تحل الذكرى العاشرة لثورة فبراير في اليمن في وقت ما تزال فيه الحرب التفكيكية للبلد مستمرة، وليس هناك أفق لتراجع أو وقف هذا المسار التدميري، بينما تبدو شعارات ثورة فبراير عن الحرية والعدالة أبعد ما تكون عن التطبيق أو الحضور في الوقت الحالي. ففي استطلاع رأي أجرته جريدة الغارديان البريطانية عن مرور عشر سنوات للربيع العربي، كشفت بأن اليمنيين أكثر الشعوب العربية ندمًا على انتفاضات الربيع العربي، ولو وجدنا الترتيب للشعوب المشمولة بالاستطلاع، سنجد اليمن تسبقها سوريا، وقبلها ليبيا، أي الدول التي خاضت حروبًا وعانت أكثر من غيرها، لذا تبدو نتيجة الاستطلاع منطقية؛ شعوب الدول الأكثر معاناة بسبب الحروب هي الأكثر ندمًا.
رغم قناعتي الشخصية بأن تحميل ثورة فبراير مسؤولية ما يجري فيه قدر كبير من التجني، فلا يعقل أن حربًا بهذا الاتساع والتشعب أن تكون نتيجة أربع سنوات فقط من الانتفاضة والعملية الانتقالية، فالبلد قبل 2011 كانت عمليًّا تتجه نحو الحرب الأهلية والتفكك. لم يكن من الممكن أن تستمر هكذا مراوحة بين تمرد بالشمال وحركة انفصالية بالجنوب وحرب على الإرهاب، إضافة إلى تشققات برأس السلطة وأزمة سياسية عميقة، دون التهاوي والسقوط في الحرب الأهلية والتفكيك.
كانت ثورة فبراير فرصة لإنقاذ البلد من هذا المصير المأساوي لكنها أخفقت؛ لذا التعامل مع ذكرى الثورة بمنطق المناكفة، مثل الحديث عن عدم الندم واستجرار المناكفات التقليدية بين المتحمسين للثورة ومؤيدي النظام السابق، بعد أن انضم لهم جزء كبير من ثوار البارحة في فبراير 2011، يعد أمرًا غير مقبول، فشباب فبراير صاروا بالثلاثينيات أو آخر العشرينيات على أقل تقدير، وشهدوا كوارث سياسية كافية لدفعهم للتساؤل، وليس الاحتفال والمناكفة.
في حالة بلد كاليمن، وصلت لمرحلة انسداد سياسي وتدهور اقتصادي غير محتمل كان من الصعب الإصلاح والتغيير ضمن ذات المنظومة، التي كانت إشكاليتها ليست فقط ارتباطاتها ببعض رؤوس الفساد، بل أيضًا تمسكها بأساليب السياسة الفاشلة من مراوغة وتحايل وخفة تؤجل المشاكل ولا تحلها
ليس من الضروري الدفاع عن ضرورة الثورة على منظومة حكم لم يكن بالإمكان إصلاحها بسبب تاريخها الطويل بالتلاعب والكذب والتحايل على كل الضغوط السياسية والشعبية نحو الإصلاح، بل إنها منظومة وصلت لمرحلة متقدمة من الفشل وانعدام القدرة على التعافي والتصحيح، لذا كان لا بد من كسر هذه الدائرة الكارثية للنهوض بالبلد الذي كان يسقط بالتدريج نحو براثن الحرب الأهلية والتشظي. الأهم أن على من كانوا ثوارًا وتشربوا بأفكار الثورة ألا ينجروا لمنطق الباكين على اللبن المسكوب للنظام القديم؛ السؤال الفعلي: لماذا أخفقت ثورة حظيت بكل هذا الزخم الشعبي في إنقاذ البلد من المصير الذي كان ينتظره بالفعل قبل 2011، بل سارعت بالخطا نحو السيناريو الكارثي المتوقع؟
هناك لحظات ثورية فارقة مر بها المسار الثوري منذ فبراير 2011 حتى وصول هادي للحكم في 2012، ربما أبرزها لحظة التصدع المكشوف لرأس السلطة عند انضمام علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع للثورة ومعه انشق جزء من النظام، من دبلوماسيين وعسكريين وسياسيين، مما أدى إلى حل الحكومة وتعقد مسارات الثورة.
هرم السلطة
تأسس حكم علي عبدالله صالح على هرم سلطوي من ثلاثة أضلاع، لا يمكن لأحدها الوقوف دون البقية، هكذا كان حكم صالح؛ هرمٌ مكتمل قائم بوجود رفيقه قائد الجيش علي محسن، الذي دخل في تحالفات وثيقة مع تيارات الإسلام السياسي السني، خاصة الإخوان المسلمين، بينما كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ضلعًا ثالثًا لا يمكن الاستغناء عنه أيضًا، وهو الذي أصبح بعد الوحدة رئيس حزب الإصلاح الممثل السياسي للإخوان المسلمين باليمن. هكذا كان صالح هو الضلع المتخفف أيديولوجيًّا يترأس حزب السلطة، والذي دومًا لا يضم إلا مجموعة من المتوددين والمتزلفين للسلطة وبعض التكنوقراط الذين يسعون لتحسين فرصهم الوظيفية، وهذا منح له مساحة جيدة من التحرك، ساعدتها قدراته الشخصية الاجتماعية والديناميكية.
أكثر ما كان يميز هذا الهرم السلطوي هو براجماتيته العالية وإدراك كل طرف لحدود موقعه في هذا الهرم ووعيه بأهمية بقية الأضلاع، لذا ظلت الخلافات محصورة بينهم حتى عندما ارتفع سقفها بعد اشتداد منافسة الأبناء على السلطة والثروة. ليقف الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بصف صالح في انتخابات 2006 بمنطق "جني نعرفه" حسب وصفه، رغم أن ابنه حميدًا كان أحد من تزعموا الحملة الانتخابية المضادة. كذلك ظل الصراع بين علي محسن الأحمر وأحمد علي مكتومًا، رغم تجلياته العنيفة والكارثية في حروب صعدة، لكن ظل كلٌّ من علي صالح وعلي محسن يدركان أن هذا الصراع لا ينبغي أن يخرج عن السيطرة ويهدم مثلث هرم السلطة.
الوضع تغير بوفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في ديسمبر 2007، ليتصاعد الخلاف بين أبنائه وأبناء الرئيس في نزاعهم نحو الاستحواذ على الثروة، ثم تقوض الهرم كليًّا بانضمام علي محسن للثورة في 21 مارس 2011، وتحول لخصومة وعداء لا يمكن علاجهما بعد محاولة اغتيال صالح في يونيو 2011.
كان يتصور علي محسن ومعه حميد الأحمر، أنه بإمكانهم النجاة والبقاء بالسلطة بعيدًا عن صالح، بينما افترض صالح إمكانية الاستمرار بدون بقية أضلاع هرمه. كان محسن وحميد يعتمدان على توظيف حزب الإصلاح بكثرته العددية وآلته الإعلامية، بينما كان صالح يفترض أن حزبه، بكل تشعباته داخل السلطة، وإمساك ابنه بالجزء الأكبر والأهم من الجيش، إضافة لأبناء أخيه في الأجهزة الأمنية- كافيًا لتمديد سلطته الواهنة، وما حدث أن الهرم سقط عليهم جميعًا، فلكل سلطة مقومات وأضلاع لا يمكن العبث بها وافتراض استمرارها.
هكذا بدأت الآلة الإعلامية "الثورية" التابعة لمحسن وحميد، ومعهما بالتأكيد حزب الإصلاح، تروج لفكرة أن الهدف من الثورة إسقاطُ صالح وليس النظام، وأن الجيش عائلي يتبع صالح وأسرته، وظهر لأول مرة لقب صالح "عفاش"، في محاولة للإطاحة برمزية التحالف، وهو لقب الأحمر الذي طالما ربط بين هذا الثلاثي، ومن المفارقات أن يستعير طرفا الهرم السلطوي مفردات وخطابًا استخدمهما نائب الرئيس السابق علي سالم البيض، عندما كان يصف نظام صالح بالعائلي، وليس فقط القبلي، وهو الأدق.
في وقت التسابق المحموم بين أطراف الهرم للقضاء على سلطتهم المشتركة، صعد طرف آخر قريب من المنظومة الاجتماعية الحاكمة، ولكنها شابة وأكثر مسايرة للمزاج الثوري الميال للتغيير الراديكالي والتخلص من كل المنظومة الحاكمة، سواء كان تغييرًا راديكاليًّا للأسوأ أم للأحسن، فالراديكالية تحتمل التجريب والوهم أحيانًا.
ففي الساحة الثورية التي كانت تعج بكل القوى السياسية والاجتماعية، كان الأكثر تنظيمًا هو حزب الإصلاح الذي تعامل مع الحدث بابتهاج، مفترضًا سقوط النظام، وهو صحيح، لولا تمسكه بالجزء المترنح المتبقي من النظام. كان يليه الحوثي مشابهًا له من حيث التنظيم مع الفارق العددي الكبير لصالح الإصلاح، الأهم أن الحوثي كان أكثر قدرة على رفع سقف الخطاب الثوري دون اتهامه بشراكة السلطة سابقًا. في خضم الصراع المحتدم بصنعاء، بالتحديد عند انضمام علي محسن للثورة، وكأنه ثمن لصمت الحوثيين، حدث ما لم يلفت انتباه أحد، وتغاضى عنه الإصلاح وصالح معًا وهو طرد الحوثيين لمحافظ الحكومة في صعدة، وتعيين محافظ يتبعهم وهو تاجر السلاح الشهير فارس مناع، هكذا خرجت أول محافظة عن سيطرة الحكومة المركزية.
ضمن الشعارات السلمية والمدنية، كان حزب الإصلاح لا يمانع من تشجيع التمردات ضد الدولة مثل اشتباكات حمود المخلافي مع الوحدات العسكرية بالجيش وحرب الحصبة وقبائل أرحب وغيرها، رغم أن السلمية كانت تقتضي أقصى درجات ضبط النفس تجاه استفزازات النظام. كذلك تبني الحزب شعارات ثورية لا تتناسب مع تاريخه كشريك ثم كمعارض إصلاحي أثناء مرحلة صالح، كما أنه كان وراء هذه الشعارات الثورية يتلاعب بعدة أوراق، منها التضليل حول مفهوم: من المقصود بالسقوط "النظام أم الرئيس"؟ كذلك تصرفات الحزب كانت تناقض الشعارات الثورية، فكل تحركات حزب الإصلاح تتجه نحو تعديل منظومة الحكومة لصالحه، وليس نحو إحداث تحول حقيقي وإسقاط منظومة الحكم. هذه الازدواجية السياسية صفة ملازمة لهذا الحزب، حتى أثناء هذه الحرب ليظل أسير مكاسب صغيرة مؤقتة وخسائر كبيرة دائمة.
تعقيدات المسار الثوري
إسقاط منظومة الحكم من الداخل وتصدعها ليس بالحدث الخاص بثورة فبراير باليمن، هي تصدعات حتمية وتساعد كثيرًا في تحقيق الإنجاز الثوري، لكن ما حدث باليمن أنها أجهزت على الثورة نفسها، التي انخفض سقف مطالبها من إسقاط النظام لإسقاط الرئيس، وانخفض سقف توقعاتها من تغيير كامل للنخبة السياسية للإصلاح السياسي ضمن ذات المنظومة العتيقة والفاسدة.
آلت ثورة الشباب للشباب، لكنه شباب الحوثي، فهو الطرف الشاب الوحيد قيادة وكوادرًا والطرف المنظم الوحيد الذي جاء من خارج منظومة الحكم بنخبه ومفاهيمه، لكنه، عوضًا عن القفز بالبلد للأمام نحو المستقبل كما كانت تسعى الثورة، تقهقر بها مئات السنوات للوراء
في حالة بلد كاليمن، وصلت لمرحلة انسداد سياسي وتدهور اقتصادي غير محتمل كان من الصعب الإصلاح والتغيير ضمن ذات المنظومة، التي كانت إشكاليتها ليست فقط ارتباطاتها ببعض رؤوس الفساد، بل أيضًا تمسكها بأساليب السياسة الفاشلة من مراوغة وتحايل وخفة تؤجل المشاكل ولا تحلها. لذا عوضًا عن أن تنجح الثورة في احتواء هذا الانشقاق السلطوي وتوظيفه لصالحها، نجح الجزء المنشق من السلطة بتوظيف الثورة لصالحه في الترويج لصعوده للحكم، وكأنه بالفعل نجاح ثوري وتحقيق لأهدافها.
كانت الثورة تنقسم بين طرفين، طرف شباب الأحزاب، وأهمهم حزب الإصلاح، بحكم الكثرة العددية والانضباط التنظيمي، وهذه الأحزاب انخرطت في هذا الحراك الثوري ملتحقة بشبابها في البداية ثم فاعلة ومتحكمة لاحقًا. كانوا شباب الأحزاب أكثر طموحًا وثورية من قياداتهم المحنطة، لكنهم غفلوا عن حقيقة أنه من غير المعقول التطلع نحو الديمقراطية والحرية في منظومة الحكم دون فرضها بمنظومة الحزب أولًا، باعتبار الأحزاب النواة الأولى للعمل السياسي، ثم إن فاقد الشيء لا يعطيه.
الطرف الآخر، وهو الشباب المستقل ومعظمهم يفتقد الخبرة، وربما كانت تجربته في الساحات الثورية هي الأولى في حياته بالعمل السياسي أو حتى الانخراط بالمجال العام. ظاهرة الشباب المستقل الواسعة كانت نتيجة طبيعية عن حقيقة أن الأحزاب اليمنية صارت عاجزة عن التجنيد أو استيعاب أعضاء جدد بسبب تجمد قياداتها وآلياتها وضعف خطابها وغياب الأولويات الحقيقية للشارع عن برامجها.
كان هذا الشباب المستقل، بقلة خبرته وانعدام تنظيمه، التجلي الحقيقي لحلم الثورة، لكن دون قدرات وإمكانيات لتغيير مساراتها. هكذا حكمت العلاقة بين الأحزاب والشباب المستقل الكثير من التوترات، ليرتفع أغرب شعار في ثورة تطالب بالديمقراطية، شعار تجريم الحزبية، مثل "ثورتنا ثورة شباب، لا حزبية ولا أحزاب"، كان الشعار بالواقع يعبر عن رغبة في إثبات النزاهة الثورية نظرًا للسمعة الشعبية الرديئة التي اكتسبتها الأحزاب اليمنية من فساد وانتهازية وفشل، لكن هذا الشعار لم يغير من حقيقة أن الساحة كانت الأحزاب، وتحديدًا الإصلاح المتحكم الأساسي بها وبكل نشاطاتها.
يمكن القول إن انتفاضة 2011 كان من الممكن أن يتغير مسارها لو سبقها إصلاح حزبي، والشباب الحزبي بدأ بتثوير أحزابه ودمقرطتها، بحيث يمكنها استيعاب أكبر قدر ممكن من الشباب الناشط في المجال العام، وكان من الممكن أن ينقلب مسارها لو خرج منها قيادات شابة جديدة وتنظيمات ثورية سياسية جديدة، تخترق الاحتكار الإعلامي والسياسي للأحزاب والنخب السياسية القديم.
بعد هذا كله، لم يكن بالإمكان للبلد أن تستمر في ذات الطرق السياسية التي تؤجل الحلول ولا تعالجها، خاصة أن المشاكل تفاقمت والبلد انفجرت ثوريًّا. التحدي الثوري كان بالفعل يفوق قدرات أحزاب ونخب اعتادت على أساليب وأفكار سياسية ثبت فشلها بدليل ما وصلت إليه الأوضاع، لذا بسبب العجز عن التغيير وعدم القدرة على التعامل مع أسباب الانفجار، انهار كل شيء، لتسقط البلد في يد طرف يمتلك فتوة الشباب وجموحه. هكذا آلت ثورة الشباب للشباب، لكنه شباب الحوثي، فهو الطرف الشاب الوحيد قيادة وكوادرًا والطرف المنظم الوحيد الذي جاء من خارج منظومة الحكم بنخبه ومفاهيمه، لكنه، عوضًا عن القفز بالبلد للأمام نحو المستقبل كما كانت تسعى الثورة، تقهقر بها مئات السنوات للوراء.