لم تكن ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، في اليمن حدثًا خارج السياق العربي، فقد جاءت ضمن موجة ثورية أزاحت عددًا من الأنظمة الملكية في المنطقة، كالعراق ومصر، وأخرى تحررت من الهيمنة الاستعمارية المباشرة، كسوريا والجزائر، ولولا تلك المقدمات التي وفرت التجربة والدعم لثوار سبتمبر/ أيلول، لما نجحت الثورة اليمنية، حيث إن انطلاقتها كانت في ذروة الحرب الباردة بين قطبي العالم الشرقي والغربي. وامتدادًا لتلك الحرب العالمية الباردة، ظهرت ملامح الانقسام العربي إلى طرفين متصادمين، مثّل الأول البلدان المناهضة للاستعمار والاستبداد بقيادة مصر، وبالتحالف مع دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، ومثّل الثاني دولًا محافظة على الأنظمة الوراثية التقليدية، ورافضة للفعل الثوري وعجلة التغيير المتسارعة في المنطقة، وذلك بقيادة السعودية وبالتحالف مع المعسكر الغربي بريطانيا وأمريكا. في هذا السياق، سرعان ما تحولت اليمن إلى جغرافيا للصراع بين الطرفين الإقليميين والمظلة الدولية لكل منهما، بوقوف الطرف الأول مع ثورة 26 سبتمبر/ أيلول، ووقوف الثاني ضدها بشراسة.
الموقف الإقليمي
قبل انطلاق الشرارة الأولى لثورة سبتمبر، كان الثوار على تواصل وتنسيق مستمر مع مصر عبدالناصر، وكانت القاهرة وموسكو أول عاصمتين اعترفتا بالنظام الجمهوري في صنعاء، وخلال أقل من 48 ساعة، كانت طائرات مصر تهبط في اليمن حاملة الخبراء والعتاد العسكري لدعم الثوار، حيث كانت علاقة الحكام الملكيين بعبدالناصر قد ساءت أكثر بعد مهاجمة الإمام أحمد لعبدالناصر بقصيدة شهيرة في ديسمبر/ كانون الأول 1961، مع وجود بعثة عسكرية مصرية لتدريب طلاب الكلية الحربية بصنعاء كان لها دور في غرس الحس التنظيمي والثوري في أوساط ضباط الجيش اليمني. وخلال الأشهر السابقة للثورة كانت إذاعة صوت العرب بالقاهرة منبرًا للأحرار اليمنيين لمهاجمة نظام الإمام بقوة.
بالمقابل، لم تكن علاقة إمام صنعاء مع ملك الرياض حينها جيدة، فقد غضبت من انضمامه للوحدة بين مصر وسوريا، ومن تعيينه نجله محمد البدر وليًّا للعهد بدلًا من شقيقه الحسن بن يحيى الذي تدعمه الرياض، لكنها كنظام ملكي يرفض فكرة الثورة والجمهورية قطعيًّا، ويراهما شَرّا مستطيرًا، كانت تمتلك موقفًا مبدئيًّا ضد الثورة اليمنية مهما كانت خلفيتها، خاصة مع دعم عبدالناصر، الخصم التقليدي للرياض في المنطقة العربية. تصاعدت تلك الخصومة بينهما عند كشف السياسي السوري عبدالحميد السراج محاولةً سعودية لاغتيال ناصر، وكان السراج مكلفًا بالترتيب لها، وخشِيَت الرياض من امتداد تلك الثورة إليها من اليمن بطريقة أو بأخرى، وجاء إعلان الثوار مقتل الإمام البدر صبيحة الثورة فرصة للرياض لتنصيب حليفها الحسن بين يحيى حميد الدين ملكًا على اليمن خلفًا للبدر.
بعد أسبوع واحد من الثورة، أغلقت الرياض مفوضيتها في تعز، وزار الأمير فيصل بن عبدالعزيز- ولي العهد السعودي واشنطن، لبحث التطورات اليمنية المقلقة، حيث كانت هناك ضمانات أمريكية لحماية النظام السعودي، وغادر الحسن بن يحيى نيويورك متوجهًا إلى جدة، ليعلن نفسه ملكًا على اليمن. لكن المفاجأة كانت أن البدر لم يمت كما أعلن ثوار صنعاء، وحاولت الرياض إعلان تأييد البدر للحسن، قبل أن تتراجع لتعلن تنازل الحسن للبدر وتعيينه رئيسًا للحكومة الملكية، وكان البدر قد أعلن عن نجاته عبر برقية لملك الأردن الحسين بن طلال، وليس عبر الرياض المؤيدة للحسن، ولم يتحسن موقف البدر مع السعوديين حتى مع دعمهم لنظامه بما يخدم مصالحهم.
كان الانقسام في الموقف الدولي من ثورة 26 سبتمبر، طبيعياً بمنطق التوافق والتضاد مع تحالفات المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة، وكانت أذرع موسكو التي وصلت اليمن المجاور لآبار نفط الخليج، إنذارًا للمحور الغربي بخطر يهدد إمدادات أسواق النفط العالمية
انقسم الموقف الإقليمي من الثورة اليمنية إلى محورين؛ الأول مؤيد بقوة لها بقيادة مصر، ومعها سوريا والجزائر بدرجة أساسية مع موقف كويتي داعم للتنمية بصمت، والثاني مؤيد للملكيين ضد الثورة بقيادة السعودية ومعها الأردن وإيران وتركيا وإسرائيل. حينها كانت دول الخليج، باستثناء الكويت وعمان والسعودية، لم تولد بعد، وكانت ولادة دولة جمهورية في الجزيرة العربية، تتبنى الخط القومي التحرري في محيط من الدول الملكية الوراثية، شعلة خطر كبيرة يجب إطفاؤها قبل انتشار الحريق في دول الجوار، خاصة السعودية، وانتشار أيضًا جنوبًا في المستعمرة الإنجليزية الهامة، التي أعلن عبدالناصر من على أراضي الجمهورية الوليدة، أن عليها حمل عصاها والرحيل عن جنوب اليمن، إضافة إلى تواجد مصر على منفذ باب المندب الذي يمنحها، إضافة إلى قناة السويس، فرصة خنق إسرائيل تجاريًّا وعسكريًّا، وهو أمر لا يمكن السماح به.
المظلة الدولية للأطراف الإقليمية وموقفها من ثورة 26 سبتمبر/ أيلول، رغم أن موسكو أول دولة كبرى اعترفت بالثورة، إلا أن الموقف الحاسم لمصلحة ثوار صنعاء يومها، كان الاعتراف الأمريكي في 19 ديسمبر/ كانون الأول 1962، بدولتهم الوليدة. فقد ترتب على ذلك الاعتراف تسليم الأمم المتحدة مقعد اليمن إلى الجمهوريين، ورأس البعثة اليمنية في الأمم المتحدة يومها محسن العيني، بعد اعتراف 73 دولة بالجمهورية من أصل الـ100 دولة الأعضاء في الأمم المتحدة حينها، يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول 1962.
كان حظ الثوار جيدًا بلحاق سياسة أمريكا المؤيدة لحركات التحرر في العالم في آخر أيامها خلال عهد جون كنيدي، الذي تمتع بعلاقة جيدة نسبيًّا مع مصر، وقد اعترف بثورة سبتمبر/ أيلول، مع إرسال ضمانات للرياض بالدفاع عنها من أي تدخل مصري، وشكل لجنة من الأمن القومي والـ(CIA) برئاسة روبرت كومر، لتولي ملف اليمن مع شركة أرامكو النفطية السعودية، مع إرسال طائرات مقاتلة إلى الأجواء السعودية وبارجات حربية إلى المياه الإقليمية لتأكيد ذلك، وجاء بعده الرئيس جونسون، ليغيّر معادلة العلاقات الأمريكية في المنطقة.
مع تولي جونسون رئاسة أمريكا تحولت السياسة الأمريكية إلى موقف مضاد كليًّا، وأصبحت الأسلحة الأمريكية في يد الملكيين كالحصى، حسب تعبير عبدالله البردوني، وتحولت حرب اليمن إلى "حرب كومر الخاصة" في قاموس جونسون، حسب تعبير محمد حسنين هيكل، حيث تحول الهدف الأول لواشنطن ولندن وحلفائهما الإقليميين حينها إلى استنزاف عبدالناصر والجيش المصري في اليمن بدرجة أساسية، وفقًا لهيكل أيضًا، الذي قال إن مخابرات شاه إيران وتركيا وإسرائيل أقرت بدورها تجميد الجيش المصري في اليمن عن أي دور في مصر نفسها، كجزء من مقدمات الإعداد لحرب يونيو/ حزيران 1967 (النكسة)، التي هزمت فيها مصر أمام إسرائيل، وكان وجود جزء من الجيش والعتاد والطيران الحربي المصري في اليمن أحد أسباب الهزيمة، وكما أكد هيكل أن الملك فيصل حصل على ضمانات أمريكية صريحة، قدمها الرئيس جونسون للدفاع عن الرياض وجعل تطورات الوضع في الجزيرة العربية تسير وفقًا لمصالحها.
تشكل الموقف الدولي من ثورة 26 سبتمبر/ أيلول، على غرار الموقف الإقليمي من محورين أيضًا، الأول مؤيداً، من موسكو وبكين وأوروبا الشرقية كمحور دولي داعم لها، والثاني مضاداً، من لندن وواشنطن وباريس المحور، وهو انقسام طبيعي يتوافق مع تحالفات المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة، وكانت أذرع موسكو التي وصلت اليمن المجاور لآبار نفط الخليج إنذارًا للمحور الغربي بخطر يهدد إمدادات أسواق النفط العالمية، ويمنح موسكو أرضية مثالية لتوسيع دائرة نفوذها في المياه الدافئة وطرق التجارة العالمية لا يمكن السماح لها بالاستقرار عليها.
أصيبت الرياض بصدمة بعد رفض طيارين سعودين قصف مواقع الجيش الجمهوري وفرارهما بطيارتيهما إلى القاهرة، وعندما استعانت بطيارين أردنيين تجنّباً لمزيد من التمرد، لجأ هؤلاء أيضاً إلى القاهرة، فاستعانت بطائرات إسرائيلية بالتعاون مع فرنسا
تطورات الأحداث
عسكريًّا، بدأ تشكيل جيش الجمهورية من المتطوعين القادمين من كل مناطق اليمن بدعم مصري مباشر وأساسي، مع تواجد آلاف الجنود المصريين على أرض المعركة بعتادهم الكامل، وتوسعت سيطرة الجمهوريين جغرافيا، عدا في بعض مناطق الشمال والشرق، وبدعم سعودي أردني مباشر وأساسي. أيضًا، بدأ الملكيون بتجميع صفوفهم وتجنيد القبائل واستقطابهم بالأموال والذهب، حسب روايات الشيخ عبدالله الأحمر والشيخ سنان أبولحوم وغيرهما، والسيطرة على بعض مناطق صعدة وحجة والجوف ومأرب، وتوترت علاقات الرياض بالقاهرة أكثر بعد قصف طائرات مصرية منطقة نجران جنوب السعودية، التي أقيمت فيها معسكرات تدريبية للملكيين بإشراف ضباط أردنيين.
أصيبت الرياض بالصدمة عند رفض طيارَين سعوديين الأوامر بقصف الجيش الجمهوري اليمني وفرارهما بطائرتيهما إلى القاهرة، وعند تجميد طيرانها الحربي تجنبًا للمزيد من التمرد والانكشاف ولجوئها لطيارين أردنيين لتنفيذ المهمة، لجأ هؤلاء أيضًا بطائراتهم إلى القاهرة، فتم اللجوء إلى طائرات إسرائيلية لإسقاط المعونات في مناطق سيطرة الملكيين شمالًا بالتعاون مع فرنسا التي كانت تدير جيبوتي وانطلقت منها الطائرات الإسرائيلية حسب روايات صحفية حينها وتاريخية لاحقًا. ومع استمرار تقدم الجمهوريين، لجأت السعودية والملكيون لتجنيد مرتزقة أجانب أمريكيين وأوروبيين، للتخطيط والتدريب في جبهات الجيش الملكي.
في المسار السياسي، اقترح جون كنيدي وقف إطلاق النار بين الطرفين، ووقف التدخل الأجنبي (لمصر والسعودية) في اليمن، وقد وافقت القاهرة وصنعاء على ذلك قبل الرياض، التي رفضت استقبال مبعوث دولي للتنسيق بين أطراف الحرب، وتم تعيين مبعوث أممي ولجنة رقابة دولية بذلت جهودًا لوقف إطلاق النار، والحد من التدخل المصري السعودي خلال الفترة (مارس/ آذار 1963 – سبتمبر/ أيلول 1964)، ثم أعلنت سحب بعثتها من اليمن بعد فشلها في تغيير المعادلة والتوصل لاتفاق سلام.
مع طول أمد الحرب وتراكم أعبائها وخسائرها على الدولتين، واتضاح عجز الملكيين عن استعادة عرشهم عسكريًّا، بدأ التواصل بين الرياض والقاهرة للخروج بحل للقضية اليمنية، وبدأت بوادر ذلك خلال القمة العربية بالقاهرة في يناير/ كانون الثاني 1964، التي التقى فيها عبدالناصر وفيصل مباشرة لأول مرة، لنقاش الملف اليمني، ثم تعزز لقاء الرجلين بعد أشهر، خلال القمة العربية بالإسكندرية (سبتمبر/ أيلول 1964)، ونتج عنه إعلان رسمي بإجراء مفاوضات مباشرة بين الملكيين والجمهوريين للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب. وتشكلت وساطة عربية التقى بموجبها الجمهوريون والملكيون في مدينة أركويت بالسودان لخمسة أيام، دون نتائج يُبنى عليها؛ فقد رفض الجمهوريون اتفاق ناصر– فيصل، لأنه لم يتم إشراكهم فيه، ولم يوافق على تمثيلهم في الحوار إلا محمد محمود الزبيري، بينما مثّل الملكيين أحمد محمد الشامي، وكان الفشل متوقعًا نتيجة ذلك، ولتعنُّت الملكيين في مطالبهم.
تشكل الوفدان، الجمهوري والملكي، لـمؤتمر حرض" حسب شروط سعودية قضت بالتمثيل الطائفي، بحيث يمثل كل طرف 15 من اليمنيين "الزيود"، وعشرة من اليمنيين "الشوافع"، ثم تبين لاحقاً ضغط الرياض بفرضها مغادرة الرئيس السلال إلى مصر أثناء الحوار
منحنى التحول
تفاجأت القاهرة بوصول وفد من زعماء القبائل الجمهوريين إلى السعودية واستقبال فيصل بن عبدالعزيز لهم، فأثار ذلك غضب عبدالناصر، في ما يشبه الشعور بالخيانة لمصر، التي ضحت كثيرًا لدعم الجمهورية، لكنه بدوره فاجأ العالم بزيارة للسعودية، بعد أيام من زيارة أولئك المشايخ، في أغسطس/ آب 1965، ونتج عن اللقاء هذه المرة الاتفاق على سحب القوات المصرية من اليمن، ووقف الدعم السعودي للملكيين، وإجراء مفاوضات ملكية جمهورية برعاية القاهرة والرياض، للتوصل إلى استفتاء على وضع وطبيعة الدولة اليمنية فيما عرف بـ"اتفاقية جدة".
بناء على هذه الاتفاقية، عُقد "مؤتمر حرض" أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 1965، بين وفدين عن الملكيين والجمهوريين. تشكل الوفدان حسب شروط سعودية قضت بالتمثيل الطائفي، بحيث يمثل كل طرف 15 من اليمنيين "الزيود"، وعشرة من اليمنيين "الشوافع"، لاعتقاد السعودية بميل "الزيود" إلى جانب حلفائها الملكيين، وعقد القاضي عبدالرحمن الإرياني مؤتمرًا صحفيًّا لتوضيح ذلك وعَتَبه على "الأشقاء"، وتبين لهم أيضًا ضغط الرياض بفرضها مغادرة الرئيس السلال إلى مصر أثناء الحوار، مع محاولة الملكيين سلب الجمهوريين إنجازهم الجمهوري لطبيعة الدولة، حيث إن الجمهورية تتمتع بالاعتراف الدولي يومها وليس الملكية، وبدا موقف القاهرة سلبيًّا معهم على عكس دعم الرياض للملكيين، فقد كان عبدالناصر يريد الخلاص من الورطة اليمنية، التي استنزفت جيشه واقتصاده، وشعر أن هناك من يعمل بعيدًا عنه ويقترب من الرياض، وذلك ما اعتبره خيانة.
خلال "مؤتمر حرض" كُسرت الثقة بين مصر وبين تيار من حلفائها الجمهوريين (المعتدلين)، واستمالت الرياض بعض هؤلاء، فضغطت القاهرة على القوى الجمهورية المناهضة للمشير السلال واعتقلت في سجونها عشرات السياسيين والعسكريين الجمهوريين الذين كان موقفهم سلبيًّا من التدخل المصري وحكم السلال. وفي مارس/ آذار 1966، أعلن عبدالناصر استمرار بقاء قواته في اليمن حتى تتمكن الثورة اليمنية من الدفاع عن نفسها بنفسها، ما دفع الرياض إلى تكثيف دعمها للملكيين مجددًا، وسحبت الأردن اعترافها بالنظام الجمهوري، كما اتهمت اليمن الوكالة الأمريكية للتنمية بالتورط في أعمال تخريبية بقيام بعض موظفيها بتفجير مخزن أسلحة، واكتشاف شبكة تجسس أمريكية في اليمن، وأعلنت صنعاء قطع علاقاتها مع واشنطن ولندن، كما أعلنت لندن سحب بعثة وكالة التنمية ورعاياها من اليمن ووقف مساعدتها له، وأصبحت الأوضاع أكثر تعقيدًا.
تطورت الأمور بشكل درامي بعد الحرب العربية الإسرائيلية التي انتهت بنكسة يونيو/ حزيران 1967، واتفق عبدالناصر وفيصل في القمة العربية بالخرطوم (أغسطس/ آب 1967)، على سحب قوات الأول من اليمن، ووقف مساعدات الثاني للملكيين، كما تشكلت لجنة وساطة عربية من العراق والمغرب والسودان، لحلّ القضية اليمنية. رفض الجمهوريون تلك الإجراءات؛ لأنها تمّت دون موافقة المشير عبدالله السلال، ممثّل اليمن في القمة، وأدّى ذلك إلى استياء القاهرة منه، فأعلنت بدء سحب قواتها من اليمن، وأفرجت لاحقًا عن مناهضيه من القيادات الجمهورية المعتدلة في سجونها، فعاد هؤلاء إلى اليمن للانقلاب عليه مباشرة، في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وكانت تلك الخطوة بدايةً أكثر وضوحًا للهيمنة السعودية المطلقة في اليمن، حيث أعلن محسن العيني، رئيس الحكومة الجديدة، بعد يوم واحد من انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، عن إجراء مفاوضات بين الجمهوريين والملكيين للتوصل إلى "مصالحة وطنية".
نفذت مصر وعودها، ولم تفعل السعودية! فمع بدء سحب الجيش المصري، كانت خطة "الجنادل" لإسقاط صنعاء قد دخلت طور التنفيذ في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، حيث بدأت القوات الملكية بحصار صنعاء المعروف بـ"حصار السبعين يومًا"، وفقًا لخطط الجنرال الأمريكي كاندي، والجنرال الفرنسي بوب دينارد، وحشد الملكيون عشرات الآلاف من المقاتلين استغلالًا لوضع الجمهوريين المرتبك والضعيف، بعد سحب الجيش المصري، إلا أن المتطوعين من شمال وجنوب اليمن أفشلوا الحصار بمعجزة عززها الطيارون الروس والسوريون الذين شاركوا في المعركة إلى جانب الثوار، رغم مغادرة أغلب القيادات السياسية والعسكرية صنعاء توقعًا لسقوطها في يد الملكيين مجددًا. كان ذلك ما جعل الشاعر عبدالله البردوني يؤكد أن الحصار لم يستهدف القيادة السياسية التي وصلت للسلطة، وإنما تصفية القوى الجمهورية الثورية الرافضة للمصالحة مع الملكيين، وهو ما تم خلال الأشهر التالية، مع فرض السعودية رؤيتها على الوضع اليمني، وتعزيز قوة حلفائها، ليتدخلوا عند كل خروج عن خط الرياض، حتى بإسقاط الرؤساء أنفسهم، كما حدث مع القاضي الإرياني سلميًّا، وحدث مع الرئيس الحمدي بالاغتيال.
خلال ثماني سنوات من الحرب العسكرية والسياسية، تمكنت الجمهورية من إقناع أغلب دول العالم بحق الشعب اليمني في تحديد مصيره واختيار نظامه السياسي، لكن الخلافات داخل الصف الجمهوري أدّت إلى انتكاسات كبيرة في العلاقات مع مصر تحديدًا، مع عدم القدرة على الاستقلال الاقتصادي، الذي يغني اليمن عن دعم خارجي. وهكذا ظلت الجمهورية الوليدة رهينة الدعم الاقتصادي، بطريقة أو بأخرى، لمصر أو للسعودية، كما استُخدمت الحاجة الاقتصادية ضدها للضغط وفرض المواقف، حتى تغير المسار نحو السعودية من قبل النظام الجمهوري مع مساعي الأخيرة لاختراق الجمهورية من داخلها، بعد الفشل في تقويضها من خارجها. وفي مارس/ آذار 1970، بدأت اليمن والسعودية بالتقارب العلني مع مشاركة وفد يمني في اجتماعات القمة الإسلامية بمدينة جدة، تزامنًا مع إعلان المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين. وخلال أسبوع واحد في يونيو/ حزيران 1970، تم الاعتراف بالجمهورية كدولة ونظام حكم من قبل السعودية وبريطانيا وفرنسا، ثم إيران لاحقًا تبعًا لاعتراف الرياض، التي استمرت لعقود، عدسةً وفلترًا للمواقف الدولية من اليمن.