إمامًا دستوريًا، ثم شكلت هيئات السلطة الجديدة الحكومة ومجلس الشورى، لكن هذه الثورة لم يستمر سوى عشرين يومًا. ففي 13 مارس 1948 تمكن سيف الإسلام أحمد ابن الإمام يحيى من اقتحام صنعاء، وألقى القبض على زعماء الحركة الدستورية في اليوم التالي، ثم أعلن نفسه إمامًا، وبذلك فشلت المعارضة في تحقيق مشروعها السياسي. لقد أصيب نشاط المعارضة بالشلل بعد نكسة ثورة 1948 حتى قيام الثورة الجهورية عام 1962م.
أسماء أعضاء حكومة الدستور: