صار البحث اليومي عن موقع مستور لقضاء الحاجة أو الاستحمام قلقا متعاظمًا بالنسبة للسيدة أنيسة، وهي عجوز من ذوي البشرة السوداء تقطن واحدا من أشد الأحياء فقراً وعشوائية بأمانة العاصمة صنعاء؛ حي "السنينة". تعيش أنيسة في "محوى" (حي صفيح) داخل حيّ "السنينة"، شمال العاصمة، وفيه تشكو صعوبة الحياة ومهانتها رفقة حفيديها وزوجة ابنها، الذي تبقى نفايات الحي، شاهدة على موته بالكوليرا.
مشاعر السخط والتذمر والحياء، ترافق أنيسة عند حديثها عن الحي الذي تسكنه مع أكثر من 300 عائلة جُلّها من السود، رغم افتقاره لحمام واحد. يفتقر الحي بطبيعة الحال، لأبسط مقومات الحياة؛ فمنازله لا تعدو عن كونها "طرابيل" (أغطية) بلاستيكية رُبطت كيفما اتفق بأعمدة أو إطارات غير مثبتة جيداً، أو أحجاراً وُضعت على غير ترتيب ودهنت بطين الأرض التي تتلدن مع كل هطول للمطر. في موسم الأمطار يتحول الحي بأكمله إلى مستنقع كبير تخفق من فوقه أجنحة البعوض ورايات المرض والفقر، إلى جوار رايات البلاد فوق البيوت.
تتغلب أنيسة على مشكلة انعدام مرافق الصرف الصحي، بالمشي لأكثر من كيلو مترين، بغرض الاستحمام والوضوء للصلاة. تُعبّر أنيسة على استحياء وبلهجة ساحلية، عن معاناتها في صورة تعكس واقع أفراد البشرة السوداء في "محوى السنينة". تقول لـ"خيوط": "أخرج من بيتي أنا وزوجة ابني أحيانا بعد انتصاف الليل ونقطع مسافة طويلة بحثا عن منطقة خالية لقضاء الحاجة أو الاستحمام، وهو أمر متعب ومخزٍ وقد نضطر للقيام بذلك مرتين أو ثلاث إذا احتاج الأولاد لذلك".
تعمل أنيسة، مثل غالبية ذوي البشرة السوداء، في مجال نظافة المدينة، رغم تقدمها في السن. وفي مقابل ثمان ساعات من كنس الشوارع تحت شمس الظهيرة، تجني دخلاً يسيرًا لا يتجاوز 25 دولاراً في الشهر، تنفقه على أسرتها، وتواجه ما تبقى من احتياجاتها بالتسول في السوق القريب من الحيّ.
ومثل نظرائها العاملين في مكتب نظافة العاصمة، تعجز العجوز غالبا عن توفير احتياجات الأسرة من الطعام والشراب، رُغم إشراكها بين الحين والآخر لزوجة ابنها في عملية التسول. وهي تعتقد، غاضبةً، بأن الحكومات المتعاقبة، بما فيها الحكومة الحالية في صنعاء، تستقصد جعل الفئة السوداء مجرد عمال نظافة، وبأن السلطات تتعمد فعل ذلك مؤخرا، لدفع رجالهم إلى جبهات الحرب التي تعيشها اليمن منذ ست سنوات.
مثل عدد من سكان "محوى السنينة"، فقدت أنيسة ابنها جراء إصابته بالكوليرا، وهو المرض الأكثر فتكاً، الذي أزهق أرواح أكثر من 18 شخصاً من سكان الحي في فترة تفشي الوباء خلال العام 2017. فالحي وفقا لشهادات ساكنيه، كان ومازال بمثابة مرحاض ضخم، وما إن تستذكر أنيسة ولدها (علاوي) حتى تذرف الدموع حسرة عليه، وتندب حظه بحرقة عند جيرانها الذين عايشوا كارثة المرض ولم يجدوا معيناً.
قذارة الحي جلعت شوعي الزمام، وهو جار أنيسة وأحد أفراد فئة السود، يشتاط غضباً من سوء أوضاعهم في الحي، ومن القذارة التي تحيط بالمكان من كل جهة. ويؤكد أنه وغيره من السكان حي الصفيح هذا، لا يريدون العيش في مواقع كهذه وعلى هذا المستوى من الانحطاط، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام أمر محتوم. ذلك أن عائلات السود لا تستطيع توفير لقمة العيش في يومها، فضلاً عن ادخار أي مبلغ لتحسين أوضاع الحي. ويذكر شوعي في حديثه لـ"خيوط"، أنه ذهب رفقة مجموعة من سكان "المحوى" إلى إدارة عملهم وأمانة العاصمة ووزارة الصحة في صنعاء، بغرض إقراضهم مبالغ تُخصم من رواتبهم على المدى الطويل، لإنشاء حمامات للحي، لكن طلبهم قُوبِل بالرفض، وأنهم عندما قرروا تنفيذ اعتصام أمام مبنى إدارة النظافة بأمانة العاصمة، ضُربوا وتعرضوا للإهانات والتحقير والتنمر بألفاظ عنصرية. يقول شوعي جازماً: "والله إنهم يريدوننا على هذه الحالة". .
يشكل السود نسبة لا تقل عن 10 بالمئة من التركيبة السكانية للجمهورية اليمنية، وفق إحصاءات يتداولها نشطاء فئة السود، وهي إحصائية غير رسمية لكنها لا تجافي التقديرات المنطقية بالنظر لكثافة حضور السود في مناطق اليمن عموماً. وبالرغم من عدم وجود رقم دقيق يحدد تعدادهم السكاني، إلا أن مختصين في مجال الدراسات السكانية يرجحون أنه يتراوح بين 6 و 7 ملايين نسمة. ويتوزعون بكثافة سكانية عالية على الأجزاء الغربية والشمالية الغربية والجنوبية لليمن، ويمارس غالبيتهم نشاطات كالزراعة والرعي في الأرياف، وصيد الأسماك في المناطق الساحلية. أما المتواجدون في المدن، فيعمل القسم الأكبر منهم في مهن كالنظافة وخرازة الأحذية وصيانة مرافق الصرف الصحي، ويقطنون في تجمعات سكانية تسمى "المحاوي"، وهي تجمعات عشوائية من مساكن الصفيح.
تتوزع "المحاوي" في غالبية المدن اليمنية الرئيسية، ويكاد كل حي من هذه الأحياء أن يكون نسخة مطابقة لـ"محوى السنينة"، من حيث وضع ساكنيه ومهنهم ووضعهم الصحي. ففي العاصمة صنعاء فقط، هناك أكثر من 58 محوىً يقطنها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف أسرة من السود، وهذه المحاوي تتنوع في مستوى استيعابها للأسر، حيث بعضها يصل عدد ساكنيه بالمتوسط إلى أكثر من 300 أسرة.
في "محوى الصافية" تعرض طفل أسود للضرب في المدرسة بشكل مضاعف وكان معلمه يناديه بـ"أبرهة الصغير"، ولا يُسمح له بالمشاركة في الإذاعة المدرسية والمسابقات الثقافية، ما ترك أثرا محبطا في نفسيته، وجعل أمه تدعم، قرار تركه التعليم والالتحاق بوالده في مهنة خرازة الأحذية
غير بعيد عن "محوى السنينة"، وفي نطاق أمانة العاصمة صنعاء، يقع "محوى الصافية"، وتقطنه أكثر من 87 أسرة معظم أفرادها يعملون في النظافة وخرازة الأحذية. أوضاع هذا "المحوى" لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في "المحاوي" الأخرى، عدا أن سكانه أكثر تعرضاً للازدراء والتنمر العنصري، بفعل ملامسته لأحياء أخرى يقطنها بيض مترفون .
زخيمة ناصر، عاملة نظافة من سكان "محوى الصافية"، تعيش مع زوجها الذي يعمل في ذات المجال، وطفلهما. تقول زخيمة لـ"خيوط" إنها تعاني كثيرا من تنمر المجتمع عنصرياً ضد طفلها الذي بات خارج مدرسته بفعل عبارات الإهانة التي كانت تلحق به من الطلاب وبعض المعلمين على حد سواء، بسبب سواد بشرته وسكنه في "المحوى". وتضيف أنها وزوجها يستطيعان التكيف مع الألفاظ العنصرية، من قبيل "خادم" و"مهمّش"، "لكن الأطفال لا يستطيعون".
تروي زخيمة تفاصيل مؤلمة تسببت في ترك طفلها (شاكر) للمدرسة، حيث تمت معاملته بدونية لمجرد سكنه في "المحوى وبسبب لون بشرته. كما كان يتعرض للضرب بشكل مضاعف عن أقرانه ولأتفه الأسباب، كما تقول الأم. وكان أحد معلميه يناديه بـ"أبرهة الصغير"، كما لا يُسمح له بالمشاركة في الإذاعة المدرسية والمسابقات الثقافية، ما ترك أثراً محبطا في نفسية الطفل، وجعل أمه تدعم، مكرهةً، قرار تركه التعليم والالتحاق بوالده في مهنة خرازة الأحذية. تقص زخيمة ذلك وعلامات الحزن بادية على وجهها، ثم تتبعه بتساؤل: "هل هذا طبيعي؟"
في "محوى الصافية" أيضًا، يتداول السكان قصة عودة طفلين، وجثمان طفل ثالث من إحدى جبهات القتال التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) ضد السعودية. بدأت القصة بمجيء سمسار حرب يحشد للجبهات بمقابل مادي يسير يتم دفعه للمقاتلين، ودون علم عائلاتهم. ذهب الأطفال الثلاثة إلى جبهة القتال، وعند تفقد العائلات لأبنائها ليلاً، لم تجدهم. في اليوم التالي، توجهت العائلات الثلاث، لتقديم شكوى للسلطات المعنية في صنعاء، وبعد شهر من بحث الأجهزة الأمنية عن الأطفال الثلاثة، تمت إعادة طفلين، بينما أعيد الثالث جثة هامدة.
يقول (نعيم- اسم مستعار) وهو جار الطفل المتوفى، إن "سماسرة الحرب" يجدون في فقر سكان "المحاوي" فرصة للتعبئة والحشد لجبهات الحرب؛ في البدء يعاملونهم بشكل جيد، لكن عند وفاة أحدهم لا يعاملونه أو أسرته كما يُعامل المتوفى من الفئات الأخرى. فبعد عودة جثمان (ز.خ) "لم يحض بمراسم دفن، ولم يدرج اسمه ضمن كشوف الشهداء، وهذا التعامل مع سكان "المحاوي" نجده لدى طرف الحرب الآخر أيضاً." يضيف نعيم.
طوال التاريخ الحديث لليمن تم استعباد ذوي البشرة السوداء في مناطق عديدة، لا سيما المناطق الغربية والشمالية الغربية والشرقية، وتمت معاملتهم بدونية بسبب لون بشرتهم، وطريقة حياتهم العشوائية؛ فقد كانوا ولازالوا ضحية تنمر مجتمعي عنصري يضعهم دائماً في قاع التقسيم الطبقي للتركيبة السكانية في اليمن.
"محوى الخمسين" هو واحد من أكثر وأشد المحاوي فقرًا، ويقع على مقربة من طريق الحديدة صنعاء، وتسكن فيه عائلات أجبرتها الحاجة والفقر والشعور بالضعة والانفصال عن المجتمع، على ممارسة الدعارة على مرأى ومسمع
محمد السهيلي، باحث في علم الاجتماع وعلم الاجتماع النفسي بجامعة صنعاء، يذهب في قراءة الوضع الاجتماعي والنفسي لأفراد البشرة السوداء في "المحاوي"، إلى الاعتقاد بأن "العنصرية ضد السود في اليمن هي نتاج ثقافة كرستها السلطة السياسية عبر عصور". ذلك أن السود، "كانوا منذ القدم محلَ التعبئة الأولى للحروب والوظائف غير الرفيعة في أعراف المجتمع، ومن أجل جعلهم حاضرين في الخدمة العسكرية والوظائف المحتقرة، عمدت السلطة السياسية على عدم تمكينهم اجتماعيا من خلال بث مفاهيم الكراهية المعادية لهم والمقلّلة من شأنهم". ويضيف أن المجتمع اليمني في الوقت الراهن، "ينهل من تلك الثقافة التي خلقتها السلطات المتعاقبة، على غير علم بحقيقتها".
"محوى شارع الخمسين"
ما إن يلقي الغروب بستاره على "محوى شارع الخمسين"، غرب العاصمة صنعاء، حتى تنقطع حركة النساء تماما. فهذا "المحوى" يتحول إلى وجهة محببة لبعض سكان المدينة الباحثين عن ملذات الجنس. تصطف سياراتهم أعلى التل المطل على "المحوى"، وسرعان ما ينزل منه شبان ورجال يبحثون عن نساء يمكن قضاء الليلة معهن في السيارات أو بداخل خيامهن .
"محوى الخمسين" هو واحد من أكثر وأشد المحاوي فقرًا، ويقع على مقربة من طريق الحديدة صنعاء، وتسكن فيه عائلات أجبرتها الحاجة والفقر والشعور بالضّعة والانفصال عن المجتمع، على ممارسة الدعارة على مرأى ومسمع.
(ز. س) تسكن رفقة فتاتين تبنّتهما، في خيمة على طرف "المحوى". تدفع المرأة كل مساء بالفتاتين لزيارة السيارات، فتذهبان في رحلة لساعات طويلة تعودان بعدها محملتين بالطعام وما يجود به عملهما المسائي، شاكيتان، بشكل يومي، سوء معاملة "الزبائن" لهما.
تُظهر (ز.س) حزنها الشديد لدفع الشابتين نحو ممارسة عمل كهذا، لكنها تتحجج في ذات الوقت، بأن البلاد لا تسمح لمثيلاتها سوى ممارسة مثل هذه النشاطات.
تنام النساء في "محوى الخمسين" متخوفات من هجمات الغرباء، بتسهيلات من بعض سكان الحي، لا سيما اللواتي يعشن بشكل منفرد، أو في غياب رجالهن.
ذلك هو الواقع المرير لهذه الفئة من المجتمع اليمني. قد لا تكون قصصهم المذكورة هنا هي الأكثر توصيفاً للوضع السيئ والمهين، الذي يعيشه أفرادها في "المحاوي" المتوزعة بطول وعرض العاصمة اليمنية صنعاء. فذلك ما استطعنا رصده في توقيت زمني ضيق، لكنها قصص، على اختصارها، تشير إلى جزء من عذابات هذا الإنسان الذي يستحق حياة كريمة، ومواطنة متساوية.
في الغد سيشرق شمس يوم جديد، قد يكون سعيداً على البعض، لكنه يوم كبقية الأيام بالنسبة لأفراد فئة السود في "المحاوي"، يتمنى فيه شوعي الزمام، أن لا يرى القذارة منتشرة في حيه، أن يمشي دون الحاجة إلى الضغط على أنفه بمشابك الغسيل. يوم ستتمنى فيه زخيمة ناصر أن يعود طفلها إلى المدرسة دون تحقير وسخرية منه لكونه أسود ويقطن "محوى الصافية"، يوم لا يساق فيها الأطفال السود إلى الحرب لمجرد أنهم سود وفقراء ومعدمين؛ وحتماً هو يوم ستتمنى فيه العجوز أنيسة أن تحظى بمرحاض يوفر عليها الحرج وقطع كيلومترين لمجرد رغبتها في قضاء الحاجة.