ما أصعب نقد اللحظات الكبرى في تاريخ الشعوب. وأتحدث هنا عن النقد بمعناه الحقيقي، الذي يبين السلبيات والإيجابيات. وأمام لحظة مفصلية كالربيع العربي، المعروف يمنيًّا باسم "ثورة فبراير"، يتردد المرء كثيرًا بين شجاعة النقد وبين مسايرة "روح الجماعات" وعقلها الجمعي.
وروح الجماعات المتعلقة بالربيع تنقسم إلى مسارين متخاصمين، تشتعل بينهما ثورة الهجوم والهجوم المضاد كل عام. جماعة مدح الربيع، التي تراه كل شيء وبداية التاريخ وأعظم أحداث العصر، وبين جماعة قدح الربيع، التي تراه بداية الخراب والمؤامرة الكبرى ضد الاستقرار.
ولاستحالة قول كل شيء في الحيز الضيق للمقال، سأركز على نقد منطلقات وآليات الربيع العربي.
من وجهة نظري صار لدينا أربعة عوائق، تمنعنا من تكوين فهم علمي موضوعي للربيع.
العائق الأول: عائق عاطفي، يتمثل في حالة الفشل التراجيدية التي مُني بها الربيع في كل تجلياته باستثناء تونس، وهو فشل يعطي خصوم الربيع أرضية صلبة للهجوم والسخرية، ويدفع أنصار الربيع إلى اتخاذ موقف عاطفي ينحو نحو تبجيله وتقديسه وإخراجه من دائرة العقل والسياسة إلى دائرة الأسطورة.
رغم مرور 10 سنوات على الربيع، ما زال الشباب الذين شاركوا يرون أنفسهم شبابًا، وكأن الزمن تجمد بهم عند تلك اللحظة، وهذا نوع من النكوص الطفولي إلى مرحلة ماضية، وما زال الثائر الذي أصبح جزءًا من النظام الجديد والفساد الجديد يرى نفسه ثائرًا في الساحة
العائق الثاني: عائق معرفي، سببه سيطرة مرجعية "الثورة" كإطار تفسيري للربيع. والحقيقة أن للثورات شروطًا وآليات لا ينطبق أغلبها على الربيع العربي، ويتحول الإصرار على استخدام مرجعية الثورة لتفسير الربيع إلى سلوك أشبه بتقطيع أوصال الزبون ليتناسب مع الثوب، بدلًا من إعادة تصميم الخياطة، لتتلاءم مع حجم الزبون.
العائق الثالث: عائق نفسي، هو التقسيم الثنائي للمواقف حول الربيع إلى "أبيض وأسود"، "فلول وثوار"، "الثوار وأتباع النظام"، "الشعب والبلاطجة/ الشبيحة". غير أن الصورة كانت، وما زالت، أكثر تعقيدًا من هذا. كان صف الثورة طيفًا واسعًا من الإسلاميين والقوميين والليبراليين والجهاديين والطائفيين والعشائريين والشرفاء واللصوص المنضمين للثورة؛ لأن النظام قيد طاقاتهم عن السرقة، وكان صف النظام طيفًا واسعًا من أتباع النظام بكل فساده، ومن الإصلاحيين المؤمنين أن الإصلاح هو الحل، والثورة قفزة في الفراغ، ومن المستفيدين الراغبين في تجميد اللحظة والمنفعة عندهم فقط، ومن المتشككين الذين يرون أن القوى المتحكمة في الساحات أكثر تخلفًا واستبدادًا من النظام الذي ثاروا ضده.
لكنني هنا ما زلت واقعًا في نفس خطاء تقسيم المواقف من الربيع إلى "نظام وثوار"، متناسيًا أن "الأغلبية الصامتة" ظلت أغلبية وصامتة حتى أثناء الربيع. ورغم أن ساحات الربيع شهدت أوسع مشاركة سياسية في تاريخ البلد، إلا أن غالبية المواطنين في الريف والمدن ظلت بعيدة ومتشككة ومتفرجة على ما يحدث.
أما العائق الثالث، وهو يمني خاصّ، فهو الإصرار العجيب على اعتبار "ثورة فبراير" ثورة شباب واستبعاد بقية الأطياف الاجتماعية منها، وهو إصرار له هدف حسن النية هو "تطهير" الثورة من القوى الاجتماعية "غير الثورية" التي انضمت لها وسيطرت عليها فيما بعد، لكن لأن الطريق إلى النار معبّد بالنوايا الحسنة، فإن الإصرار على شبابية فبراير له هدف آخر، سيئ النية، هو استبعاد الطابع السياسي المباشر من حدث فبراير، وتحويله إلى احتجاج رومانسي شبابي، بلا هدف ولا تخطيط ولا أفق.
هذه العوائق الأربعة، حولت الربيع إلى مجال عصي على التفكير، وصادرت الأسئلة الرئيسية التي كان لا بد أن تطرح، من أجل فهم أفضل للماضي وتخطيط أفضل للمستقبل.
يجب أن نتخلص من العائق العاطفي، لنعترف أولًا بفشل احتجاجات الربيع، فالاعتراف والمراجعة لا يعني رفض مبدأ الخروج على الظلم، ولا يعني أبدًا القول إن الأنظمة كانت على حق أو إن مطالب التغيير كانت خاطئة. المراجعة تعني الإجابة على السؤال المركزي الذي يهرب منه الثوار: لماذا تحول الربيع إلى انهيارات كارثية وحروب أهلية وأوطان مدمرة؟
أما بالنسبة للعائق المعرفي، فلا حل للخروج منه إلا بالتخلي عن الثورة كإطار مرجعي، والاستفادة من الدراسات الغربية، التي صارت توظف مفهوم "الحركات الاجتماعية" Social Movements، لتفسير الربيع العربي وغيره من التحركات.
يربط محتجو الربيع العربي، ذهنيًّا، بين تحركهم وبين "الثورة الفرنسية"، وهو ربط يفتقر للدقة ويقفز بين مجالين ثوريين مختلفين لا تشابه بينهما، فلم يعرف العرب غير نوعين من الثورات: الثورات التحررية التي قادها العسكر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي التي دشنتها ثورة يوليو، ثم الثورات الدينية التي مثلتها الثورة الإيرانية 1979. ولم يغادر الربيع العربي أبدًا سيناريو الثورتين: الثورة التي تقذف بالمجتمع في حضن العسكر، والثورة التي تقذف بهم في حضن المفتي.
كانت الثورة الفرنسية نتاج عصر التنوير وأفكار روسو وكَانْت والعلمانية والحرية وسيادة القانون، أما الربيع العربي فكان في مجمله ابن عصر الأسلمة والتنوير المضاد المعادي للحداثة من ناحية، وابن مرحلة اللعبة الانتخابية التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة وتدشين سياسات الإصلاح الاقتصادي من الناحية الأخرى.
تحت هذا الإطار فإن الإحالة للثورة الفرنسية لتبرير فشل الربيع، بحجة أن الثورة الفرنسية استمرت عشرات السنين قبل تحقيق أهدافها، إحالة في غير محلها. لا الظروف هي الظروف، ولا المجتمع هو المجتمع! والأصح هو الإحالة للثورة الإيرانية؛ لأنها الأقرب لتفسير ما حدث.
ربما أكون قاسيًا لو قلت إن مفهوم الثورة لم يعد لديه الكثير ليقدمه بعد تراجع كل ثورات القرن العشرين. ولا أعتقد أنها مصادفة أن "ثورات" الربيع حدثت داخل بلدان الثورة (اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، الجزائر، السودان)، ولم تحدث داخل بلدان الثروة. لا يعود هذا برأيي إلى انتشار الممارسة الثورية داخل هذه البلدان، بقدر ما يعود إلى استهلاك مفهوم الثورة وشرعيتها داخلها. إن الربيع العربي ثورة ضد الثورة بمعنى من المعاني أو انتفاضة ضد أنظمة الثورة التي استهلكت مشروعية الحدث باسم الثورة طوال ستة عقود، وفشلت في أغلب مهامها.
إن الغضب والتمرد ضد الميراث الثوري ظاهرة عالمية. في روسيا -مثلًا- توقف الروس عن الاحتفال بثورة أكتوبر، بعد أن تحولت إلى حادث تاريخي، ولم يعد لها ذلك الرونق والخيال التاريخي بعد تجربة 70 عامًا من الحكم الشمولي والانهيار الاقتصادي وقمع الحريات. ونفس الشيء يمكن قوله عن الثورة الصينية التي كانت نهايتها بدخول الصين عالم الاقتصاد الرأسمالي عام 1978، وهو القرار الذي أدى بعد عقدين إلى تربع الصين على المقعد الثاني للرأسمالية في العالم بعد أمريكا. كما لا يختلف الحال في كوبا التي لم يتبقَ منها إلا توريث السلطة، وطوابير الهاربين من كوبا إلى أمريكا على قوارب التهريب.
وفي الشرق الأوسط، لا يمكن فهم الانتفاضات الحادثة اليوم في إيران والعراق ولبنان بعيدًا عن رفض سردية الثورة الإسلامية التي ورثت الفقر والخراب في عدة دول. بل إن انتفاضات هذه الدول الثلاث هي انتفاضات ضد الميراث الأسود للثورة الإسلامية.
إذا كان لنا أن ندعو التظاهرات الجماهيرية في الشوارع العربية "ثورات"، فهي ثورات ضد مفهوم الثورة المتكلس نفسه، وضد الأنظمة التي حكمت بخطاب "حماية الثورة"!
أما عائق التقسيم الثنائي المانوي للربيع إلى ثوار وفلول/ بلطجية/ شبيحة، فقد تحول المحتجون بسببه إلى أصحاب طرح بوليسي أحادي يصنف كل ما هو مختلف معهم تحت دائرة الخيانة، ولعل هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لمن يدعي الثورة. صار الثائر يحاكمك حتى على صمتك، ويخوّنك إذا اختلفت في تفصيل صغير من تفاصيل شعاراته الجوفاء التي لم تتغير منذ 10 سنوات.
أما العائق الرابع، ذو الخصوصية اليمنية، وهو حصر الثورة على الشباب خصوصًا، فإلى جانب مجانبته لواقع عرفناه وعايشناه جميعًا، فهو -مهما كانت نواياه الحسنة- تفريغ للانتفاضة الشعبية من مضمونها الشعبي. كان الرئيس السابق يكرر هذه النغمة، ويطالب بحوار مباشر مع الشباب، متهمًا الأحزاب بسرقة ثورتهم! لكن سردية الثورة الشبابية تتعارض مع سردية الثورة الشعبية، فهي إما أن تكون ثورة الشعب أو ثورة فئة محدودة من الشعب.
رغم مرور 10 سنوات على الربيع، ما زال الشباب الذين شاركوا يرون أنفسهم شبابًا، وكأن الزمن تجمد بهم عند تلك اللحظة، وهذا نوع من النكوص الطفولي إلى مرحلة ماضية، وما زال الثائر الذي أصبح جزءًا من النظام الجديد والفساد الجديد يرى نفسه ثائرًا في الساحة، إنه يجمع بين شرعية الثائر وسلطة رجل النظام، في نفس الوقت، يحتكر السلطة والمعارضة، الثورة والشرعية معًا، فإذا انتقدتَ الثورة فأنت خائن، وإذا انتقدت النظام الجديد الذي يحمل سوطه، فأنت متخاذل.
ما أحوجنا لإعادة فهم الربيع ونقده من الداخل.