كثبان رملية ساحرة، ومنطقة معزولة عن أنظار العالم، تستوطنها سلاحف خضراء منذ آلاف السنين، ما جعلها مملكة طبيعية لها، وللجمال بشكل عام.
إنها محمية شرمة (جثمون)، الواقعة في الساحل الشرقي لليمن، على بعد حوالي 120 كيلو متر شرق مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وهي منطقة كثيفة الرمال، تتمتع بنسيج فريد من التنوع البيئي الغني بالعديد من الكائنات الحية. فإلى جانب وجود السلاحف الخضراء الضخمة التي اتخذت من أرض هذه المحمية موطنًا لها، ومن رمالها حضنًا دافئًا لبيوضها، تشكل هذه المحمية مستودعاً ضخما للطيور المهاجرة، مثل النوارس التي تضطر للتوقف في هذا المكان في رحلتها بين القارات والمحيطات، كما أن التضاريس الخاصة والتشكيلات الصخرية التي صنعتها الرياح والأمواج بدقة متناهية وفرت للطيور وغيرها من الكائنات الحية أجواء ملائمة للاستقرار، بالإضافة إلى ثراء شواطئها بحدائق الشعاب المرجانية البديعة، والتي تُعد بيئة خصبة وغنية بالأسماك الصغيرة والقشريات وغيرها من النباتات البحرية. ومما يؤسف له، أنه لا توجد دراسات متخصصة عن أنواع الطيور والأسماك والشعاب المرجانية في محمية شرمة، بينما تركز غالبية الدراسات على السلاحف فقط.
تشغل محمية شرمة مساحة طولية تقدر بحوالي 57 كم بموازاة ساحل البحر العربي، وتتكون من عدة مناطق منها: رأس شرمة، رأس باغشوة، وادي جثمون، شطر القرن.
موطن لجميع الكائنات
تشغل محمية شرمة مساحة طولية تقدر بحوالي 57 كم بموازاة ساحل البحر العربي، وتتكون من عدة مناطق منها: رأس شرمة، رأس باغشوة، وادي جثمون، شطر القرن. جميعها تتميز بطبيعة خلابة من شواطئ منبسطة تزينها القشور والأصداف، ومياه بحر صافية نقية، وكتل صخرية متناثرة كأرخبيل طبيعي يصدّ أمواج المحيط.
كل ذلك جعل من شرمة منطقة سياحية ذات رونق طبيعي أخّاذ، يتجه إليها الزوار من سكان المحافظة والمحافظات المجاورة في رحلات للتخييم والتنزه ومراقبة الحياة البحرية والترويح عن النفس.
"قررت مع زوجي أن نمضي الأيام الأولى من شهر عسلنا متنقلين بين الأماكن السياحية التي لم يسبق لنا زيارتها في البلاد"، هكذا بدأت الناشطة عائشة الجعيدي حديثها لـ"خيوط"، وتستكمل وصف تفاصيل زيارتها بالقول إنه وبعد ظهر أحد الأيام وهم في طريقهم إلى المهرة، كانوا منبهرين بالسواحل الشرقية الناصعة على طول الطريق والبحر صافي الزرقة الذي يتهادى عليها، حينها تذكروا أنهم قريبون جدًا من محمية شرمة، وتوجهوا مسرعين إليها ليستمتعوا بالغروب هناك.
وعن جمال المكان وسحر طبيعته تقول عائشة: "عندما وصلنا كان الهدوء سائدًا والمنظر ساحرًا. كأن المكان هيئ برماله البيضاء ومياهه الرقراقة وسلاحفه اللطيفة ليستقبلنا، وعلى الرغم من زيارتي لمناطق متعددة إلا أن هذه اللوحة ظلت الأجمل في ذاكرتي على الإطلاق".
وتضيف، أنه على الرغم مما تتمتع به من بيئة ومشاهد طبيعية خلابة تستهوي السياح والزائرين، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية والبنى التحتية المهمة لنجاح وازدهار السياحة في تلك المنطقة، كالمحلات التجارية والفنادق والطرق المعبدة والمتنزهات.
مملكة السلاحف
السلاحف هي أول ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر محمية شرمة؛ فإليها تتوافد مجاميع كثيرة من السلاحف الخضراء النادرة والقادمة من المحيطات البعيدة.
يقول الباحث في مجال الأحياء البحرية مروان الحبشي لـ"خيوط": "إن هذه السلاحف تقوم بهجرة دائرية مستمرة حول المحيطات والبحار منذ قديم الزمان، حيث تأتي من شرق آسيا والمحيط الهندي وصولاً إلى شواطئ المكسيك في أمريكا الجنوبية التي تشبه كثيراً شواطئ محمية شرمة".
ويوجد فيها نوعان أساسيان من السلاحف وهي السلاحف الخضراء (Chelonia Mydas) والسلاحف صقرية المنقار (Eretmochelys Imbricat) إذ تعشش السلاحف في المحمية، وتنطلق باحثة عن رزقها في جوف البحر، ثم تعود إليها في موسم التزاوج ووضع البيض، حيث تضع الأنثى الواحدة ما بين 75-120 بيضة وتدفنها وتعود مرة أخرى إلى البحر.
فيما تقوم الرمال بإتمام عملية الحضن، وبعد 50 يوماً يفقس البيض وتبدأ الصغار في النبش والخروج، وعند مغادرتها لحفرة التعشيش وفي المسافة الفاصلة بين الحفرة وخط الساحل يجب على السلاحف المولودة تجاوز ثلاثة خطوط "دفاعية" قبل أن تصل إلى البحر، أولها الطيور البحرية التي تكون على أهبة الاستعداد للانقضاض عليها. وأيضا الكلاب الضالة التي ازدادت أعدادها مؤخراً بسبب المخلفات وبقايا الأطعمة التي يتركها الزوار وراءهم. وآخر خط يجب عليها تجاوزه هو سرطانات البحر الموجودة في خط الساحل، والتي تنقضّ مباشرة على رأس السلحفاة الصغيرة الغضة. وحتى عند وصولها إلى البحر قد تتعرض أيضاً للأكل من قبل الأسماك وبعض الطيور البحرية الجارحة. إذ تنجو منها أقل من 10% من السلاحف الصغيرة وهي التي تستطيع الحفاظ على بقاء النوع من الانقراض.
ومن المثير أن هذه السلاحف الصغيرة تكون مهددة طوال العشرين سنة الأولى من عمرها، إلى حين وصولها لمرحلة النضج الجنسي، وفي موسم التزاوج تعود السلاحف الكبيرة والناضجة إلى خط رحلتها الأولى، لتضع بيوضها في نفس المكان الذي ولدت هي فيه! وكأن في داخلها نظاماً ملاحياً يمكّنها من العودة إلى مكان ولادتها بعد أكثر من 20 عاماً كما يصف الباحث مروان الحبشي.
ممارسات تهدد الحياة البحرية
على الرغم من إعلانها محمية طبيعية في عام 2001، واعتمادها في العام التالي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) ضمن المحميات العالمية، لا زالت شرمة وكائناتها العتيقة تتعرض لانتهاكات واعتداءات مشينة بشكل مستمر.
فقد أصبح مشهد السلاحف المذبوحة والمقلوبة والمرمية بجانب أشلائها وبيوضها على طول سواحل المحمية منظراً معتاداً، إذ يقوم الزوار باصطيادها وذبحها بشكل جائر وعشوائي بقصد أكلها أو أخذ بيضها، إذ تصل بعض الممارسات إلى قيام الزوار بفتح الصدف البطنية للسلاحف لأخذ بيوضها من دون ذبحها وتركها تعاني وتتألم حتى الموت، وتكون بعد ذلك فريسة سهلة للكلاب الضالة.
ومن الممارسات الجائرة التي تهدد الحياة البحرية في هذه المحمية الصيد التجاري عن طريق "الحويّ" بالشباك الكبيرة من قبل السفن والقوارب التجارية، إضافة إلى مخلفات الأنشطة البشرية وبقاياها؛ إذ تموت الآلاف من السلاحف كل سنة بسبب تناولها الشظايا المعدنية والبلاستيكية وأغلفة المجلات والنفايات التي ترمى على شاطئ البحر. وسط تحذيرات من ناشطين بيئيين على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تجد استجابة جدية من قبل السلطات المعنية.
في حديثه لـ"خيوط" أدان الناشط في مجال البيئة م. عمر بادخن، الممارسات العبثية تجاه المحمية بقوله: "إن التنوع الحيوي في البحر والبر كنز طبيعي وطني ودولي، والحفاظ عليه مسؤولية الجميع، ويزداد الأمر أهمية خصوصاً فيما يتعلق بالسلاحف، فهي تعتبر من الحيوانات البحرية المهاجرة بين القارات، وتمثل عنصراً مهماً في دورة الحياة البحرية، والاصطياد الجائر وتخريب أماكن التبييض الموسمية للسلاحف يعد جريمة كبرى بحق الطبيعة".
مضيفاً: "تقع على عاتق سلطات الدولة المعنية بالبيئة مهمة جسيمة في حماية هذا التنوع البيئي رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد".
إن التهديدات السابقة والحالية لمحمية شرمة تفرض بذل المزيد من الجهود للاهتمام بها والحفاظ عليها وقطع الطريق أمام كل المتنفذين الذين يحاولون الاستيلاء على هذا الكنز الطبيعي النادر مستغلين غياب الدولة
تهديدات جديدة
عادت محمية شرمة لتتصدر المشهد الإعلامي من جديد، ففي 21 يونيو/ حزيران الماضي نشرت مذكرة لرفض الحكومة اليمنية إقامة مشروع استثماري على سواحل المحمية بعد أن كان محافظ محافظة حضرموت فرج سالمين البحسني قد وافق عليه مسبقا (7 يونيو/ حزيران 2020)، حيث يتضمن المشروع إقامة لسان بحري مع فندق ثلاث نجوم ومستودعات وخزانات للمشتقات النفطية والغاز المنزلي بغرض الاستيراد والتصدير.
قوبل هذا الأمر باستياء كبير من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قال الأديب والأستاذ الجامعي د. سعيد الجريري في منشور له على موقع "الفيسبوك": "إن محمية شرمة الطبيعية للسلاحف الخضراء النادرة في العالم ليست "حتّة" (قطعة) أرض يوجه بشأنها هذا المسؤول أو ذاك (بسرعة اتخاذ الإجراءات المطلوبة)"، مضيفاً "إن شرمة ذات مكانة اعتبارية ضمن التصنيف العالمي لليونسكو، وليس لأي مسؤول مهما كانت درجته التصرف بالمناطق البيئية والأثرية، ولا يجوز العبث بها من أي جهة أو شخص كان. ولعل مما يطمئن أن هناك خط دفاع مجتمعي أول ضد الاستثمار بخراب البيئة والآثار".
وعن مخاطر إقامة مثل هذه المشاريع الاستثمارية يقول باحث الأحياء البحرية علي الحبشي لـ"خيوط: "إن السلاحف تختار السواحل الهادئة والخالية من الحركة السكانية للتكاثر، حيث أن التطورات العمرانية والأضواء تثبط من عزيمة الإناث المعششة، وتؤدي إلى عزوفها عن هذه الشواطئ، وتسبب للصغار الفاقسة التشويش والإرباك الذي يجعلها تدور داخل البر ولا تتجه نحو البحر، ووجود مثل هذه المشاريع التي تتضمن عمليات حفر وردم للشواطئ سيؤدي إلى نفور وهجرة السلاحف من هذا الساحل إلى آخر أكثر أماناً وهدوءاً، والإضرار بالشعاب المرجانية وتهديد حياة الأسماك قد يؤثر بشكل سلبي على حياة الكائنات الحية ويخل بتوازن البيئة البحرية".
فيما أبدى الناشط الحقوقي زاهر سلطان رأيه لـ"خيوط" قائلاً: "إن التهديدات السابقة والحالية لمحمية شرمة تفرض بذل المزيد من الجهود للاهتمام بها والحفاظ عليها وقطع الطريق أمام كل المتنفذين الذين يحاولون الاستيلاء على هذا الكنز الطبيعي النادر، مستغلين غياب الدولة في الوقت الراهن".
الأمر الذي يضع مستقبل المحمية بما تتضمنه من كائنات وطبيعة خلابة على محك العبث والاستغلال الجائر، فيما عين الاهتمام من قبل الجهات المعنية لا ترى، أو لا تريد أن ترى حجم التهديد الذي تتعرض له المحمية، والذي قد يفقدها عناصر أهميتها وحضورها الحيوي والجمالي.