في اليوم الخامس والأربعين لرحيل الكاتبة والشاعرة اليمنية سحر عبده، تحدث ثمانية أدباء ونشطاء وناشطات، عن الفقيدة، في فعالية تأبينية أقامتها مؤسسة "بيسمنت" الثقافية بصنعاء. الخميس 10 سبتمبر/ أيلول 2020، لم يكن يوماً للبكاء فقط؛ لكن من تحدثوا عن حياة سحر، القصيرة والكثيفة بالإبداع والتسامح، لم يتمالكوا دموعهم. لقد اتفق جميعهم على أن "الموت لا يمكن أن يشكل نهاية لشخصية مثل سحر"، وقال والدها المكلوم إن "تلك الروح ستظل حية في قلوب كل من عرفها".
خلال عمرها القصير (37 سنة)، أنجزت سحر عبده كثيراً من الكتابات الإبداعية المتنوعة بين النقد السينمائي والاجتماعي والسرد الأدبي، وأكثر من ذلك قصائد لا تموت. كان الشعر نافذتها المحببة لاستشراف الحياة والموت؛
كلما قلت مات الهوى، قام من قبره
يسأل الظن عمّا جناه اقتراف النهايات في بعده
الحكايات لا تنتهي
والمحبون لا يسدلون الستار على الحب
والموت لا يكتب الخاتمات
وخوف النهاية يصنع ما يصنع الضد من ضده.
لم تكن تنشر ما تكتبه أو تنجزه في الفنون التي تجيدها أو تحاول التمرس عليها، حتى أن كثيراً من أصدقائها وزملائها تفاجأوا يوم تأبينها بأنها كانت تمارس الرسم والتصوير الفوتوغرافي.
بمعرض صور فوتوغرافية ولوحات تشكيلية من إبداعها، وكتاب حمل عنواناً مقتبساً من إحدى قصائدها، وفعالية تأبين حميمية، والكثير من الدموع، ودعت أسرة الفقيدة وأصدقائها وصديقاتها، وعشرات الأدباء والكتاب والمثقفين والنشطاء، "شخصية استثنائية"، كما ودعت "بيسمنت" واحدة من أهم أعضاء المؤسسة، بحسب شيماء جمال، المدير التنفيذي لـ"بيسمنت". وفي حين كانت الدموع تذرف على رحيلها، كانت ابتسامة سحر تطلّ من لوحة البانر الواقفة أمام مودعيها.
احتوى كتاب "الموت لا يكتب الخاتمات" نصوصاً شعرية للراحلة ومقالات صحفية وأدبية، بالإضافة إلى كتابات لعدد كبير ممن عرفها. كما تضمن الكتاب كلمات وداع من زوجها الناشط الثقافي سبأ الصليحي:
"للحب
-هذه المرة-
عمر قصير وحياة طويلة".
رحيل مبكر
في مقال في كتاب التأبين قالت الكاتبة عائشة الجعدي: "قبل سنة زرت "بيسمنت" لأول مرة، قبلها بقليل عرفت عزيز، الذي يتحدث دوما عن سحر، ويظن بأنها أجدر بكل الفرص. وقبل ذلك بكثير عرفنا "بيسمنت" عبر التقارير والأخبار الطويلة على صفحتهم في "فيسبوك"، والتي علمت لاحقاً أنها كانت بقلم سحر".
وأضافت عائشة: "في آخر مرة زرت "بيسمنت" لم تكن موجودة؛ كان مكتبها خالياً. سألت فأخبروني بأنها مريضة. في المرة التالية التي سأزورهم فيها ستكون هناك لوحة ما قد نمت مكان مكتبها، أو مكتبة أو أصيص ورود. في المرة القادمة سوف لن أسال ولن تكون هناك إجابات".
في أحد نصوصها الشعرية كتبت سحر:
"سأموت في يوم غائم
أعرف ذلك
ستقف غيمة كبيرة في طريقي إلى السماء
سأقف أمامها عاجزة كالعادة
سأموت في مجزرة
أعرف ذلك
لتدهسني أقدام الأرواح الصاعدة في الزحام
كالعادة
سأطلب من الملاك الحارس أن يفتح لي الباب
حين أصل متأخرة كالعادة
وحين يُطلب مني بطاقة الهوية التي لا أملكها، سيصرخ بي:
عمرٌ كامل لم تستطيعي فيه الحصول على هوية؟!
سأطرق بصمت
لن أقول له إنه كان عمراً قصيراً جداً
قصيراً إلى الحد الذي لم أتعلم فيه كيف أتجاوز غيمة واحدة".
وبشكل مفاجئ، عن عمر يناهز 37 سنة، غادرت سحر عبده يوم الثلاثاء 28 يوليو/ تموز 2020. يومها كانت وصلت للتو إلى العاصمة صنعاء قادمة من "أرض الصومال" التي انتقلت للعيش فيها برفقة زوجها قبل عام.
كتبت سحر عبده الكثير من الشعر، والقصص القصيرة، والقصيرة جداً. وإذا ما أُمعن النظر في قصائها، سنجد أنه حتى قصيدة الومضة القصيرة، تترك لدى قارئها امتداداً لامتناهياً من شعرية متفردة
في كلمة وداع مرير، قال والدها عبد الكريم الحكيمي: "في حياتها البسيطة التي عاشتها، أبت إلا أن تكون الحاضر الغائب بيننا". لم توقف الدموع صوته لكنها خنقته، ومع ذلك أضاف: "كان رحيلها حال وصولها من السفر صادماً، ونزل علينا كالصاعقة. كانت قد عانقتنا فور وصولها، ومع الأسف كان عناق القدوم هو عناق الرحيل".
ولدت سحر عبده مطلع مايو/ أيار 1982. درست الهندسة في جامعة صنعاء، وبعد التخرج عملت لدى العديد من المؤسسات والمنظمات، بينها مؤسسة "بيسمنت" الثقافية، منظمة "مواطنة" لحقوق الانسان، مجلة "نجاح"، منظمة قدرات للتنمية والتدريب، ومنصة "خيوط".
في فعالية التأبين، كانت الكلمات تخرج من فم أبيها مترافقة مع دموع لا تتوقف: "لم يعطها الموت فرصة كي تلامس إرثها البسيط الذي تركته بداخل أوراق وكتب ولوحات". ذلك أن سحر لم تكن تفضل نشر كتاباتها الإبداعية، كالشعر والقصة القصيرة، وقد أكد والدها وزوجها بأن لديها رواية غير منشورة.
في تأبين سحر، تحدث عبدالرشيد الفقيه، المدير التنفيذي لمنظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان، حيث عملت الفقيدة فترة من عمرها القصير. قال رشيد إن "الكاتبة والأديبة سحر عبده، راكمت خلال فترة قصيرة، رأس مال كبير من الثقة بها ومن الإبداع في عملها واهتماماتها، بحيث لا يستطيع أحد أن يراكمه في مثل العمر الذي عاشته". واعتبر فعالية التأبين هذه، بمثابة "بداية حياة جديدة" لسحر عبده، عبر نشر أعمالها وكتاباتها تباعاً.
وفي حين قالت شيماء جمال، إنه "من الصعب العثور على نماذج تشبه الفقيدة سحر، لأنها كانت تتطور وتطور كل من يعمل معها بدون حتى أن يشعر"، قال رشيد إن سحر كانت دائمة البحث المعرفي في المجال الذي تعمل فيه، كما كانت تبذل جهداً ملموساً في التعبير عن قضايا ضحايا الحرب، كما لو أنهم أفراد من عائلتها. وبالنسبة لرشيد والعاملين في منظمة "مواطنة"، فقد شكل رحيل سحر "صدمة له ولزملائها ولكل من عرفها، كل جهة عملت معها سحر، خسرت بهذا الرحيل، كل شخص عرفها لا بد أنه شعر بالخسارة أيضاً".
كاتبة وشخصية استثنائية
وهي تفتتح فعالية التأبين، استعارت فريال العبسي مقولة شهيرة تقول "إن الأرواح تحلق بين محبيها"، واستدركت "سواء كان هذا حقيقي أو مجرد خيالات المحبين، ألا أنها تظل فكرة مريحة، أن تكون روح من نحب تحلّق بيننا، ونحن نتحدث عنها وإليها". ثم قرأت بعضاً من نصوص الفقيدة، وخاطبتها: "أهكذا الرحيل يا سحر! بلا وداع ودون انتظار للعناق؟"
وفي كلمته التي تصفحها من شاشة هاتفه المحمول، قال سبأ الصليحي، زوج الفقيدة، إن ما نشر في كتاب التأبين، ليس إلا جزءاً يسيراً من كتابات سحر، تم تجميعه بشكل سريع، مؤكداً أن لديها الكثير من الكتابات الأدبية، سيحرص على أن تنشر مستقبلا.
وأضاف وهو يغالب العبرات: "إذا كان لي من عزم على مواصلة الحياة، فلكي أتمّ ما كان على سحر أن تتمّه بنفسها؛ وهو كتُبها التي تزيد عن أصابع اليد، ولم ينشر منها كتاب واحد، غير نصوص ومقالات متفرقة هنا وهناك". سبب هذا الإحجام عن النشر، أوضحه سبأ بأنه "خليط من التواضع والثقة: التواضع بقولها إن ما تكتبه لا يستحق الاحتفاء أو النشر، والثقة بقدرتها على تجاوز ما كتبته إلى ما يستحق النشر".
قبيل ختام فعالية التأبين، صعد الفنان التشكيلي نبيل قاسم ليستهل حديثه عن الفقيدة، بالتنويه إلى أن سحر عبدالكريم، "التي فضلت أن تُعرف باسم سحر عبده"، "تنتمي إلى أسرة تجيد فن الحديث؛ أبٌ له اهتمامات ثقافية، وأمٌّ تجيد فن الحياة". وبهذا "لابد أنها حظيت بتشجيع، وقامت بحوارات ساعدتها على خلق رؤية خاصة بها، وأكملت طريقها عبر الاهتمام والقراءة. أكملت ما كان غائبا في الواقع الاجتماعي المعادي بالضرورة لأي مبدع".
كما استطرد نبيل قاسم في ما كانت الفقيدة تجيده: "أن تتحدث عن فيلم سينمائي، يعني أن لديها اهتماما مسبقاً بفن السينما، اهتمامها بالرسم يعني اهتمامها مسبقاً بالفنون التشكيلية، حوراها الشيق مع كاتب، يعني أنها كانت مهتمة بفن الحوار مسبقاً، اهتمامها بموضوع الكتابة المغايرة، يدل على أنها مهتمة بمسألة الإبداع".
من جانبه قال الناشط والأديب محمد الشميري، في كلمته، "كنت أتابع باهتمام بالغ، كل ما تكتبه سحر؛ نصوصا شعرية، ومضات، قراءات انطباعية حول فيلم أو رواية، حتى تقارير فعاليات وأنشطة مؤسسة "بيسمنت"، كنت أعيد قراءتها أكثر من مرة، أقتبس بعض عباراتها وكأنها جزء من رواية لا تنتهي".
"عفوا.. نفدت الورود لدى"
قالها وهو يخفي حقلاً من التوليب في القلب الذي أهداني،
حين تركت على بابه وردة".
كتبت سحر عبده الكثير من الشعر، والقصص القصيرة، والقصيرة جداً. وإذا ما أُمعن النظر في قصائها، سنجد أنه حتى قصيدة الومضة القصيرة، تترك لدى قارئها امتداداً لامتناهياً من شعرية متفردة. "كانت سحر فريدة في كل ما تفعل، وتشبه الجميع في الوقت ذاته!" هكذا كتبت صديقتها عائشة الجعدي، فيما كتبت نورا عبد العليم بعد تلقيها خبر الوفاة المفاجئة: "كيف يرحل إنسان بكل ذلك الهدوء، مخلفاً كل هذا الضجيج والوجع يا الله".