لم تكن الجمهورية أيضًا هدفًا مستقلًا من أهداف الثورة اليمنية في 1962، بل جزءًا من الهدف الأول لها: "التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات".
وقد انتقد الشاعر عبدالله البردُّوني حشر الثوار لثلاثة أهداف في هدف واحد! لكن لظروف كثيرة، تم اختزال ثورة 26 سبتمبر في أحيان كثيرة في هذا الهدف، بحيث أصبحت الثورة تعني "الجمهورية"!
أحد الأسباب، من وجهة نظري، هو ذلك الجدل الذي دار في سنوات الثورة الأولى حول اعتماد مسمى "الدولة الإسلامية"، بدلًا من الجمهورية أو الملكية، كحل وسط بين الأطراف المتصارعة آنذاك. ولم يكن أعداء فكرة الجمهورية من الملكيين فقط، بل كان هناك قوىً "ثورية" ترى الجمهورية قفزة في الفراغ.
السبب الثاني هو أن الثورة اليمنية لم تكن ثورة ضد نظام ملكي يحكم باسم شرعية العائلة الملكية، كما كان الوضع في مصر مثلًا، ولا كانت ملكية طارئة ومستجدة كما كان الوضع في العراق، بل كان ثورة ضد نظام يحكم باسم الحق الإلهي وحصرية الحكم في سلالة مقدسة. لهذا كانت الجمهورية نقلة جذرية مهمة، شكلت قطيعة مع إرث أكثر من ألف عام مع الحكم الديني.
كان الشعار الرئيسي لملحمة السبعين مثلًا، "الجمهورية أو الموت"، ولم يكن "الثورة أو الموت"، رغم أن الثورة بأكملها كانت مستهدفة من الحصار. ولم يكن اختيار الشعار عشوائيًّا، بل كان تعبيرًا صادقًا عن الأفكار والمشاعر السائدة آنذاك. أما أشهر أغنية فظلت أغنية "جمهورية من قَرَح يقرح" للفنان محمد البصير.
تراجعت الأهداف الأخرى للثورة بسبب الحرب الأهلية الطويلة والصراع الداخلي داخل صفوف الثوار، وساهم هذا في تقدم فكرة "الجمهورية" لتنوب عن الثورة. ثم صار من مصلحة النخبة السياسية التي سيطرت بعد العام 1970، بأفقها المحافظ وغير الثوري، أن تختزل الثورة في شعار الجمهورية فقط، لتتهرب من الاستحقاقات السياسية والاجتماعية للثورة.
مع انقلاب نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، أصبحت الجمهورية كل الثورة، وأصبحت الثورة تعني رحيل بيت حميد الدين، وليس تحقيق الأهداف الستة. وقد عبر البردُّوني عن هذا أصدق تعبير عندما قال إن "سبتمبر" تحول إلى "جمهورية بلا ثورة، وملكية بلا إمام"!.
لم تكن فكرة الجمهورية بالفكرة السهلة في السياق اليمني. فوجود جمهورية في محيط كامل من الممالك والأنظمة الوراثية كان قنبلة تهددها بالانفجار. وربما كانت المملكة العربية السعودية والمَلَكيات المساندة لها تخاف من "الجمهورية" أكثر مما تخاف من فكرة الإطاحة بنظام بيت حميد الدين. فلو تم استبدال ملكٍ بملك حسب خطة "الأحرار" بوضع الإمام "المستنير" البدر محل والده المتشدد، لكانت ردة فعل الأنظمة الملكية المجاورة أقل عنفًا.
بعد حدث 21 سبتمبر/ أيلول 2014، عاد النقاش اليمني عن "الجمهورية"، وتعاظم الميل اليمني للمبالغة في قيمة الجمهورية، بغض النظر عن مضمونها، وكأننا نستطيع اختصار النظام السياسي كاملًا فيه، أو كأننا نستطيع الاحتماء بالجمهورية من كابوس السلطة الطائفية التي تتشكل ببطء. لكن مع أهمية الإنجاز الجمهوري في اليمن وضخامته، إلا أنه لا يمكن أن يتحول إلى أيقونة أو إلى "حِرْز" (تميمة) للحماية من تقلبات السلطات وشرورها.
الجمهورية ليست حماية من الاستبداد؛ لأن هناك جمهوريات استبدادية، وليست حماية من الحكم بالحق الإلهي؛ لأن هناك جمهوريات دينية. وليست حماية من حكم الأسرة أو السلالة؛ لأن هناك جمهوريات عائلية وراثية، وليست حماية من الحكم العنصري؛ لأن أشد العنصريات فتكًا في العصر الحديث كانت عنصريات جمهورية.
لا يمكن الاحتماء بمظلة الجمهورية وحدها؛ لأنها قادرة على إعطاء الشرعية لكل أنظمة الحكم. فكانت الجمهورية في روما القديمة مظلة للإمبراطورية، وفي إيطاليا مظلة للفاشية، وفي إيران مظلة للسلطة الدينية الطائفية.
وكما أن فكرة الجمهورية المفرغة من المضمون لا تحمي، فإن فكرة الدولة المفرغة من المضمون لا تحمي أيضًا؛ فداعش مثلًا، كانت قد أعلنت نفسها دولة بكل مكونات الدولة.
ما هو مضمون هذه الجمهورية؛ هل هو إمبراطوري أو فاشي أو ديني أو وراثي؟ ما نحتاجه في اليمن هو الخروج من حال الثورة المفرغة من مضمونها الاجتماعي، وحال الجمهورية المفرغة من مضمونها الديمقراطي العلماني
جاء كتاب الدكتور علي محمد زيد "الثقافة الجمهورية في اليمن" عام 2019، ليعيد جذوة النقاش حول السؤال الجمهوري في اليمن. والكتاب هو إجابة عن سؤال سأله أحد الشباب: "وما هي الثقافة الجمهورية التي تتحدثون عنها؟"، وهو سؤال استفز مثقفنا الكبير، وجعله يحس بحالة التيه والتشكيك والغضب عند شباب اليوم بإنجازات الجمهورية والثورة!
لكن هذا السؤال المهم هو جوهر القضية؛ فما مضمون الجمهورية، وما المنجز الاجتماعي الذي حققته؟
إن نقد فكرة الجمهورية لا يعني بالطبع تأييد المَلَكية أو الإمامة، كما لا يعني إنكار النقلة التاريخية الجبّارة التي حققتها جمهورية سبتمبر/ أيلول 1962، التي نقلت اليمنيين من مرحلة الحكم بالحق الإلهي، السلالي، إلى مرحلة الحكم باسم الشعب ومصالحه؛ لهذا جاءت أهداف ثورة 26 سبتمبر الخالدة أهدافًا علمانية ومدنية، تؤسس مشروعيتها على تحسين حياة الناس في الدنيا لا على حجز مقاعد لهم في الآخرة.
لكن الأهداف تتغير وتتطور بناء على تغيرات الواقع، والتعامل مع الأهداف يجب أن يتحول إلى تعامل مع أيقونات ومقدسات فوق التقييم والنقد، وهو ما حدث لأهداف 26 سبتمبر، التي بدأنا نتعامل معها باعتبارها قيمًا ومعايير مقدسة يتم الاحتفال بها وتقديسها، بغض النظر عن تحقيقها على أرض الواقع.
كانت الأهداف الستة قد تحولت إلى "أيقونة"، يتم وضعها بشكل يومي في الركن الأعلى من الصفحة الأولى لصحف السلطة والمعارضة ومواقعها الإلكترونية. وفي اللاهوت تنوب الأيقونة عمّا ترمز إليه، فتصبح كأنها هو، وكأن وجودها يغني عن وجوده، لكن في الثورات، الواقعُ أهمُّ من الرمز والأيقونة.
الجمهورية في اليمن لم تعد مشروعًا، فهي موجودة على أرض الواقع وراسخة، ولا أعتقد أن المصريين مثلًا أو العراقيين أو السوريين ما زالوا يظنون أن الجمهورية في بلدانهم تحتاج إلى دفاع، أو أنها هي الحلّ والمظلة الحامية. واليمن لا تختلف عن تلك البلدان، فحتى سلطة 21 سبتمبر/ أيلول 2014، تعترف، ولو شكليًّا، بالجمهورية وتفكّر فيها في إطار نموذج "الجمهورية الإسلامية" الإيرانية بسلطتها ذات الرأس المزدوج (المرشد، والرئيس).
السؤال هنا هو: ما هو مضمون هذه الجمهورية؛ هل هو إمبراطوري أو فاشي أو ديني أو وراثي؟ ما نحتاجه في اليمن هو الخروج من حال الثورة المفرغة من مضمونها الاجتماعي، وحال الجمهورية المفرغة من مضمونها الديمقراطي العلماني.
الجمهورية تحتاج إلى مضمون؛ والدولة تحتاج إلى مضمون. قل لي ما هو مضمون جمهوريتك أو دولتك المتخيلة، أقل لك من أنت!
فهل يمكن الدفاع عن الديمقراطية والعلمانية كمضمون للجمهورية القادمة، كما دافعنا عن الديمقراطية والتعددية كمضمون لجمهورية 22 مايو/ أيار 1990؟