بعد مضي عشر سنوات على انطلاق ثـــــــــــــــورة 11 فبراير 2011، يشهد اليمن أزمات حادة وانقسامًا غير مسبوق، فقد أدت الحرب التي اندلعت قبل ست سنوات إلى تأجيج النزاعات الاجتماعية، وتصدع البنيان الاجتماعي، الأمر الذي يجعل المجتمع أمام مرحلة تحول حاسمة وخطيرة، لم تكتمل ملامحها ولم تنتهِ فصولها، وهو ما يتطلب فهم مآلات هذه الثورة، وعلاقتها بالتطورات الراهنة.
الظروف التي رافقت قيام الثورة وعلاقتها بالتحديات الراهنة:
اتسم نظام الحكم الجمهوري في اليمن بوجود اختلالات بنيوية، أعاقت تطور دوره الوظيفي في التحديث والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لتظل معدلات الفقر في هذا البلد "أكثر عمقًا وأشد حدة من أي بلد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"[1]، بما يعوق التهيئة للتغيير، "فالفقر المدقع يمكن أن يرافقه، ليس فقط الضعف الاقتصادي، بل أيضًا العجز السياسي، ويمكن أن يكون أي تعيس جائع شديد الضعف وموهن العزيمة إلى درجة تفقده القدرة على الاحتجاج"[2]، ووفقًا للإحصاءات الرسمية "يستوعب النشاط الزراعي في اليمن 33% من قوة العمل"[3]، بما يعنيه ذلك من هيمنة الثقافة التقليدية؛ حيث تؤدي الزراعة في المناطق الريفية الفقيرة، إلى جانب عوامل أخرى (مثل عدم انتظام هطول الأمطار)، إلى مستوى مرتفع من انعدام الأمن الاقتصادي بين الفلاحين، وإلى رفع نسب البطالة بين العمال الزراعيين، ما يجعل هذه المناطق مرشحة أكثر لإمداد الحركة الاجتماعية بنوع من المحتجين، يستندون في الغالب إلى أيديولوجية قديمة تعمل على إعاقة الانتقال إلى المجتمع الحديث، ومن المرجح أن تلجأ الحركات التي جل أعضائها من الفلاحين إلى العنف، فأيديولوجيتهم، إن وجدت، هي أفكار تلفيقية قديمة[4].
تمكنت الجماعات السياسية المنظمة من السيطرة على الساحات إلى حدٍّ كبير، وهي في معظمها جماعات سياسية تميل إلى التكتيك بدلًا من الاستراتيجية، ليس فقط لأنها اعتادت على العمل في نطاق ما هو متاح من هامش حرية الرأي، بل -أيضًا- لأنها صارت في مقدمة الحركة الاجتماعية، بما ترتب عليه من إدارة لأساليب احتجاجية ومهام سياسية، ربما تفوق ما وجدت لأجله
وفي اليمن سبق قيام الحراك الثوري تشكُّل الحركات الاجتماعية، لا سيما الدينية والعرقية والمناطقية، فقد شهد اليمن ظهور العديد من الحركات الاجتماعية بخلفياتها الاجتماعية والفكرية المختلفة، ابتداءً بتكوُّن «اللقاء المشترك» المعارض وظهور الحركة الحوثية المسلحة، ثم الحراك الجنوبي السلمي، وهذه الحركات –بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية المستقلة والمنشقين عن الحزب الحاكم- تَشكَّل منها الحراك الثوري، ويشير هذا التنوع في الاتجاهات السياسية والاجتماعية للثورة، إلى مخاطر التعبئة الشعبية وما أضمرته الجماعات ذات الأيديولوجيات القديمة، التي غالبًا ما تنبئ مشاركتها في الثورة بعودة فاعلين قدماء؛ بما يتيح لها لعب أدوارٍ تمكنها من إعاقة التغيير، فالزعماء الدينيون والقبليون أو القادة السياسيون المنشقون عن النظام السابق؛ يستمرون بتوظيف هذه القوى المبعثرة، لمصلحتهم، حتى إنهم يتوصلون إلى التفاهم معها عبر توزيع ماهر للمصالح الخاصة؛ لأن البنية الاجتماعية لا تتقبل الجديد، وتميل إلى دعم ما هو قائم، وهو ما أسهم في تمكين الأحزاب والجماعات السياسية والاجتماعية من السيطرة على الثورة واحتوائها، فانطلاق ثورة 11 فبراير كان مزيجًا من التأثر العاطفي بموجة الثورات العربية، وسعيًا لتحقيق غايات سياسية، وكان الدور المركزي فيها للفاعلين السياسيين (المنظمين) من ناشطي وقيادات الأحزاب والجماعات السياسية؛ بالاستناد إلى أنَّ لهم أهدافًا يسعون لتحقيقها، وأنهم يقومون بحساب عقلاني للتكاليف والفوائد المرتبطة بالخروج للمطالبة بالتغيير، فالثـــــــــــــــورة ليست مجرد ردود فعل غير عقلانية، إذ «يمكن للأفراد إجراء تقييم للتكلفة، لتحديد ما إذا كانوا سيشاركون في الاحتجاج أم لا»[5]، لكن يبدو أن الحوافز التي ترتبت على تنحي اثنين من الرؤساء العرب في غضون شهر واحد كانت كافية لدفع الشباب -ومعظمهم من المعارضة- لاقتناص الفرصة. «فقادة الحراك الثوري يضخمون من فرص النجاح ويقللون من العقبات، وبعض الحركات الشعبية تُبنَى على الأمل أكثر مما تبنى على إدراك رشيد وواضح للواقع السياسي»[6]، استنادًا إلى قدرة الحركة على خلق إطارات خطابية ذات بعد أكثر سوءًا للأوضاع القائمة مما تبدو عليه في الواقع، بحيث تَسْهل لها عملية التعبئة لتحقيق الأهداف المنشودة.
تمكنت الجماعات السياسية المنظمة –وفي مقدمتها اللقاء المشترك- من السيطرة على الساحات إلى حدٍّ كبير، وهي في معظمها جماعات سياسية تميل إلى التكتيك بدلًا من الاستراتيجية، ليس فقط لأنها اعتادت على العمل في نطاق ما هو متاح من هامش حرية الرأي، في مرحلة ما قبل 11 فبراير، بل -أيضًا- لأنها صارت في مقدمة الحركة الاجتماعية، بما ترتب عليه من إدارة لأساليب احتجاجية ومهام سياسية ربما تفوق ما وجدت لأجله، ابتداءً بالمطالب الاستراتيجية بعيدة المدى، ومنها: مطلب بناء الدولة المدنية، ومطلب إحداث تغييرات جذرية في النظام الاجتماعي، الذي ارتبط بجماعات راديكالية محدودة[7].
فالحركة الاجتماعية في السياق اليمني -في معظمها- لم تهدف إلى إحداث تغييرات «راديكالية» في النظام الاجتماعي العام، ولا سيما في مجالات توزيع الثروة، وعلاقات العمل، إذ لا يمكن الانتقال إلى نظام اجتماعي مختلف تمامًا، إلا عندما يُنظر إلى النظام الاجتماعي باعتبار أنَّه عمل إنساني يخضع لإرادة الإنسان[8]، فالحركات الاجتماعية من هذا النوع مصاحبة لعلمنة الفكر، ومن الصعوبة بمكان بلوغ هذا الهدف في المجتمع اليمني، على الرغم من تأثير العولمة والاتصال الثقافي مع الغرب، في ظل استمرار حالة الانقسام الداخلي وتأثير التدخل الخارجي، فحتى الدول الغربية ذاتها قد لا تساند تغيير من هذا النوع في دولة عربية كاليمن، «فالدول الغربية تُعلي من مسألة تدفق النفط ومنع الهجرة وحماية أمن إسرائيل ومكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي، ولم تقتنع بعد بأهمية الديمقراطية في هذا السياق، نظرًا إلى تخوّفها من نتائج الانتخابات الحرة على مصالحها تلك»[9] .
تقدير تكاليف وفوائد الثورة ضد نظام سياسي قمعي تزداد تعقيدًا؛ بسبب تأثير التدخل الخارجي، ووجود اختيارات أخرى لدى الفاعلين السياسيين في الداخل، منها: الفرار أو الهجرة أو الخروج من البلد، وهو ما حدث في اليمن
وفي اليمن أفضت التسوية السياسية المتمثلة في المبادرة الخليجية -التي أشرفت على تنفيذها السعودية- إلى انتخابات رئاسية غير تنافسية، الأمر الذي جعلها مدخلًا للتفكك والانقسام داخل الحركة الاجتماعية وعلى المستوى الوطني، فتحولت على إثرها الأوضاع إلى حالة من الصراع، أعقبها التحضير لمؤتمر الحوار الوطني، وفيه تعاظم تأثير الأحزاب والجماعات السياسية، ومنها تلك التي كانت جزءًا من النظام السياسي السابق، بما ترتب عليه من انخفاض سقف المطالب الثورية، وظهور الانقسامات داخل الحركة الاحتجاجية، وهو ما أتاح لبعض القوى الإقليمية المزيد من التدخل لتعزيز انحراف مسار الثورة، وتعزيز تغييره باتجاه الصراع المسلح، حيث تخلت بعض الجماعات عن أساليب الثـــــــــــــــورة السلمية وقواعد عملها، وصارت تنظر للسياسات التي ينتهجها الخصوم نظرة العداء؛ انطلاقًا من شعورها بالمظلومية.
فتقدير تكاليف وفوائد الثورة ضد نظام سياسي قمعي تزداد تعقيدًا بسبب تأثير التدخل الخارجي، ووجود اختيارات أخرى لدى الفاعلين السياسيين في الداخل، منها: الفرار أو الهجرة، أو الخروج من البلد، وهو ما حدث في اليمن، من قبل بعض الناشطين والمثقفين ورجال المال والأعمال وأعضاء الحكومة والقادة السياسيين والعسكريين من مختلف الأحزاب والجماعات السياسية والمنشقين مع عوائلهم، والكثير من الإعلاميين والناشطين، وكانت وجهتهم -في معظمها- إلى الرياض والقاهرة وإسطنبول، فعندما تغلبت الثورة المضادة على الثورة المصرية بقيادة الإخوان المسلمين، في 30 يونيو 2013، ازداد تفكك الحركة الاجتماعية في اليمن، وازدادت الخلافات والاختراقات داخل الحركة، وهو ما حفز بعض القوى الإقليمية على استقطاب بعض الجماعات الاجتماعية، ليتطور انقسام الحركة إلى إظهار الارتباط بمحاور إقليمية، وتحديدًا محور إيران الرافض للمبادرة الخليجية، وفي مقدمته جماعة الحوثي، وبعض فصائل الحراك الجنوبي، ومحور السعودية ودول الخليج المؤيد لهذه المبادرة، والذي تمثَّل في «الإصلاح» و«الاشتراكي»، و«الناصري» وبعض الجماعات الجنوبية، وجزء من «المؤتمر» والمستقلين، فتحوَّلت الثورة السلمية إلى نزاع مسلح، واحتمالات استخدام العنف تزداد بازدياد الخوف من فقدان السيطرة على التهديد المتصاعد[10].
مآلات الثورة:
يمكن القول إن قوة التأثر العاطفي بالحراك الثوري العربي وهويته وخطابه الجماعي عزز الفاعلية السياسية للحركة الاجتماعية في اليمن، ومكّنها من تحقيق التكتل، لكن فرص استمرار فاعلية الحركة ظلت متدنية، نظرًا لضعف البناء المؤسسي للدولة واتساع نطاق الفقر وارتفاع معدلات الأمية وازدياد حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فالصراع بين حركة اجتماعية وجماعة صغيرة من القادة السياسيين تحوَّل –جراء عمق الانقسامات وحدّة المشكلات والتدخل الخارجي- إلى صراع بالوكالة بين الجماعات السياسية والاجتماعية في اليمن.
فعندما طال أمد الثـــــــــــــــورة اليمنية؛ أصبح الشباب في حالة دفاع أمام قوى الثورة المضادة، بعد أن رأت الإجماع على الحل السياسي، فقد اختزلت المبادرة الخليجية الثـــــــــــــــورة إلى تسوية سياسية، وقدمت ما يمكن تسمية (بنصف ثورة) أسهمت في تجاوز الاحتكار السياسي والجغرافي للسلطة، كما أسهمت في إعادة توزيع الثروة، وعملت على نقَل المعارضة السياسية إلى موقع المشارك في الحكم، وتحسنت على إثرها الأوضاع الاقتصادية والمواقع الاجتماعية للشباب، في ظل كثافة التنقل داخليًّا وخارجيًّا وكثافة التواصل والاتصال السياسي والعلاقات الاجتماعية، وما ترتب عليها من منافع مادية، ففي المرحلة الانتقالية تم الحد من التعقيد البيروقراطي والحد من المركزية، التي كانت تعوق حصول الشباب على الوظائف وحصول الموظفين على الترقيات...، وتراجعت العوائق التي كانت تحد من أنشطة المجتمع المدني، إلا إن هذه المكاسب ظلت أقل من مستوى الأهداف والمطالب الثورية، وتم نسف الكثير منها جراء انحراف مسار التغيير نحو العنف.
فتردي أداء الحكومة خلال العقود الماضية ترتب عليه تدني مستوى التنمية، واتساع نطاق الفقر والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحدة الانقسامات الاجتماعية وهي في معظمها عوائق تحد من استمرار التكتل الاجتماعي المطالب بالتغيير وتعيق فاعليته في تحقيق أهدافه، فالظروف الاجتماعية والسياسية جعلت الثـــــــــــــــورة تتبلور على هذا النحو، وميزان القوى في المجتمع لم يكن ليسمح بتحقيق الثـــــــــــــــورة لأهدافها كاملة؛ وبالتالي حدث التوافق أو القبول بالحل السياسي الذي كان يبدو مقبولًا لدى معظم الجماعات السياسية، وإن لم يرقَ لمستوى المطالب الثورية.
ختامًا، يمكن البناء على تنامي الوعي السياسي، فالاعتصام في الساحات لأكثر من عام كان فرصة لتكوين الثقافة السياسية وبناء الخبرات والمعارف والمهارات، والتواصل مع قيادات سياسية واجتماعية في مختلف المجالات، ويمكن توظيف هذا العامل في التأثير على القرار السياسي، وفي تعزيز الثقافة السياسية في أوساط المجتمع، فتحقيق التغيير يتطلب التوعية السياسية؛ كما يمكن البناء على قدرة الحركة الاجتماعية في تجسيد وحدة الصف الثوري، من أجل تجاوز حالات الانقسام والتشظي المجتمعي، لا سيما وأن لها تجربة سابقة في رفع مطالب عامة تجاوزت المصالح الفئوية، وعبَّرت عن قضايا ترتبط باهتمام مختلف فئات المجتمع، فاليمن مجتمع موحد ثقافيًّا ومتجانس نسبيًّا من حيث اللغة والعرق؛ والجهوية والطائفية والقبلية تُعد عناصر أساسية في بنية المجتمع، لكنها ليست بديلًا للدولة، وإن سعت لتقويضها أو نازعتها القيام ببعض أدوارها كلما ضعفت سلطتها.
الهوامش:
[1] البنك الدولي، نت: 26/1/2020
https://data.albankaldawli.org/country/yemen-rep?view=chart
[2] أمراتيا صن، الهوية والعنف: أوهام المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، عدد (352)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يوليو، 2008، ص 145.
[3] الجمهورية اليمنية، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، كتاب الإحصاء السنوي لعام 2008، صنعاء، الجهاز المركزي للإحصاء، 2009، ص 100.
[4] See: Rudolf Heberle, Ibid, website:18/8/ 2019 https://www.encyclopedia.com/social-sciences-and-law/sociology-and-social-reform/sociology-general-terms-and-concepts/social-movements
[5] John D. McCarthy, and Mayer N. Zald, Resource Mobilization and Social Movements. J. Social. 82 (6, 1977, p 1219.
[6] See: William Gamson and David S Mayer, «Framing Political Opportunity», Comparative Perspectives on Social Movements: Political Opportunity, Mobilizing, Structures, and Cultural Framings, New York, Cambridge University Press,1996.
[7] عبدالكريم غانم، الحراك الثوري والسياسي في اليمن: دراسة سوسيولوجية للفترة من 2011-2016، رسالة دكتوراه، جامعة صنعاء، 2020، ص 211-212.
[8] See: Rudolf Heberle, Encyclopedia of Social Sciences, Types and Functions of Social Movements, Accessed18/8/2019, Available at https://www.encyclopedia.com/social-sciences-and-law/sociology-and-social-reform/sociology-general-terms-and-concepts/social-movements.
[9] عزمي بشارة، ملاحظات عن العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي، سياسات عربية، العدد 38، أيار/ مايو 2019، ص 24.
[10] Sarah A. Soule, and Christian Davenport, «Velver Glove, Iron Fisr, or Even Hand? Protest Policing in the United States», 1960-1990 Mobilization 14:1-22. 2009.