دعوات السلام هي المعنى العميق للإنسانية، وهي السمة والميزة الأبرز في دلالات وأبعاد المجتمع المدني. كل الرسالات العظيمة، والتحولات الاجتماعية، والثورات الكبرى، كان نداء السلام في مقدمتها، وفي ثورات العصر كان النضال السلمي، والمطالب الحقوقية هي الأساس.
كانت السمة الرئيسة في القرن العشرين، حروب تحرير الأمم والشعوب المستعمرة، وقامت عدة ثورات ضد أنظمة القهر والاستبداد في كل مراحل التاريخ البشري. كان السلام هو المدماك لبناء الحضارات البشرية، وبناء المدنيّة، وازدهار الحضارة والحياة والمعارف البشرية والعلمية، وهو الأساس الذي ترتكز عليه المراحل والسبل المختلفة للمقاومة وأشكال المقاومة.
من المهمّ قراءة "السلام" - اسم الله الأعظم، من خلال الإرث البشري العظيم، ومن خلال تجارب الأمم والشعوب، ومن خلال التراث الفكري في الإلياذة والأوديسة وملحمة جلجامش والكتب السماوية، ولكن الأهم؛ لندرك أهمية وقيمة السلام، هو أن نستقرئ الحالة اليمنية القائمة الآن.
اليمن البلد "المنكوب المنهوب" - كتسمية الأحرار اليمنيين منتصفَ القرن العشرين الفائت - أصبح وجوده اليوم مهدّدًاً ككيان تاريخي يعود إلى ما قبل ألفي عام من ميلاد السيد المسيح، ومهدّدًاً وجوده كشعب وكجزء من أمة.
كانت الأمية الأبجدية قد اختفت في اليمن الديمقراطية في ثمانينيات القرن العشرين الفائت، وكان الجنوب، البلد الفقير، يسابق الكويت والعراق وفلسطين في محو الأمية.
الأمية الآن في الجنوب هي النسبة الغالبة؛ فالأم متعلمة وابنتها أمية، أما الشمال- الـ"ج. ع. ي"، فكان في تسعينيات القرن الماضي قد تجاوز محو الأمية بـ50%، ولكن أميته اليوم هي السائدة، وتتجاوز الـ60%.
تتصدر اليمن حاليًّاً قائمة الدول الجائعة، ولا أقول الفقيرة؛ فنسبة المحتاجين للمساعدة الغذائية تتجاوز الـ80%، وتحتل المرتبة الثانية عالميًّاً في فقدان الأمن الغذائي بعد أفغانستان، وتحتل مرتبة متقدمة في انتشار الأوبئة الفتاكة والافتقار إلى الخدمات الصحية، كما تتصدر البلدان التي تغيب عنها الحريات العامة والديمقراطية، وتتصدر الدول القامعة لحرية الرأي والتعبير، بينما كانت بعد الوحدة في الـ22 من مايو 1990، في قائمة رأس البلدان الديمقراطية في العالم الثالث.
اليمن اليوم كشعب، مهدّد بالتمزق والزوال، ويلعب الصراعُ الإقليمي والحروب الداخلية والمليشيات الكاثرة، الدورَ الأساس في هذا التمزيق، وينعدم فيه الأمن والسلام.
كانت الثورة الشبابية - ثورة "الربيع العربي" في الـ2011 - هي التحول العميق والجذري للخلاص من نهج الانقلابات العسكرية، والحروب منذ مطلع القرن العشرين الماضي، والبراءة مِن جَعْل قانون الغلبة والقوة أساسَ شرعيةِ الحكم.
الحاكمون بقانون الغلبة استمروا في الصراع المسلح في صنعاء وفي غير منطقة؛ للالتفاف على الثورة الشعبية السلمية بالحرب البينية بين علي عبدالله صالح - المؤتمر الشعبي العام، وبين التجمع اليمني للإصلاح بزعامة آل الأحمر وعلي محسن صالح - قائد الفرقة الأولى مدرع، وبتدخل من مجلس التعاون الخليجي عبر مبادرة التعاون، حيث تم تكريس نهج حق القوة من جديد، وأُعيد اقتسام الحكم حسب توازن الرعب بين الفريقين المنقسمين والمتصارعين.
أُقصي شباب الثورة السلمية، وأعيد الاعتبار لفريقي السلطة؛ وهو ما مهّد لانقلاب الـ21 من سبتمبر/ أيلول 2014.
انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014، كتحالف حربي بين علي عبدالله صالح - الرئيس السابق، وبين أنصار الله (الحوثيين)، كان ردًّاً على انقلاب علي محسن صالح الأحمر وتجمع الإصلاح. كلا الانقلابين كانا في الأساس موجهين ضد ثورة الشباب، ولتأييد شرعية السلاح كسبيل وحيد وخيار أوحد للحكم.
تعجز القوة عن الاستمرار في الحكم فتتقاتل مع نفسها، كما حصل بعد جمعة الكرامة 18 مارس/ آأذار 2011، وهي اليوم أكثر عجزًاً عن العودة للحكم رغم الاستنجاد بالصراع الإقليمي: الإيراني - السعودي الإماراتي.
مأزق المليشيات وكنتونات الأمر الواقع هو عدم القبول ببعضها، ورغبة كل طرف التفرد بالحكم، بينما هم عاجزون عن الحكم مجتمعين، وغير مقبولين حتى لحكم الكنتونات التي يحتلونها بالسلاح
المليشيات المنتشرة في طول اليمن وعرضها، والإيغال في التقاتل، والاستنجاد بالصراع الإقليمي وبالعدوان مظهر من مظاهر فشل القوى الحاكمة بالقوة، ودليل سقوط شرعية السلاح.
القوى السلامية المدنية والأهلية هي الآن المؤهلة للحراك للتعبير عن نفسها، ولإعلان البديل الديمقراطي، والدعوة بالقول وبالفعل وعبر الاحتجاج المدني؛ لإسكات أصوات المدافع، ودويّ صواريخ وقنابل طائرات العدوان السعودي الإماراتي الذي يستهدف المدن والقرى اليمنية، ويدمر الأحياء السكنية.
لا مخرج لليمنيين من كارثة الحرب المدمرة، ولا خلاص لهم إلا بإسقاط حاجز الخوف، وتحدي قادة المليشيات وتجار الحروب في الداخل، ورفض العدوان الخارجي، ورفع راية السلام عاليًاً باعتبارها النهج والسبيل الوحيد لإنقاذ اليمن واليمنيين من غوائل الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا "مِعْزَة".
مأزق المليشيات وكنتونات الأمر الواقع هو عدم القبول ببعضها، ورغبة كل طرف التفرد بالحكم، بينما هم عاجزون عن الحكم مجتمعين، وغير مقبولين حتى لحكم الكنتونات التي يحتلونها بالسلاح.
الحقُّ أقوَى مِن مدافعِ ظَالِمٍ وأشدُّ مِن بَأسِ الحَديدِ وَأَجْلَدُ
كحكمة الرائي البردّوني.
مظاهر الرفض الشعبي للحرب الجائرة، ولتغوّل المليشيات المهووسة بالسلاح والموبوءة بالحرب، وللعدوان الخارجي، سمة عامة تعم الشعب اليمني، وأصوات الاحتجاجات تتصاعد، وليس باستطاعة الرصاصة الانتصار على الكلمة ، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.