في الفصل الثاني من «الجمهورية بين السلطنة والقبيلة»، يناقش الدكتور السقاف هزيمة يونيو/ حزيران، وانقلاب الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني. وتتجلى عمق الرؤية وصدقها في تسمية الكتاب أولًا: «الجمهورية بين السلطنة والقبيلة». فالجمهورية -كثورة ونظام حكم- مصلوبة بين السلطنة -الإرث الوبيل للإمامة، وبين القبيلة- الواقع الأليم والكئيب. والملاحظة الثانية: الربط بين هزيمة 67، وانقلاب الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، في صنعاء. فهزيمة 67، لم تكن هزيمة لمصر وحدها، وإنما للأمة العربية؛ فهي هزيمة لتحررها واستقلالها وتنميتها وحداثتها، وفي الوقت نفسه، كانت انتصارًا للإمبريالية والصهيونية والرجعيات العربية.
يشيد الدكتور السقاف بالدعم المصري للثورة، وينتقد محاولة نقل التجربة المصرية، في شروط بلد عربي هو -بدون مبالغة- أقل البلدان العربية شبهًا بمصر المعاصرة.
ويصف النقدَ الذي وجّهته "القوى الثالثة" للوجود المصري بالصائب، وإن كان صادرًا من موقع محافظ؛ معبِّرًا عن الحزن لعدم إطلاق سراح السياسيين المسجونين في مصر إلا بعد الهزيمة. ويرى أن الهزيمة كانت أقسى من هزيمة محمد علي باشا عام 1840؛ فالقضية -كما يرى الباحث والمفكر- قضية تحرر وطني، والوحدة العربية صراع اجتماعي، وليست قضية غير مختلف عليها، وذلك وهم تاريخي.
الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، جاء ثمرة للهزيمة، وهو تطبيق للمؤتمرات الثلاثة: عمران، الجند، وخَمِر. تسلمت "الذاتية اليمنية" الحكم مهادنة للاستعمار، ومتحالفة مع الرجعية السعودية، وقامت بتصفية الجيش، والقوى السياسية الراديكالية -ممثلة الثورة الوطنية الديمقراطية المتبنية قضايا اجتماعية تخوضها قوى سياسية: القوميون، والشيوعيون، والبعث، والناصريون، وكانت مهمة نوفمبر/ تشرين الثاني، التخلص من هذه القوى، وهذه القوى التي اقتربت بدرجات متفاوتة مع الفكر الماركسي أحدثت قطيعة مع الفكر القومي التقليدي. ويرى أن الملمح الديمقراطي البرجوازي لم تمثله طبقة التجار في تحالف مستمر، بل هذه القوى؛ ومن هنا كانت مهمة نوفمبر/ تشرين الثاني، الخلاص منها.
لا يتوقف الباحث عند أحداث الفترة 67 - 74؛ فلها مبحث خاص، ويرى أن كبار المُلّاك والمشايخ، الذين التحقوا بالأحرار، كان هدفهم تغيير بعض قواعد اللعبة دون الخروج عليها.
يشير إلى أن عدن أصبحت بعد الاستقلال حليفًا طبيعيًّا للقوى الجديدة، ويعتبر انتصار عدن نسمة مطهرة ملأت النفوس بالأمل، وأحيت الأهداف الكبرى لحركة التحرر الوطني والقومي في ليل الهزيمة. ولكن انتصار عدن أصبح مشكلة في الشمال للمشايخ والقوى التقليدية.
ورؤية الدكتور غاية في الدقة والعمق، وقد مثّلت الأساس للصراعات التي أعقبت الاستقلال، ونجم عنها حروب 72 و78، وحروب المناطق الوسطى، وحتى الصراع داخل كل شطر كان له علاقة بصراع الشمال والجنوب.
وينظر بعمق إلى الإجماع على الشعار الجمهوري، والاختلاف على المحتوى الاجتماعي؛ فورثة الإمامة، المختلفين معها داخل إطارها، هم النقيض للرامين إلى التغيير الجذري والشامل، وهم القوى التي اضطلعت بالدور الأكبر في حصار السبعين يومًا في صنعاء والمدن الأخرى؛ منتقِدًا موقف زيد الوزير والزبيري في التعويل على القبيلة.
كما يرى الدكتور أن عودة الملكيين لم تكن لحقن الدماء، وإنما ليسيل الدم باتجاه آخر؛ وهو ما تم فعلًا. ويرى أن الفوضى التي سادت في عهد القاضي الإرياني لم يتخلص منها الحكم حتى اليوم، وأن الفوضى والفساد لا يرتبطان بأشخاص الحاكمين، وإنما بانتمائهم الاجتماعي، وأن المؤسسة القبلية ورجالها من القضاة والضباط لا يرقون -في ظل علاقاتهم بحكام السعودية- إلى مستوى القدرة على بناء دولة حديثة مركزية متماسكة. ويرى أن الثابت في سياسة الجمهورية الجديدة أمران، هما: التحالف مع السعودية، ومعاداة عدن، وأن حرب 72 ضد الجنوب، وانتعاش المقاومة من أسباب انقلاب 13 يونيو/ حزيران 74، الذي رعته السعودية بعد تصفية الجيش من الضباط الراديكاليين، واتخذ هيئة جيش قبلي.
أراد الحمدي بهذا الجيش مواجهة القبيلة، لكن لم يمتلك الانقلاب –وَفق رؤية الدكتور- برنامجًا حقيقيًّا، ولم تطَل الإجراءاتُ المصالحَ التي يقف عليها المشايخ، واستمر تدفق المال والهبات.
أعاد الحمدي إثبات أنه لا يمكن تحقيق أهداف خيِّرة بوسائل شريرة، وأن الطموح بدون كفاءة جريمة، ويرى الدكتور أن هذين الأمرين يفشل كلُّ ساستنا العرب الأشاوس في إدراكهما.
يضيف الدكتور: كل يوم مع الحمدي زاد الاهتمام بالأمن الوطني وتطويره بإدخال وسائل التجسس الحديثة. إننا نتابع تطور هذا الجهاز؛ لأن تحديثه سوف يصبح جزءًا من طغيان الدولة القبلية ومؤشِّرًا أساسيًّا على الانفصال بين الحاكم والمحكوم.
ورؤية الدكتور جديرة بالاهتمام والمناقشة؛ فانقلاب الـ13 من يونيو/ حزيران، جاء من دست الحكم، ومن رموزه؛ فالإطاحة بالقاضي الإرياني كان بتوافق شيوخ الضمان، واستجابة للإرادة السعودية الباتعة، وقبول هذه الأطراف كلها بالحمدي وارد، كإشارة أستاذنا، وتحديث جهاز الأمن الوطني أيضًا، وتزايد القمع واقع، بل إن الحمدي كان رئيسًا للمجلس الأعلى لهذا الجهاز إلى جانب شخصيات مدنية، وجرت الاستعانة بخبرات دولية وعربية، وكان القمع راعبًا وشاملًا، ولكن الحمدي، الذي لم يقدم برنامجًا، كان له مشروعه الخاص المتصادم مع إرادة المشايخ والسعودية، وهو بناء الدولة العصرية الحديثة - دول النظام والقانون، وإزاحة المشايخ وإلزامهم قراهم، ومنعهم من التحرك أو دخول المدن، وقطع الهبات والعوائد، بل ومحاصرتهم، والزج بالكثير منهم في السجون، وإنشاء لجان تصحيح، ومد نشاط التعاونيات إلى مختلف المناطق والقرى وحتى الأرياف البعيدة، وقد أنجزت مئات المستوصفات والمدارس، وتم شق الطرقات، وإدخال الكهرباء. كل هذا حَدَّ من تغول المشايخ والعقال والنافذين، والتحق المئات والآلاف من الشباب المستقلين والأحزاب بهذا النشاط الوطني والمجتمعي، كما جرى إزاحة كبار الضباط الموالين للمشايخ المختلف معهم، وإن ظلّ الرهان على بعض المشايخ والضباط الموالين حاضرًا؛ وهو ما أدى إلى استشهاده.
يدين الدكتور السقاف اغتيال السعودية للشهيد الحمدي، ويرى أن السعودية والمشايخ لا يتورعون عن أقذر الأساليب وأكثرها انحطاطًا، ويجزم -كدأبه في الدفاع عن الحق واحترام الحياة وحقوق الإنسان- أنه قُتِل مظلومًا
ويدرك أستاذنا أهمية الربط بين العام والخاص، بين ما هو وطني ودولي. فانتصار العرب في حرب 73، على الجيش الإسرائيلي، وانتصار حركات التحرر الوطني، وبروز دور حركة عدم الانحياز، ودور الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية (البلدان الديمقراطية) حينها - كان لها التأثير الكبير. ثم، وهذا هو الأهم، كان جسم الجيش الوطني ما يزال سليمًا، والكثير من الضباط الوطنيين لهم حضورهم؛ وهو ما سهّل الإطاحة بكبار الضباط والقادة من أبناء المشايخ بما فيهم رئيس الأركان، وأولاد أبو لحوم، ومجاهد أبو شوارب.
حركة 13 يونيو/ حزيران، كانت سباقًا بين انقلابين: انقلاب البعث، وكان بيانه جاهزًا، لكنه اكتُشف، وأرسل القاضي عبد الرحمن الإرياني رسالة احتجاج إلى بغداد حملها الشهيد محمد أحمد نعمان، وقد استُشهد في بيروت بعد قيام الحركة، وقامت الحركة بتأييد من السعودية وكبار الشيوخ: الأحمر، وسنان، والمطري، ولكل طرف حساباته. ولا ننسى التنسيق بين الزعيم سالم ربيع والحمدي لقيام دولة الوحدة؛ فللحمدي مشروعه الخاص لبناء دولة نظام وقانون، ولكنها أيضًا دولة عسكرية وقمعية ودكتاتورية شأن الأنظمة الثورجية في المنطقة العربية كلها، وهي كأي دولة تحتكر العنف، وتتسيّد بالاستبداد.
يشير الدكتور إلى تلهف الحمدي لدخول التلفزيون والدور الخطير، وسيادة ديماغوجية سادت حتى اليوم. والرؤية صائبة، ولكن هناك جوانب إيجابية كاثرة صنعتها ظروف وتطورات السبعينات، وازدهرت في عهد الحمدي، بإرادته وخارج إرادته وحتى ضدها، منها ازدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبدء توسع نشاط الأحزاب السياسية، وصدرت المجلات الثقافية والأدبية، وتأسست النقابات المهنية والإبداعية. ورغم القمع السافر كانت التيارات السياسية والفكرية تعبّر عن وجودها بأكثر من وسيلة، وكانت الصحافة السريّة في ذروة نشاطها، وبدأ فعلًا تأسيس أجهزة الدولة، وصدرت عشرات القرارات والقوانين.
يدين الدكتور اغتيال السعودية للشهيد الحمدي، ويرى أن السعودية والمشايخ لا يتورعون عن أقذر الأساليب وأكثرها انحطاطًا، ويجزم -كدأبه في الدفاع عن الحق واحترام الحياة وحقوق الإنسان- أنه قُتِل مظلومًا؛ منتقِدًا توحّد الزبيري وزيد الوزير بالقبيلة، ويرى في التوحد شعبوية مناسبة لهدف كلِّ واحد منهما.
يدرس الدكتور عميقًا التركيبة القبلية، كما يدرس، بوعيِ الفيلسوفِ والمستوعبِ لطبيعة التاريخ وعلم الاجتماع، الدولةَ اليمنيّةَ القديمة، ومراحل الدولة في مصر وفارس والهند، بعيدًا عن وحدانية ثقافة أو حضارة بعينها.
يعتبر الدكتور الماركسية إحدى المحاولات الكبيرة في الفكر الحديث والمعاصر لصياغة تاريخ الفكر والحضارة من وجهة نظر إنسانية شاملة، لا تقتصر على أمة دون أخرى أو حضارة دون حضارة، ويشير المفكر إلى المنشأ الغربي، وانغماسُ مؤسسيها في الحياة الثقافية والسياسية للغرب جعلَ قضايا الشرق تحظى باهتمام غير أساسي في إنتاجها؛ ولذا جاء ما كتبه "ماركس" و"أنجلز" عن الشرق أشتاتًا متفرقة في صورة ملاحظات ورسائل، ويرى أن الحدس العبقري بضرورة دراسة الشرق دراسة خاصة لا تكتفي بتكرار تاريخ الغرب عليه، ويشير أن ماركس ذكر أسلوب الإنتاج الآسيوي إلى جانب الأساليب الأربعة الأخرى المعروفة؛ وذلك في مقدمته المشهورة لكتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي». (دراسات فكرية وأدبية، ص 210 و211).
يشيد الدكتور بدور غاندي ومكسيم رودونسن في نقد ومراجعة المادية الجدلية والتاريخية. والحقيقة أن مبحث الدكتور في نقد المركزية الأوروبية مهم؛ فكثير من المفكرين تناولوا المركزية الأوروبية وعالمية المراحل الخمس منهم إدوارد سعيد في «الاستشراق»، وأحمد صادق سعد في «تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي»، وسمير أمين، وإلياس مرقص، ويبقى مبحث أستاذنا غايةً في العمق والعلمية، وعودةً إلى المنبع الأصلي.