كتاب "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة لمؤلفه الدكتور أبو بكر السقاف طبع عام 1988 باسم محمد عبد السلام؛ حيث كان القمع ضدًا على حرية الرأي والتعبير، والإيغال في الاعتقالات التعسفية، والإخفاء القسري للناشطين السياسيين والمفكرين غير الموالين؛ هو السائد. ويزجي الدكتور الشكر للأساتذة الذين أسهموا في طبع الكتاب.
في المقدمة يشير الدكتور إلى غياب الإجابة عن سؤال غياب المواطنة المتساوية عن أبناء الشمال، بينما يستمر مفهوم الانتماء القبلي، رغم سقوط الإمامة منذ أكثر من 25 عامًا، منتقدًا تسخير الدولة الحديثة نسبيًا لاستمرار القديم في شكل "سلطنة" جديدة، ويفند المناهج التي يتوهم الكثيرون أنها تقع ضمن المحظورات. وتصر قوى تنتمي إلى القديم وعالم الإمامة على تناول نفس القضايا من منظورها الخاص؛ مشددًا على ضرورة تناول قضية الوطن بكل جرأة ووضوح؛ حتى لا يستمر الوعي الزائف في إنتاج الظلام والواقع الكئيب الذي تتولد عنه الأوهام.
في الفصل الأول "من الإمامة إلى جمهورية سبتمبر"، بعد فذلكة عن التاريخ، وعلاقة الماضي بالحاضر، ومدى تأثيره سلبًا وإيجابًا؛ يرى الدكتور أن أكثر المجتمعات قدرة على الحركة، وتحقيق وتيرة عالية من الحراك الاجتماعي، هي تلك التي لا يثقل كاهلها ميراث باهظ يشل حركتها، أو يفرض عليها البطء عندما تكون السرعة واجبة؛ مدللًا بأمريكا الشمالية، ومذكرًا بأن اليمن الشمالي الذي لم يُستعمر احتفظ بجوانب أساسية من صورته القديمة حتى 1962. كما يؤكد أن اليمن قد حُرم من الإصلاحات التركية (التنظيمات) التي عرفتها الشام والعراق، مشيرًا أن الأتراك لم يمارسوا حكما موحدًا على اليمن الشمالي كوحدة، بينما اليمن الجنوبي كان خاضعًا للاستعمار البريطاني. "لا يستطيع تاريخ الإمامة أن يفخر بأنه حقق حكمًا مركزيًا طويلًا أسهم في تطور المجتمع بمنحه سنوات من الاستقرار والازدهار، بل قد يكون من أسباب نجاح الإمامة الزيدية مناسبتها لمنطق البيئة والقبيلة في الشمال". (نص المؤلف)
ويربط بين مبدأ الخروج بصراع مشايخ القبائل الذين لا يعترفون بالآخر إلا أقرانًا ولا تعرف علاقاتهم نظاميًا هرميًا مستقرًا، بحسب قراءته أيضًا.
يعيب على الاحتلال التركي غياب الإيجابية في توحيد المجتمع. ففي المجتمع القبلي تمثل الرئاسة والمقام الأول ترتيبًا مؤقتًا بين نظراء لا هرمية فيه، ويشير أن اليمن قبل الإسلام قد عرف هذه العلاقة؛ فتعدد الآلهة تعبير عن التشتت، وتثبيت لعلاقة التوازن. ويرى أن ذلك يعني توحيد التنوع أكثر منه تنوع الوحدة، وأن للولاء الديني علاقةً بذهب المعز وسيفه أكثر منه ولاءً دينيًا.
ويؤكد على رفض الإمام لحكم الطاغوت والعرف القبلي. (ولهذه المواجهة مع القبيلة علاقة بالولاء، وفرض الطاعة أكثر منه إلزامًا بالشريعة؛ فقد ظل العرف سائدًا حتى اليوم). (القارئ)
ويرى أن يحيى وحده حكم بالمذهب، وسوف يوحد المركز والدولة بشخصه بعد الاستقلال، وأن شخصيته كانت عائقًا أمام الوحدة التي قصدها لويس الرابع عشر عندما قال: "أنا الدولة". وهنا يمكن ملاحظة تقاطع بين الزيدية والاثني عشرية (والكلام لي)؛ فقد ظلت الشيعة الاثنا عشرية معارضة للدولة الإسلامية، وكان جل الأئمة الزيديين عائقًا أمام بناء الدولة، وقد مثل مبدأ الخروج تماهيًا مع نهج القبيلة كما يشير الدكتور. (والإمام الواصل للحكم عبر الخروج يظل خروجه على المدن والمناطق الزراعية سلاحًا بيده لإرضاء الفيد القبلي). (القارئ)
معرفة الماضي والحاضر
يشير الدكتور إلى أن صلح دعان في عام 1911، جاء ليؤكد فرقًا مذهبيًا قائمًا داخل المجتمع. فقد أصبح الإمام مسئولًا عن تطبيق المذهب الزيدي في المناطق الزيدية والعثمانية في المناطق الشافعية؛ وهو ما عنى جعل الانتماء الديني والمذهب أساس علاقة الفرد بالمجتمع والدولة. والوطن في الفكر الإسلامي كله شيعيًا كان أو سنيًا هو العقيدة؛ فوطن المسلم عقيدته، والبلاد الإسلامية كلها وطن المسلم، ويجب الدفاع عنها.
جهاد المنصور وابنه يحيى دفاع عن العقيدة والمذهب أكثر منه تفهمًا للوطن. كما يؤكد أن المناطق الشافعية قاتلت هي الأخرى ضد الأتراك بغض النظر عن المذهب، وخطابات الإمام المنصور ويحيى تؤكد ما ذهب إليه الدكتور؛ فشروط الإمامة تدلل أنها صفة دينية، وأن المهمة الأساس حماية المذهب، والقبائل الموالية أنصار المذهب والإمامة، كما يؤكد الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في مذكراته بأنهم أنصار، وكتأكيد على البعد الديني، وإن كان العرف لديه هو الأقوى.
ينتقد الدكتور أبو بكر السقاف في كتابة فكرة حجب الماضي عن الحاضر؛ فالماضي هو الزاد الكافي لدخول العصر، ويعتبر ذلك جهلًا مركبًا لا يعرف الماضي ولا الحاضر.
ويؤكد الدكتور أن قبول يحيى بلقب ملك كان تحت تأثير محمد راغب، وأن القبول موجه للخارج ليس إلا. ويشير الدكتور إلى عجز الإمامة عن خلق التجانس بالمذهب، حيث صنعت التنافر والعداء بين أبناء البلد الواحد. بل عجزت – والكلام لي – عن بناء دولة بشروط بناء الدولة في القرن العشرين؛ فكانت المتوكلية اليمنية مجرد سلطة هشة ومفككة؛ وهو ما سهل إسقاطها.
يؤكد الدكتور أن الإمامة لم تكن تمتلك مقومات كيان قطري متماسك كحد أدنى؛ فالإمامة كانت مشروعًا مستحيلًا. ومن يقرأ حالة الشمال و"الألوية" القائمة حينها يدرك صحة رأي الدكتور بأن الشمال لم يشهد قيام دولة بأي معنى؛ فسلطة يحيى لم تكن تستطيع الوصول إلى حجة أثناء حكم ابنه أحمد، أو تعز بعد الاستيلاء عليها من قبل أحمد. وبعد 48 كانت إب بيد الحسن، وكانت صنعاء بيد العباس، وكانت مقاطعات لا رابطة بينها، وأدبيات الأحرار، و"صوت اليمن" كثيرًا ما أشارا إلى هذا الواقع. وإذا كان الواقع المتوكلي لا يقر بوجود دولة، كما هو الحال في الدولة القطرية التي عرفتها المنطقة العربية بعد رحيل الأتراك، فمن العبث الحديث عن دولة عميقة. إن العميق في المتوكلية هو التفكك والشتات، والكيانات القبلية، والجهوية؛ النفي الحقيقي للدولة بحدودها الدنيا. فالدولة العميقة -كمصطلح حديث- يعني الدولة المتجذرة، أو دولة داخل الدولة؛ كتوصيف لأجهزة حكم غير منتخبة تتحكم بمصير الدولة كالجيش، والمؤسسات البيروقراطية المدنية، أو الأمنية، أو الأحزاب الحاكمة.
كما ينتقد فكرة حجب الماضي عن الحاضر؛ فالماضي هو الزاد الكافي لدخول العصر، ويعتبر ذلك جهلًا مركبًا لا يعرف الماضي ولا الحاضر.
يوجه السقاف نقدًا مرًا لزيد الوزير في كتابه "محاولة لفهم القضية اليمنية"؛ لربطه إخفاق الإمام يحيى بمجرد الانحراف عن المذهب الزيدي. ويرى أن فكرة الانحراف دعوى كل فكر ديني سلفيًا كان أو زيديًا أو جعفريًّا، ويقرأه في فكر الخميني وقطب وزيد الوزير. ويخاطب زيدًا: "كيف لحاكم لا يعرف فكرة الوطن والمواطنة أن يوحد المواطنين إلا باسم المذهب. فالرعايا إما ينتمون إلى فرق إسلامية، أو ذميون كما كانت حال اليهود"، منتقدًا "حروب التوحيد"، ويعتبرها فشلًا في تبني مفهوم الوطن الذي لا يقوم على المذهب الديني؛ فهي- كما يرى السقاف- من عوائق بلورة الوجدان الوطني والقومي إلا في مجتمع علماني يفصل الدين عن الدولة، ويحترم الدين باعتباره شأنًا شخصيًا، ويدافع عن حرية الضمير التي يضمنها الدستور والقانون.
وينتقد نهج التوازن بين القبائل الشمالية وتسليطها على أبناء الشعب، وخلق الفتن بين القبائل والمشايخ؛ ليكون حكمًا لا حاكمًا. ويعتبر استناد الحكم إلى القبيلة نقيض الدولة المركزية في جميع أشكالها، ويتنافى ومفهوم المواطنة ومبدأ الحرية والحقوق الديمقراطية للمواطن.
يدلل بحركة الجيش في الـ26 من سبتمبر، ودور مصر كأقوى شاهد على الوجود الواقعي للأمة العربية، وعلى إرادتها في التحرر والوحدة، ويعتبر سبتمبر حدثًا عربيًا، ويقرأ تفاعل مصر واليمن منذ قرون، فالثورة مشروطة بصيرورة الوحدة العربية. (ص32 بتصرف)
ويرد الدكتور على محمد حافظ إسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات"- القاهرة، 1987 ركزًا على انتقاد فكرة القومية المصرية المستقلة عن الأقطار العربية. والفكرة توسع انتشارها بعد هزيمة 67، وتبناها أدباء ومثقفون وأكاديميون كتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، وآخرون. (القارئ)
ينتقد موقف الزبيري الجانح للقبيلة، والمعارض للنجدة القومية المصرية، كما ينتقد موقف القوى الثالثة، مشيدًا بالدور المصري للزعيم جمال عبد الناصر، خصوصًا بعد "مؤتمر باندنج"، وموقف عبد الناصر المعادي للرجعية والاستعمار، وتبني دعوة القومية العربية.
يقرأ البيان الأول للثورة، وتأثير الأهداف الستة المصرية عليها، منتقدًا إلغاء التنوع، والتشابه حد التماثل. وينتقد الدكتور أسلوب المخابرات المصرية، والتعويل على القوة، وإبراز دور المشايخ، وتوزيع المال والسلاح عليهم؛ لـ"حماية" الجمهورية. ويعرج على دعوة الأحرار باعتبار الشعب مصدر السلطات، واعتبار دعوة الحرية والدستور من أكثر الجوانب عصرية في فكرهم، ويعتبر الجمهورية ثورة لإدخالها الرأسمالية في اليمن الشمالي؛ باعتبار الثورة تغييرًا في علاقات المِلْكية.
يقرأ التداخل بين التجار والإقطاع أو بالأحرى عدم القطيعة معهم، ويتناول جوانب الإرادوية في رؤية الفرد هاليدي في كتابه "الجزيرة العربية بدون سلاطين". كما ينتقد موقف اليسار العربي المراهن على ثورية البرجوازية الصغيرة، وقدرتها على قيادة التحول الاشتراكي. ويرى، وهو على حق، أن مهام الثورة العربية الكبرى لا يمكن أن تقوم بها البرجوازية الصغيرة ولا الوسيطة؛ فثورات الأولى مصابة بالنكسات، وتسلمها للوسيطة الطفيلية في مصر وسوريا والجزائر. ويرى أن أهداف الثورة الكبرى تتناقض مع مصالح البرجوازية الصغيرة والوسيطة.
إن ما يصدق على الأقطار العربية ذات الحظ النسبي من التطور الحديث يصدق على أقلها حظًا منه، ولا نرى لليمن- كل اليمن- دورًا ولا مكانًا إلا داخل هذه الصعود التاريخي، فهو وحده الرد التاريخي على الانهيار الذي تسجننا فيه الإمبريالية الصهيونية منذ يونيو 1967.