في الـ14 من أكتوبر 1963، انطلقت حرب التحرير الوطني من جبال ردفان. لقد كانت الشعلة التي أحرقت السهل، ولم تكن معزولة حينها عن الحدث العظيم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. طلبت الإدارة البريطانية إلى المقاتلين العائدين من الشمال والمدافعين عن الثورة والجمهورية في الشمال وشمال الشمال، تسليمَ أسلحتهم، فرفضوا، وبدأت المواجهة.
للشعلة صلة بالاستنارة والتحديث في عدن والجنوب، وبروز الأحزاب السياسية كالرابطة، والجبهة الوطنية المتحدة، وحزب الشعب الاشتراكي، والبعث، وحركة القوميين العرب، والتيارين: الناصري، والماركسي، ولها صلة أيضًا بالحركة العمالية، وبالصحافة العدنية ودورها، وبحزب الأحرار اليمنيين، وبالنجدة القومية المصرية، ودور الثورات القومية في سوريا والعراق، وحركة التحرر العربي الجزائرية، وحركات التحرر في القارات الثلاث، ودور المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية.
كان العصر حينها عصر حركات التحرر الوطني، وكانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر، ثاني حركة تحرر بعد الجزائر في المنطقة العربية. غالبية الأحزاب السياسية لم تكن ضد الكفاح المسلح، وكان الاستثناء الرابطة، وإن كان لها تقديرات مختلفة، أما حزب الشعب الاشتراكي، فقد حضر ممثله عيدروس القاضي اجتماع دار البشائر في 24 فبراير 1963، وهو الاجتماع الذي أُقِرّ فيه تشكيل «جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل»، وإن كان قد انسحب فيما بعد. كان السياسي المخضرم عبدالله عبدالمجيد الأصنج والأستاذ محمد سالم باسندوة أكثر انغماسًا في العمل السياسي والنقابي العمالي والنشاط المدني، وقد كان الرهان على وعود حزب العمال البريطاني بمنح الاستقلال في الـعام 1968، حاضرًا، أما فرع حزب البعث العربي، فإن اشتداد الخلاف بين مصر ودمشق كان له تأثير على الانخراط في الكفاح المسلح في البداية طبعًا، وقد يكون لممارسة القيادة المصرية في الشمال علاقة في الالتحاق بالكفاح، وإن لم يكونوا ضده، كما يؤكد راشد محمد ثابت في كتابه المهم «ثورة 14 أكتوبر اليمنية، من الانطلاقة حتى الاستقلال» راجع (ص 95 و96).
في البداية التحق البعثيون كأفراد، وقدموا شهداء. في العام 1966، تأسست طلائع حرب التحرير الشعبية من فرع حزب البعث، وكان أحمد قايد الصايدي، قائد الجناح العسكري - حسب الصحفي القدير نجيب اليابلي، وشهادة الفقيد عبدالوكيل السروري - عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي.
في كتاب «تريم بوابة الفكر القومي إلى اليمن؛ علي عقيل ابن يحيى رائدًا»، يشير الباحث الدكتور صالح أبوبكر ابن الشيخ أبوبكر، إلى تبني علي حسين القاضي استراتيجية العمل السياسي، وهو نهج حزب الشعب الاشتراكي، والزعيمين الأصنج وباسندوة المتعاطفَين مع البعث، مؤكدًا على نشأة منظمة عسكرية حزبية: "طلائع حرب التحرير الشعبية" (باختصار شديد، راجع: ص131، و132).
وفي كتاب الدكتور أحمد عطية «النجم الأحمر فوق اليمن» يذكر أنه "أُشيع عام 64 أن الحزب قد عقد اتفاقًا مبدئيًّا مع حزب العمال البريطاني بموجبه يلتزم هذا الأخير بالاعتراف بحق شعب اليمن الجنوبي بتقرير مصيره بنفسه عندما يصبح في السلطة، وبالمقابل التزام حزب الشعب الاشتراكي بمبدأ تأجير قاعدة للبريطانيين لمدة محدودة". ويضيف: "وقد يكون مرجع هذا التصور علاقة حزب الشعب الاشتراكي بحزب العمال البريطاني، وتحفظه الخاص أول الأمر بشأن الكفاح المسلح في عام 1963" (ص 98).
ويؤكد الدكتور عطية في الكتاب المشار إليه (ص 128): "أما حزب الشعب الاشتراكي، وهو القوة السياسية والنقابية الرئيسية في المنطقة حتى عام 1963، فقد حدد موقفه من الكفاح المسلح في كراسة صغيرة أصدرها عام 1964، ويتلخص في رفض الحزب مسايرة من يرفعون الشعارات المتطرفة الذين لم يعرفوا العمل الوطني إبان الصراع ضد الاستعمار، وخاصة عام 1956، وشجب الإفراط في العواطف؛ حتى لا تتحول البلاد إلى سوق للتنافس على السلاح وإلى كونغو، وإلى استمرار النزيف في المنطقة". وللأمر علاقة بالروابط النقابية، وبالاتجاه الفابي (الاشتراكية الفابية)، والوثوق بالوعود البريطانية، وقد تغير الموقف 180 درجة بعد تأسيس جبهة التحرير في يناير/ كانون الثاني 1966، تحت ضغط الأحداث والتدخل المصري.
الدكتور أحمد يوسف أحمد في كتابه «الدور المصري في اليمن» يرصد العلاقة بين قرار بريطانيا الانسحاب في 1968، ونوايا الجيش المصري استمرار الوجود في اليمن لملء الفراغ.
منذ العام 1965، بدأت الحرب في الشمال تأخذ أبعادًا شديدة الخطورة على مصر؛ فقد اتسعت رقعة القتال، ودخلت قوى دولية ومرتزقة أجانب بالمئات، وبدأ الانشقاق في الصف الجمهوري؛ فكانت المؤتمرات الانشقاقية بزعامة حزب "الأحرار اليمنيين" والقوى التقليدية، وكبار المشايخ، وبعض الضباط المتذمرين من الوجود المصري: «مؤتمر عمران»، و«الجند»، و«خمر»؛ وصولًا إلى «الطائف»، فـ«جدة»، فـ«مؤتمر حرض». ورغم فشل مؤتمر حرض، أو بالأحرى إفشاله، وعدم الالتزام باتفاقية جدة، حرص عبدالناصر على استمرار نهج التسوية التي راهن عليها مع فيصل منذ «مؤتمر أركويت» 1964، وظل قائمًا، وتعزز بانشقاق الجمهوريين عام 1965، بعد مقتل الزبيري، وفشل حكومة النعمان، وذهاب كبار المشايخ وضباط وسياسيين إلى الطائف، وإعلان الدولة الإسلامية بزعامة "القوى الثالثة".
تكونت الجبهة القومية من ستة كيانات: "الجبهة الناصرية"، "حركة القوميين العرب"، "المنظمة الثورية لجنوب اليمن"، "التشكيل السري للضباط والجنود الأحرار"، "جبهة العمل"، "تشكيل القبائل".
الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار» يتناول «حرب الثلاثين سنة»، ويأتي على ما يسميها «محاولات تهدئة»، مشيرًا إلى أنه "في الشهور الأخيرة من سنة 1965، والشهور الأولى من سنة 1966، رغم محاولات متعددة على جبهات مختلفة لاستثارته، كان جمال عبدالناصر يشعر بحسه أن دواعي الحرص واليقظة تدعوه إلى ممارسة سياسة تهدئة عامة في المنطقة". وفي هذا السياق نقرأ إرغام بعض قيادة الجبهة القومية على توقيع اتفاقية الدمج في 13 يناير/ كانون الثاني 1966.
منذ البدء تصدرت حركة القوميين الدعوة للكفاح المسلح عبر لقاء دار البشائر المشار إليه، وبسبب من وجودها الشعبي القوي والفاعل في الثورة اليمنية، وامتدادها في المدن اليمنية، وفي الجيش والأمن، وفي النقابات العمالية، وفي بياناتها ومنشوراتها مستفيدةً من التحالف مع مصر عبدالناصر، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أنها لم تكن وحدها في الميدان السياسي، أو في الدعوة للكفاح المسلح.
يشير الدكتور أحمد عطية في الكتاب المشار إليه قبلًا، إلى الأطراف المكونة للجبهة القومية عام 1963؛ أي بعد عام واحد من قيام ثورة الـ26 من سبتمبر؛ فقد تكونت عن طريق تجمع الأفراد والجماعات والمنظمات التي آمنت بالكفاح المسلح طريقًا لحل التناقض مع الاستعمار البريطاني وعملائه المحليين، وتبنت الجبهة بشكل مؤقت ميثاقها القومي الذي حدد بشكل مختصر وسريع تصوراتها بالنسبة للمبادئ والأهداف، كما اتخذت موقفًا معاديًا من الماركسيين اليمنيين؛ وهذا يفسر استبعادهم من المشاركة في الجبهة القومية عند تكوينها رغم تأييدهم لها، كما امتنع عن المشاركة في الجبهة التنظيمات السياسية التي لا تؤمن بالكفاح المسلح مثل «رابطة أبناء الجنوب» بوصفه أبرز التنظيمات الموجودة؛ ولأنه كان معروفًا على الصعيد الدولي، ولوجود عناصر شريفة داخل الحزب، بحسب تعبير عطية. وقد تكونت الجبهة القومية، كما تؤكد العديد من المصادر الموثوقة، ومنها الكتاب المشار إليه، من:
"الجبهة الناصرية"، "حركة القوميين العرب"، "المنظمة الثورية لجنوب اليمن"، "التشكيل السري للضباط والجنود الأحرار"، "جبهة العمل"، "تشكيل القبائل".
ولعل تعدد أطراف الجبهة، وغياب الخبرة والتجربة الديمقراطية، والاعتداد الكبير بالقوة والحضور الكبير للريف والانتماءات القبلية والجهوية، هو ما يفسر انتشار تفشي العنف، والصراعات داخلها مبكرًا، وظل مستمرًا حتى اليوم.
لكي نقرأ اتفاقية الدمج التي فرضتها المخابرات المصرية، وكانت بمثابة إعاقة أو تعطيل للكفاح المسلح، لا بد من إدراك نهج التسوية، ومحاولات التهدئة التي أشار إليها الباحث أحمد يوسف، والأستاذ هيكل في «الانفجار».
تتحول الحرب في اليمن في شمال الشمال، والشرق من تمرد قبلي محدود إلى حرب وطنية، وشيئًا فشيئًا ترمي السعودية بكل ثقلها، وتدخل بريطانيا وفرنسا والأردن وإيران والأمريكان وإسرائيل، تحضيرًا لحرب 67. يستشعر الزعيم عبدالناصر المخاطر المحدقة؛ فيتجه للتسوية: «أركويت»، «اتفاقية جدة»، «مؤتمر حرض» - القمم العربية للتسوية مع السعودية، والتهدئة مع بريطانيا، وفرض الدمج القسري، لكن المخطط كان قد قطع شوطًا بعيد المدى. يؤكد هيكل أن القاهرة كانت متفائلة أكثر من اللازم، وأن الأمر برمته في الجزيرة والخليج كان قد خرج من يد حزب العمال إلى أطراف لا يريدون الحل، مشيرًا إلى حلف الأطلسي وبعض الدول الأوربية وإسرائيل التي كانت رؤيتها أوسع من رؤى الآخرين، وأكثر تحديدًا وتركيزًا. (الانفجار، ص 231–223).
كما يشير هيكل إلى اتفاق النوايا بين جونسون المنشغل في حرب فيتنام، وبين إسرائيل التي كان عليها أن تضبط الأمور في الشرق الأوسط أثناء انشغاله، ونيابة عنه وبالأصالة عن نفسها. (ص 339).
ويؤكد أن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون يتصرف في موضوع صفقات السلاح لإسرائيل وغيرها بدون أي دواعي للحذر؛ فقد كان العالم العربي أمامه مفتوحًا لكل محاولات التأثير والضغط والاختراق، كما أن عناصر عديدة في العالم العربي كانت على استعداد لأن تعترف معه بأن العدو في الشرق الأوسط هو الجهورية العربية المتحدة وليس إسرائيل. (الانفجار، ص 347). وهو ما تكرر في حرب الخليج الأولى، وتجلى في الحرب ضد الربيع العربي، وتدمير الكيانات العربية، والهرولة للتطبيع. ويخلص هيكل للنتيجة التي وصلنا إليها في 5 حزيران/ يونيو 67 في «الانفجار»، النص (ص 371).
في الأيام الأخيرة من سنة 1966، كان واضحًا أن القرار الأمريكي النهائي هو الخلاص من ناصر - على حد التعبير الذي استعمله دافيد نيس، القائم بالأعمال الأمريكي في القاهرة في خطابه القلق إلى نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب شرق آسيا، وكان هذه الاتجاه سياسة مقررة على مستوى البيت الأبيض، ومعروفة في دوائر صنع القرار الأمريكي، أن الأسلوب الذي انتهى إليه جونسون هو إطلاق حرية العمل لإسرائيل؛ وهو ما عبر عنه يوجين بلاك في مقابلته مع جمال عبدالناصر يوم أول ديسمبر/ كانون الأول 1966: «To unleash Israel»، وأما العنصر المحاط بالسرية الكاملة، فهو الطريقة والأسلوب والتوقيت، التي يتم بها إطلاق حرية العمل لإسرائيل.
التهدئة والمساومة من جانب مصر، ومحاولة فرضها على الجبهة القومية عبر الدمج القسري، ومحاولات استرضاء السعودية وبريطانيا، كانت تواجَه بالتحضير المحموم ليوم الـ5 من حزيران/ يونيو 1967، وكانت إسرائيل الأداة الموكل إليها مهمة تنفيذ المخطط، وهو، للأسف الشديد، ما تكرر في حرب الخليج الأولى، وتحويل الصراع من صراع عربي - إسرائيلي، إلى صراع عربي – فارسي، ملغوم بالأبعاد الطائفية، والإرث الإمبراطوري، والقومية الشوفينية، ودعوات التمكين، وخرافة زمن الظهور، وإيكال المهمة مجددًا لإسرائيل، ولكن لقيادة المنطقة نيابةً وأصالة.
كان انتصار استقلال الجنوب، وكسر الحصار عن صنعاء انتصارًا كبيرًا للثورة العربية، وردًّا قوميًّا على هزيمة 67، وهو ما قاله الزعيم العربي عبدالناصر لأكثر من زائر يمني.
رفضت الجبهة القومية الدمج القسري، وواصلت الكفاح المسلح حتى إعلان الاستقلال في 30 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وصمدت صنعاء في مواجهة حصار السبعين يومًا لتنتصر في بداية فبراير/ شباط 1968.
كان انتصار استقلال الجنوب، وكسر الحصار عن صنعاء انتصارًا كبيرًا للثورة العربية، وردًّا قوميًّا على هزيمة 67، وهو ما قاله الزعيم العربي عبدالناصر لأكثر من زائر يمني.
بعد مضي 57 عامًا على استقلال الجنوب، لا بد من القراءة، وإعادة القراءة في مسار تجربة ثورة الـ14 من أكتوبر. صحيح أن رفض الكفاح المسلح كان موقفًا خاطئًا وسوء تقدير، ويظل اجتهادًا سياسيًّا، خصوصًا لدى أطراف حزب الشعب الاشتراكي، وحزب البعث، اللذين التحقا متأخرين بالكفاح المسلح، وهو لا يبرر بحال، المواجهات المسلحة، والتصفيات، والاغتيالات، والعنف ضد الأطراف المختلفة مع الجبهة القومية.
خطيئة العنف ضد المختلف السياسي والفكري، والاغترار بانتصار السلاح، والجنوح إلى احتكار السلطة والاستهانة الشديدة بالعمل السياسي والتعددية السياسية والحزبية الموروثة، وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد - كان "كعب أخيل" في التجربة التقدمية للجبهة، وأدّى إلى نتائج كارثية أخطرها كارثة 13 يناير/ كانون الثاني 1986.
النصّ في الميثاق السياسي على الأرض للفلاح، والإصلاح الزراعي، وتأميم الاحتكارات الأجنبية، والمساواة بين الرجل والمرأة، ومكافحة الأمية، وضعت الجبهة القومية في مصاف القوى الأكثر جذرية في حركات التحرر الوطني، ولقي التأييد من قبل اليسار والمعسكر الاشتراكي، ولكن الخطيئة في التطبيق قد جرّت الويلات؛ فالاحتكارات الأجنبية، ورأس المال، وملاك العقارات والبنوك هرّبوا الأموال، وغادروا البلاد بعد تفليسها، وكانت الإجراءات، سواء في الإصلاح الزراعي، أو التأميمات، غاية في القسوة والتطرف.
لم تجد الجبهة القومية ما تؤممه؛ فأممت قوراب الصيد والمنازل والدكاكين والسينما والحيازات الصغيرة، وصادرت السياسة، كما صادرت الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد.
ورغم الحرب الداخلية والخارجية ضد الثورة، والمكائد الرجعية والاستعمارية، والصراعات الدامية داخلها والحصار، فقد أنجزت ثورة 14 أكتوبر توحيد 22 سلطنة ومشيخة، وشكلت الأساس للدولة بالمفهوم الحديث للدولة، وحققت إنجازات اقتصادية وثقافية وسياسية؛ ما تحتاج معها إلى وقفة أخرى، ودراسة مستقلة أوسع وأشمل.