لم تشهد حضرموت، أكبر مدن اليمن من حيث المساحة، زخمًا سياسيًّا واستقطابًا جماهيريًّا، منذ الانتخابات الرئاسية في العام 2006، التي أجريت بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح- مرشح حزب المؤتمر الشعبي العام، وبين مرشح أحزاب اللقاء المشترك، آنذاك- المهندس فيصل بن شملان. وبعد 14 سنة من ذلك الاستقطاب الانتخابي، ها هي تشهد استقطاباً جماهيرياً بين مكونات سياسية صارت المواجهة العسكرية بينها في طليعة خيارات التنافس.
ما يميز هذا الاستقطاب أنه يجري بين مكونات جنوبية مختلفة في الرؤية والهدف؛ فالمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي تشكل منتصف العام 2017، بدعمٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة، ويهدف إلى فك الارتباط بين جنوب اليمن وشماله، يتصادم مع "مؤتمر حضرموت الجامع"، الذي يعتبره غالبية أهالي حضرموت، الحامل الأساسي لمطالبهم، بالإضافة إلى ظهور مكون "الائتلاف الوطني الجنوبي"، الذي يقدم نفسه كحامل سياسي، يتبنى توجه "الدولة الاتحادية". ونتيجة وجود هذه المكونات وغيرها، احتدت قوة الاستقطاب السياسي في محافظة حضرموت (شرق اليمن)، سواءً في مديريات الساحل أو مديريات الوادي، في محاولةٍ من كل طرف للحصول على أكبر قطعة ممكنة من كعكة "اتفاق الرياض" غير الناضجة.
الانتقالي ممثل أقوى للقضية الجنوبية
ينشط المجلس الانتقالي الجنوبي، في الساحة الجنوبية، ومنها حضرموت بالطبع، باعتباره ممثلاً وحيداً لـ"القضية الجنوبية"، حيث يعتبره أنصاره "الحامل السياسي الشرعي لقضية شعب الجنوب".
ويسيطر "الانتقالي" على محافظة عدن، التي اتخذتها الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، "عاصمة مؤقتة" منذ أحكمت جماعة أنصار الله (الحوثيون) سيطرتها على العاصمة صنعاء وغالبية المحافظات الشمالية بشكل كامل، في يناير/ كانون الثاني 2015. كما يسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي، على محافظة الضالع وأجزاء من محافظتي لحج وشبوة، ولديه فروعاً تنظيمية في غالبية المدن والبلدات الجنوبية.
يقول الصحفي المؤيد للمجلس الانتقالي، نبيل سعيد، في حديث لــ"خيوط"، إن المجلس "اكتسب مشروعية تمثيل" القضية الجنوبية، من خلال ما سمّاه "الاجماع الوطني الجنوبي"، مشيراً إلى أن عدداً من مكونات الحراك الجنوبي، وشخصيات سياسية وعسكرية، انضمت للمجلس "فور الإعلان عنه"، وإلى "هيكله التنظيمي، المتمثل في قوام الجمعية العمومية". وأضاف نبيل سعيد أن المجلس الانتقالي اكتسب "هذه المشروعية" أيضاً "من خلال اعتراف المجتمع الدولي" به، في إشارة إلى المفاوضات التي رعتها المملكة العربية السعودية خلال أكتوبر/ تشرين أول ونوفمبر/ تشرين ثاني 2019، بين الحكومة المعترف بها دولياً وبين المجلس الانتقالي الجنوبي، وهي المفاوضات التي تمخّض عنها "اتفاق الرياض".
وعن مدى تأثير المجلس الانتقالي في حضرموت، يرى سعيد أن ما سمّاها "بوصلة المزاج الشعبي في حضرموت"، تميل باتجاه المجلس الانتقالي، مستدلاً على ذلك بكون حضرموت شهدت أول مسيرة احتجاجية في العام 1998، ضد تعامل السلطة المركزية لدولة الوحدة في صنعاء، مع الجنوب، على إثر انتصارها في حرب صيف 94. وهي المسيرة التي اعتُبرت نواة أولى لما عُرف لاحقاً بالحراك الجنوبي السلمي. كما يعتقد بأن أهالي حضرموت يعوّلون على "رؤية المجلس في إنجاز دولة فيدرالية جنوبية"، من أجل "تحقيق تطلعاتهم"، وفي مقدمتها "أحقيتهم في الثروة والموارد".
يطالب "مؤتمر حضرموت الجامع" أن تكون المحافظة إقليماً ضمن دولة اتحادية يضمن دستورها تمثيل حضرموت في الاتحاد وفق معايير المساحة، الكثافة السكانية، الإسهام في الميزانية الاتحادية، والبعد التاريخي والثقافي والاجتماعي
يتوافقُ مع وجهةُ النظر هذه، أستاذ الأدب الحديث بجامعة حضرموت، سعيد الجريري، الذي يقيم حالياً في هولندا كلاجئ سياسي. حيث يرى أن ما سمّاه "مشروع الدولة الجنوبية" التي يتبناها المجلس الانتقالي، "هي في الأساس حضرموت، وستكون فيها الرائدة"، واصفاً حضرموت بـ"الهُوية الضاربة جذورها في مقابل الهُوية اليمنية". ويعتبر الجريري، في حديث لـ"خيوط"، هوية حضرموت الراهنة، "هوية سياسية تم تزييفها" منذ العام 1967، "في إطار المد القومي العربي".
وتحدث الجريري عما سماها "رسائل للجميع"، قال إن حضرموت أرسلتها عن طريق المظاهرة التي نظمها المجلس الانتقالي في المكلاّ، الثلاثاء 28 يوليو/ تموز 2020، لافتاً إلى أن هذه الرسائل "ليست طارئة"، إذ اعتادت حضرموت إرسال رسائل مماثلة "منذ التسعينات، مروراً بالحراك السلمي، ثم "الهبة الشعبية" التي انطلقت في ديسمبر/ كانون الأول 2013، على إثر مقتل الشيخ القبلي سعد بن حبريش الحمومي، في نقطة عسكرية.
وكانت أبرز مطالب تلك "الهبة الشعبية" إخراج قوات الجيش من محافظة حضرموت، واستبدالهم بجنود من أهالي المحافظة، إضافة لتمكين الأهالي من ثرواتها. ويصف الجريري ما يجري في حضرموت بأنه "إرادةُ الشعب ضدّ استمرار الهيمنة"، مشيراً إلى أن من يقف في صف الحكومة المعترف بها دولياً من أهالي حضرموت، هم "قلة ارتبطت مصالحها بذوي النفوذ"، في نظام دولة الوحدة في صنعاء، "من أجل مناصب وامتيازات آنية"، حسب تعبيره.
"حضرموت الجامع" منافس أكثر قبولاً
"مؤتمر حضرموت الجامع" هو المكون الأبرز على الساحة الشعبية في محافظة حضرموت، وتنضوي تحته أطياف سياسية وقبلية ومدنية تحت شعار "المطالبة بحقوق حضرموت". يرأس هذا المكون الشيخ القبلي عمرو بن حبريش الحمومي، ويتبنى مطالبَ حقوقية لحضرموت. وحسب رئيس الدائرة الإعلامية لمؤتمر حضرموت الجامع، أحمد بن زيدان، في حديثه لـ"خيوط"، فإن المؤتمر "يسعى إلى عكس أبرز مطالب واستحقاقات حضرموت الآنية والمستقبلية" المنبثقة عن وثيقة إعلانه ومخرجاته.
ويضيف بن زيدان، أن في مقدمة تلك المطالب "أن تكون حضرموت، بجغرافيتها المعروفة إقليمًا بشراكة متكاملة مع بقية الأقاليم، دون تهميش وإقصاء وتبعية"، على أن يتمتع الإقليم "بحقوقه الكاملة على ثروته". كما يتبنى "المؤتمر الجامع" خياراً آخر في سياق "الدولة الاتحادية"، وهو "أن تكون حضرموت، مع محافظات: شبوة والمهرة وسقطرى، إقليمًا واحدًا، إذا ما قرر أهالي هذه المحافظات، بإرادتهم الحرة، الانخراط في هذا الإقليم في إطار دولة اتحادية فيدرالية".
وعن مطالب حضرموت في إدارة الدولة الاتحادية، يقول "بن زيدان" إن "وثيقة المؤتمر التي أجمع عليها الحضارم تطالب أن ينصَّ الدستور الاتحادي على حق إقليم حضرموت بترك الاتحاد متى رأى أنه لم يعد على النحو الذي اتُّفِقَ عليه"، وأن يضمن هذا الدستور لإقليم حضرموت "امتلاكه لكافة حقوقه، وأن يكون تمثيل حضرموت في أي استحقاق قادم بشراكة تُمثّل فيها، وفقًا لمعايير: المساحة، الكثافة السكانية، الإسهام في الميزانية الاتحادية، والبُعد التاريخي والثقافي والاجتماعي"
مكون صاعد في ساحة الصراع
في ظل هذه الاستقطابات الحادة في حضرموت، ظهر "الائتلاف الوطني الجنوبي" كمكون جديد على الساحة السياسية، ويضم عددًا من الأحزاب والمكونات والشخصيات الجنوبية، ويرأسه الشيخ أحمد العيسي، رجل الأعمال المقرب من رئيس الجمهورية المعترف به دولياً عبدربه منصور هادي. ويؤيد هذا الائتلاف الحكومة المعترف بها دولياً، ومشروع "الدولة الاتحادية"، وتم إشهاره في العام 2019، في محافظة حضرموت.
وفي 24 أغسطس/ آب 2020، نفذ "الائتلاف الوطني الجنوبي"، فعالية جماهيرية بمدينة سيئون، بعد فعاليات مماثلة في مدينة لودر بمحافظة أبين، ومحافظتي شبوة وسقطرى.
الاستقطاب السياسي المحموم- "شعبيًّا"- بين المكونات المختلفة في حضرموت، يعطي مؤشرًا بأن الصراع بين القوى المؤيدة للحكومة المعترف بها دولياً، وبين المجلس الانتقالي الجنوبي، قد يشهد تطوراً حاسماً في هذه المحافظة
وبالتزامن مع تلك الفعالية، خرج أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي في سيئون، وقاموا بقطع عدد من الطرقات وإحراق إطارات السيارات فيها، وحاولوا اقتحام ساحة الفعالية- حسب مصادر محلية في سيئون. وفي حين قالت هذه المصادر إن الأجهزة الأمنية في المدينة حالت دون اقتحام ساحة الفعالية الخاصة بـ"الائتلاف الوطني الجنوبي"، اتهم المجلس الانتقالي أجهزة الأمن بقمع أنصاره. وأرجع الصحفي المؤيد للمجلس الانتقالي، أمجد صبيح، التظاهرة المضادة التي خرج بها أنصار المجلس، إلى أن "الائتلاف الوطني الجنوبي" "يحاول من خلال مثل هذه الفعاليات إعادة الشعب الجنوبي إلى باب اليمن"-حد وصفه، متهماً هذا المكوّن بـ"إعادة إنتاج نظام صنعاء بكافة أحزابه التي مارست الظلم والقمع بحق أهالي الجنوب"، منذ انتهاء حرب صيف 94.
وفي نفس اليوم الذي أقام فيه فعاليته الجماهيرية، أصدر "الائتلاف الوطني الجنوبي" بيانًا أدان فيه ما سمّاها "الحملة الشرسة" التي تعرض لها أنصاره في سيئون، متهماً أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي، بالاعتداء على المشاركين في الفعالية. واعتبر البيان أن ذلك "الاعتداء" "ينم عن عقلية إقصائية شمولية قائمة على الإقصاء ورفض الآخر".
صراع التوجهات والأهداف
يتوافق "مؤتمر حضرموت الجامع" مع "الائتلاف الوطني الجنوبي"، في قبول المكونين بمشروع الدولة الاتحادية، الذي يتبناه رئيس الجمهورية المعترف به دولياً عبد ربه منصور هادي، بينما يختلف عنهما المجلس الانتقالي الجنوبي في ذلك تماماً، حيث يطالب الأخير بـ"فك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية على حدود عام 1990".
خلافٌ في الأهداف لا يراه الصحفي نبيل سعيد كذلك. إذ يقول في حديثه لـ"خيوط"، إن هناك الكثير من نقاط التلاقي بين أدبيات "مؤتمر حضرموت الجامع" وأدبيات المجلس الانتقالي الجنوبي"، وأن أهم هذه النقاط، هي "التحرر من سلطة المركز، ومنح المحافظة حق إدراة الشؤون الإدارية والاقتصادية، إضافة إلى التأكيد على نقاط تتعلق بجغرافية حضرموت، كأكبر محافظة جنوبية غنية بالثروات".
غير أن الناشط المدني سالم محمد، يرى أن حديث أنصار المجلس الانتقالي، عن توافق بينه وبين مؤتمر حضرموت الجامع" في التوجهات، "محاولة لكسب أهالي حضرموت، وجرّهم للمربع الجنوبي"،
هذا الاستقطاب السياسي المحموم- "شعبيًّا"- بين المكونات المختلفة بمحافظة حضرموت، يعطي مؤشرًا بأن الصراع بين القوى المؤيدة للحكومة المعترف بها دولياً والداعمين الإقليميين لها، وبين المجلس الانتقالي الجنوبي والداعمين الإقليميين له، قد يشهد تطوراً حاسماً في محافظة حضرموت. وما لم يتم الإسراع بتنفيذ "اتفاق الرياض"، فليس ببعيد أن يصل هذا التنافس الاستقطابي إلى الصدام العسكري. يعزز من هذا الاحتمال، كون محافظة حضرموت تنقسم إلى منطقتين عسكريتين، تدين الأولى منها بالولاء للحكومة المعترف بها دولياً وتسيطر على مناطق وادي وصحراء حضرموت، بينما تدين الثانية بالولاء –غير المعلن– للمجلس الانتقالي الجنوبي، وتسيطر على مناطق ساحل وهضبة حضرموت، بالإضافة إلى مناطق تقع ضمنها الحقول النفطية.
وفي حين يرى بعض المراقبين المحليين أن الصدام العسكري في حضرموت بين الطرفين، مؤجل إلى حين حسم المواجهات في أبين وشبوة، يستبعد آخرون تطور الوضع إلى صدام عسكري في حضرموت، لاعتبارات عدة، منها الوضع الحساس المرتبط بالحقول والموانئ النفطية المتواجدة في المحافظة، والحدود الصحراوية الممتدة بين محافظة حضرموت والمملكة العربية السعودية، التي قد لا تسمح بأية اضطرابات أمنية بالقرب من حدودها، مثل تلك التي تعاني منها على حدها الجنوبي.
تحرير "خيوط"