يحدث عند الثامنة صباحًا

عبدالرحمن بجاش
August 24, 2020

يحدث عند الثامنة صباحًا

عبدالرحمن بجاش
August 24, 2020

خيوط الفجر

الجمعة، الشارع ساكن، والهدوء يلفّ الكون، لا أحد سوى السيارات تحتل جانبًا واحدًا، وثمّة كتلة تجمّعت عند النقطة التي أُغلِق فيها الشارع يومًا، حيث كان مقررًا له أن يستمر إلى الشارع الرئيسي، لكن الفساد أبى يومها إلا أن يبيع بوابة الشارع! ومثل هذا كثير.

ماجد الصغير وحدَه يحرث الشارع بـ"سيكله" (دراجته) كما يشاء، ولا يعترضه أحد...، أنا كنت خارجًا باتجاه بيت الصديق والزميل الأعز عباس المنصور. وفي نهاية المنحنى الأول لمحته، لمحت بالتحديد خدَّه منتفخًا بعض الشيء، كنت قد تجاوزته، لكنني عدت إلى الخلف، لمحت الكيس بيده- طبعًا لا أعرفه: هل أنت مخزن؟ بخجل: نعم، ضاحكًا قلت: طيب عاد الوقت مبكر جدًّا، عاد يقول: وأيش في…؟! عدت أسأله: هل تتذوق القات في هذا الوقت؟! قال: الله، طعمه هنا، وأشار إلى أسفل أذنه! "هل أفطرت؟" "وقع واحد سندوتش وواحد شاي". تركته، وعند البوفية الواقعة على حافة الشارع الكبير، ثمّة شاب آخر أمامه كيس قات!

بعد أن عدت من بيت عباس، لمحتهما؛ اثنين على الرصيف جالسين جلسة مقيل رسمية، البيبسي والماء، وفراش تمدد على الرصيف، وبدا أنهما مسيطران على الوضع تمامًا!

من المذنب بحقنا؛ نحن أم القات؟ الصديق اللدود، الذي نشكره قبل ظهر كل يوم ولحظات النشوة القصوى، ثم نلعنه آخر الليل، ونظل نحلف الأيمان ألّا نعود إليه، وعند الحادية عشرة صباحًا، تجد أكثر مَن حلف الأيمان أولَ الحاضرين عند "المقوت"!

ماذا يعني أن يخزن اليمني من الثامنة صباحًا! بالطبع أنا شاهدته عند ذلك الوقت، وأكيد قد جلس قبلها بوقت، طال أو قصر. هل يخزن قتلًا للوقت؟ ولا تسمع عن قتل الوقت إلا في هذه البلاد! هل هو الفراغ والبطالة، طيب من أين المال؟ 

نحن نستعمر أنفسنا بالقات، وإلى القات تضاف المبيدات، من كل الأشكال والألوان، وكل ذلك إلى بطوننا. وفي كل الاتجاهات تبور الأرض بسبب نضوب المياه الجوفية التي تُستهلَك في سقي شجرة القات

الذي أدركه أن إهدارًا لا مثيل له للوقت يُهدر هنا، وهذا يعني أن العمل لم يعد قيمة أخلاقية، وأن وقتًا طويلًا بلا عائد، يُهدر هكذا، في بلد بحاجة إلى كل ثانية إلى إعادة بنائه وإلحاقه بالعالم. طاقة عمل معطلة أو مهدرة.

كان أهلنا في البلاد كلها يخزنون ساعة في اليوم، وفي صنعاء تحديدًا كانوا عند الخامسة مساء يخرجون في نزهة على أرجلهم حتى موعد أذان المغرب، وفي قريتي تحديدًا، كان "البَتُول" (عامل الحراثة) يمضغ القات إلى جذع شجرة، حتى إذا خف وهج الشمس عاد إلى حراثة الأرض.

نحن نستعمر أنفسنا بالقات، وإلى القات تضاف المبيدات، من كل الأشكال والألوان، وكل ذلك إلى بطوننا. وفي كل الاتجاهات تبور الأرض؛ بسبب جفاف المياه الجوفية التي تُستهلَك في سقي شجرة القات الملوثة، ونحن نصرّ على الانتحار؛ لأن دولة ربّتنا، ولا ثورة أعادت صياغة إرادة الإنسان، بل أن من ورثوا الثوار صاروا يعبون النفوس شعارات، وفي المقابل مثقفينا راحوا يقرؤون كتب غيرنا، وظلوا يوعّونا شعارات، حتى إذا اكتشفوا أنها صيغت لواقع آخر، داهمهم الإحباط فلجؤوا إما إلى المساجد باحثين عن مغفرة، أو إلى القبور كمدًا، أو إلى الجنون ملجأ، أو قتلهم الأمن.

لا توجد أرقام بالطبع لعدد من ينضمون يوميًّا إلى طابور تعاطي القات "المُبَودر" (المرشوش بالسم)، ويا ليتهم إلى طابور القات فحسب، بل إلى ما يتبعه من حبوب وعقاقير، وهناك من يحدثك همسًا عن انتشار الحشيش.

يضيع شبابنا، بينما يظن المتحاربون أنهم يؤسسون لهم مستقبلًا! لا يمكن لمستقبل يأتي على ظهر الجهل. ستنتهي الحرب يومًا، وسيكتشف قادتها كم قُتل إنسان هذه البلاد، آلاف المرات، والأيام بيننا.


•••
عبدالرحمن بجاش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English