في منتصف يونيو/ حزيران 1975، غادر المواطن اليمني علي صالح الهون قريتَه ببلدة "الصبَّيحَة" شمال محافظة لحج، متجهًا نحو المملكة العربية السعودية، بحثًا عن فرصةِ عملٍ تعينه وأفراد أسرته على تقلبات الحياة، وتأمين مستقبلهم من الفاقة.
حينها كان دخوله "مجهولًا" أي بطريقة التهريب، ولاحقاً رتب وضعه ليكون تواجده في السعودية والعمل فيها شرعياً. كان يَأمُل أن يجد في الغربة على الأراضي السعودية، ما لم يجده في بلده. ظل يعمل في السعودية منذ تلك السنة حتى منتصف العام 2017؛ 42 سنة لم يحقق له البعد عن الوطن ما كان يُمنّي به النفس من رغد العيش وتأمين مستقبل له ولأفراد أسرته. لقد أكلَتْه الغربة لحمًا ورمته عظمًا، قبل أن تزيد الطينَ بلّة، الإجراءاتُ التي اتخذتها السلطات السعودية ضد الوافدين العاملين في أراضيها، وهي الإجراءات التي اضطرت آلاف المغتربين اليمنيين لمغادرة المملكة، في ظل ظروف الحرب العصيبة التي قادت السعودية تحالفاً من عشر دول، لخوضها ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين). دمرت هذه الحرب حياة اليمنيين في الداخل، ولم تستثن السلطات السعودية مغتربي اليمن من قوانين "سَعوَدة" الوظائف، ولا الرسوم الجائرة التي فرضتها على العمالة الوافدة.
يقول علي صالح (68 سنة) لـ"خيوط"، إن أربعة عقود من الغربة وألم الفراق عن أهله، لم تحقق له ما كان يطمح إليه، ناهيك عن استغلال الكُفلاء للوافدين إلى السعودية، بطريقة لا إنسانية.
هذه القوانين جعلت جزءًا كبيرًا، من عرق سنوات عمل علي صالح، يسيل إلى خزينة السلطات السعودية، دون تفريق بين ذوي الدخول المرتفعة وبين البسطاء من الناس. يضيف الحاج علي أنه عقب الإجراءات التي طبقتها السعودية، بفرض ضرائب ورسوم على الوافدين، كانت الضربة القاصمة التي لم تترك له ولغيره من المغتربين، خياراً آخر سوى العودة إلى الديار. عادوا إلى قراهم ومدنهم بعد أن خسروا جُلّ أعمارهم بعيدًا عن أهلهم دون جدوى من أي نوع. ذلك ما دفع علي صالح الهون، إلى التفكير في إنشاء مشروع يسهم في تأمين مصدر للدخل، وتغطية الفراغ المرير الذي تحدثه البطالة. اشترى معدات بسيطة لمعمل حياكة "المعاوز" (المآزر)، وبدأ بالعمل في هذا المشروع مع أولاده، في قريته شمال لحج.
ما تنفذه السعودية من إجراءات تخص العمالة الوافدة، لا تتوقف عند حدود توطين المهن والأعمال، بل يضاف إلى جانب ذلك، فرض حزمة من الجبايات، كالضرائب ورسوم تتزايد تصاعدياً سنوياً، بمقتضى قانون ينص على ذلك. بموجب هذه الرسوم التي تم إقرار العمل بها ابتداءً من العام 2015، أصبح يتعين على العامل الوافد دفع قائمة من الرسوم متعددة البنود بشكل رسمي، إضافة لمبالغ غير رسمية يطلبها "الكفيل" مقابل منح العامل مسوغاً شرعياً للعمل على الأراضي السعودية بضمانته.
نظام الكفيل هو إجراء تنص عليه قوانين العمل في المملكة، وبحسب الإجراءات التي ضاعفت رسوم العمل والإقامة، يتجاوز المبلغ الذي يتوجب على العامل الوافد في المملكة السعودية دفعه، 10 آلاف ريال سعودي، في المتوسط، سنويًّا. تسببت هذه الرسوم الجديدة في مضاعفة الأعباء المالية على المغتربين بما يفوق قدرة كثير من العمال اليمنيين ذوي الأجور المتواضعة.
كما أن الرسوم الجديدة على الوافدين، لا تراعي مبدأ العدالة الرأسية في توزيع الأعباء، وإنما تفرض مبلغًا ثابتًا على كل عامل وافد، بغض النظر عن مستوى دخله، وسواء كان يعمل أم كان في فترة عطالة. ولذلك، فإن أغلب ضحايا هذه السياسة، هم من ذوي الدخل المحدود من الوافدين، بما فيهم السواد الأعظم من المغتربين اليمنيين.
العائد من مبيعات هذه الكمية الضئيلة من إنتاج معمل الهون، لا يدر ربحاً عليه، لكنه لا يشكو من ذلك. فالأهم بالنسبة له، تسيير أمور حياته المعيشية في الظروف العصيبة التي فرضتها الحرب، والإسهام في توفير فرص عمل وتأهيل أيدٍ عاملة جديدة في هذه المهنة
عمل غير مربح
يقع المعمل الذي أنشأه المواطن العائد من الغربة، علي صالح الهون، في قرية "الغيل" التابعة لمديرية "المضاربة ورأس العارة" بمحافظة لحج. لم يكن قادراً على إنشاء مبنى مخصص للمعمل، وفي الواقع، ما زال كذلك. لكن هذا لم يقف عائقاً دون البدء بتنفيذ مشروعه، حسب الإمكانيات المتاحة؛ أنشأ معمله المتواضع في خيمة يحيطها سعف النخيل. وعلى الرغم من ذلك، يقول الحاج علي صالح، إن الخيمة التي يقع فيها المعمل حالياً، متآكلة وغير ملائمة. فعندما تهطل الأمطار أو تهب الرياح، يتوقف المعمل أربعة إلى خمسة أيام، بسبب عدم قدرة العمال على العمل وسط الطين أو تحت الشمس؛ وذلك ما يؤخر سرعة الإنتاج.
بسبب شحة الإمكانات، والأمطار والرياح، ينجز المعملُ -وفقَ حديث الهون- "مَعوَزًا" واحدًا فقط كل 24 ساعة أو 36 ساعة، لتكون قدرة الإنتاج الشهرية للمعمل متراوحة بين 20-30 "معوزًا".
هذه الكمية البسيطة يقوم علي الهون بإرسالها إلى عدن، من أجل إجراء اللمسات الأخيرة لكل "معوز" في معامل لديها إمكانات لا تتوفر في معمله. بعد أن يتم تجهيز "المعاوز" بشكل نهائي، يتم إنزالها إلى السوق، سواء في الأسواق الريفية لمديرية "المضاربة" أو في أسواق مدينة عدن. العائد من مبيعات هذه الكمية الضئيلة من إنتاج معمل الهون، لا يدر ربحاً عليه، لكنه لا يشكو من ذلك. فالأهم بالنسبة له، تسيير أمور حياته المعيشية في الظروف العصيبة التي فرضتها الحرب، والإسهام في توفير فرص عمل وتأهيل أيدٍ عاملة جديدة في هذه المهنة.
صعوبات شديدة
لكون المعمل هو الأول من نوعه في تلك المنطقة الريفية، فإنه -وفق علي صالح- يواجه مصاعب جمّة؛ كون المعمل غير مهيّأ للإنتاج الجيد، بسبب تمزقات الخيمة التي يستظل بها العمال والآلات البسيطة، ناهيك عمّا تحدثه عوامل التعرية الطبيعية من أضرار في العمر الافتراضي للآلات، وتعيق وتيرة سير العمل.
يأمل علي صالح الهون، أن يجد الشباب في هذه المشاريع الصغيرة، الدعمَ الكافي لتوفير فرص عمل، واستغلال مهارات وقدرات الشباب الإنتاجية. وهو يعي أن "التشجيع والدعم يسهم في توجه الشباب"، سواء في حرفة حياكة المآزر الشعبية، أو في حِرَفٍ أخرى.
لا يخفي الحاج علي صالح ألمه من ضياع عشرات السنين من عمره في بلد الغربة، دون الاستفادة من هذه الهجرة الطويلة؛ لقد صار يردد المثل اليمني الشهير "عزّ القبيلي بلاده ولو تجرّع وَبَاها"- أي الأوبئة المنتشرة فيها.
تحرير "خيوط"