تشهد مدينة تعز (وسط اليمن) ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار العقارات السكنية، لا سيما عقب حركة النزوح إلى المدينة من مناطق القتال، أو من المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، خوفاً من المضايقات والانتهاكات. وإلى ذلك، أدى تهاوي سعر الريال اليمني مقابل الدولار الأمريكي إلى زيادة أسعار العقارات وإيجاراتها في المدينة الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، حيث وصل سعر الدولار إلى 750 ريالاً.
وفقاً لتقرير أصدره مركز الإعلام الاقتصادي (منظمة غير حكومية) مطلع العام 2019، فإن أسعار العقارات وشراء الأراضي ارتفعت بنسبة100% ، في حين زادت الإيجارات بنسبة 67% في عموم محافظات الجمهورية اليمنية. وفي مدينة تعز، تضاعفت خلال السنوات الأخيرة أسعار الإيجارات السكنية والعقارات بما نسبته 50%، حسب التقرير ذاته.
القرى هي البديل
محمد دحان (٣٧ سنة) يقول لـ"خيوط": "سافرت مع أسرتي إلى القرية في (شرعب السلام) التي تبعد عن مدينة تعز حوالي ٣٠ كم، في بداية الحرب، وعندما أردنا الرجوع، لم نجد سكناً كون البيت الذي كنت أسكنه دُمِّر كلياً". ويستطرد قائلاً: "استمر بحثي عن سكن سنةً كاملة، كانت الشقق صغيرة مقابل أسعار مرتفعة، ما اضطرني إلى إبقاء أسرتي في القرية وأنا هنا للعمل".
لم يكن دحان الوحيد ممن تركوا عائلاتهم في القرى بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات وغلاء المعيشة، فكثير من العائلات اضطرت إلى ترك بيوتها المستأجرة في المدينة والعودة إلى قراها. أيمن عبدلله اضطر إلى ترك منزله والعودة بأسرته إلى قريته في "الحجرية" جنوب محافظة تعز. يقول أيمن لـ"خيوط": "كان إيجار شقتي المكونة من ثلاث غرف ومطبخ وحمامين، 25 ألف ريال قبل سنوات، لكنه حالياً أصبح 60 ألفاً، ودخلي لا يسمح بدفع مبلغ كهذا". ويضيف: "بحثت كثيراً عن سكن بسعر أقل، ولكنني لم أجد إلا شققاً شعبية مهترئة لا تصلح للسكن الآدمي، مما اضطرني إلى العودة بأسرتي إلى قريتي".
الارتفاع الملحوظ في إيجارات الشقق السكنية ليس مقتصراً على مدينة تعز فقط، فكثير من المدن اليمنية يشكو ساكنوها من نفس المشكلة، ولكن الأمر يختلف في مدينة تعز -التي يقطنها حوالي ٤ مليون نسمة- لأسباب عدة أبرزها تدهور سعر الريال اليمني.
السكن على حساب الغذاء
كثير من الأسر عزفت عن شراء احتياجات البيت الأساسية من الغذاء والأثاث لأجل توفير إيجار السكن الذي تعيش فيه.
تقول أم عبد الرحمن لـ"خيوط": "نحن نستغني عن أشياء أساسية كثيرة في سبيل دفع إيجار الشقة التي أسكنها مع أطفالي". وتضيف: "الشقة مكونة من ثلاث غرف صغيرة ومطبخ وحمام، ولكن مالك العمارة يرفع الإيجار بين الحين والآخر. سكنتها في البداية مقابل 20 ألف ريال، الآن أصبحت بـ45 ألف ريال؛ مبلغ كبير مقارنة بصعوبة الوضع الذي نعيشه، ولولا وجود المنظمات الإغاثية التي تساعدنا قليلاً في توفير المواد الغذائية ما كنت أستطيع الاستمرار في الشقة".
بدائل مؤقتة
ذوو الدخل المحدود والفئات الفقيرة في المدينة وجدوا أنفسهم غير قادرين على دفع إيجارات الشقق السكنية المرتفعة، فأوجدوا حلولاً بديلة أكثر صعوبة، وهي العيش في دكاكين (غرفة واحدة مستطيلة في آخرها حمام فقط).
سعيد ناجي الشرعبي أحد نازحي مدينة الحديدة (غربي اليمن) قال لـ"خيوط": "عندما لم أجد مكاناً للسكن أنا وأسرتي سكنت في دكان مساحته ١٠ أمتار مربعة بما فيها حمام صغير". ويضيف: "نحن أسرة مكونة من سبعة أشخاص نسكن في غرفة واحدة"، لافتاً إلى أن إيجار الدكان 20 ألف ريال، بينما هو عامل في بيع السمك، وما يجنيه لا يكفي لاستئجار مكان أوسع.
80% من العقارات السكنية في تعز شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في إيجاراتها تفاوت بين (5000 إلى 15000) ريال، بداية العام 2020
ارتفاع الدولار هو السبب
80% من العقارات السكنية في مدينة تعز شهدت ارتفاعاً ملحوظاً تفاوت بين (5000 إلى 15000) ريال، بداية العام 2020. وعزا كثير من ملاك المنازل ذلك إلى ارتفاع سعر الدولار وتدهور الريال اليمني الذي يفقد قيمته يوماً بعد آخر.
أحمد مهيوب مالك عقار سكني في شارع التحرير الأسفل، قال لـ"خيوط" إن سبب ارتفاع إيجار الشقق السكنية هو ارتفاع سعر الدولار أمام الريال اليمني، الذي وصلت قيمته إلى 750 ريالاً خلال السنوات الأخيرة، بعد أن كان لا يتجاوز 220 ريالاً للدولار الواحد في العام 2015.
وأشار مهيوب إلى أن "كل شيء ارتفع سعره، من أصغر شيء إلى أكبر شيء، حتى وصل سعر حبة البيض إلى 70 ريالاً"، بينما هو لا يملك مصدر دخل آخر سوى المنزل الذي يعيش على إيجاراته.
زيادة الطلب وقلة العرض
الصحفي الاقتصادي وفيق صالح قال لـ"خيوط" إن أزمة العقارات السكنية في مدينة تعز ترجع لقلة العرض مقابل زيادة في الطلب، خصوصاً عقب عودة المغتربين اليمنيين من السعودية -ويمثل سكان تعز نسبة كبيرة منهم- الذين عادوا على خلفية مضاعفة رسوم الإقامة للوافدين، وسَعوَدة الكثير من المهن، وفرض رسوم إضافية على العمال الأجانب، ما جعل كثيراً من المغتربين اليمنيين يحولون أموالهم إلى اليمن لشراء أراضٍ وعقارات سكنية.
وأضاف صالح أن الاستثمار في مجال العقارات لا يزال ضعيفاً، بسبب عدم وجود مخططات في المدينة التي تعتبر من أكثر المدن عشوائية في البناء، لافتاً إلى أن الحكومة اليمنية لم يكن لديها يوماً مباني سكنية للإيجار. "جميع العقارات السكنية ملك خاص، لذا لا تستطيع السلطة المحلية بتعز فرض عقوبات على المالكين أو إجبارهم على خفض الأسعار"، أضاف صالح، مشيراً إلى أن هذه مشكلة تؤرق النازحين إلى المدينة بسبب الحرب وانتهاكات السلطات الراهنة، أو الباحثين عن فرص عمل ومعيشة جيدة لأسرهم الوافدة من القرى.
لعب اقتصاد الحرب دوراً مهماً في انتعاش اقتصاد الأراضي والعقارات، إذ يعتبر ذلك الوسيلة المثلى لغسيل الأموال الناتجة عن مكاسب الحرب من قبل كبار اللاعبين والمتحكمين في نفقاتها
التقرير الصادر عن "مركز الإعلام الاقتصادي"، أفاد بأن نحو 2 مليار دولار (قرابة 3 تريليون ريال يمني) هو مقدار حجم تداول القطاع العقاري في اليمن خلال السنوات الأربع الأولى من الحرب، واصفاً الرقم بـ"الكبير جداً" "مقارنة بحجم النشاط الاقتصادي الهش في اليمن".
وأرجع التقرير أسباب ارتفاع أسعار الأراضي وإيجارات العقارات في اليمن، إلى أن "اقتصاد الحرب لعب دوراً مهماً في انتعاش اقتصاد الأراضي والعقارات، إذ يعتبر ذلك الوسيلة المثلى لغسيل الأموال الناتجة عن مكاسب الحرب من قبل كبار اللاعبين والمتحكمين في نفقاتها". واستنتج التقرير أنه "قد تم تحويل جزء من تلك الأموال إلى شراء العقارات خارج اليمن، إلا أن نسبة كبيرة ظلت في الداخل، لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، وكذلك في المحافظات التي تشهد استقراراً نسبياً كمأرب وحضرموت".
ولم تكن محافظة تعز مختلفة عن غيرها من المحافظات اليمنية، فقد تجاوزت الزيادة في أسعار الأراضي نسبة 200% في محافظة حضرموت (جنوب شرق اليمن) ومأرب (شرق)، وارتفع سعر المتر الواحد في بعض أحياء مدينة المكلا من 550 ريال سعودي إلى 1750 ريال سعودي، وهي أسعار أغلى من لندن ونيويورك، وفقاً للتقرير.
أزمة النازحين
أحمد القاضي أحد النازحين من محافظة الحديدة قال إنه مكث في فندق مدة شهرين للبحث عن منزل يستأجره لسكن عائلته. ويوضح القاضي في حديثه لـ"خيوط"، أنه عانى كثيراً من تعامل "الدلالين) (التسمية الشعبية لسمسار العقارات في اليمن)، وأنه عندما كان السمسار يتصل به لمعاينة شقة فارغة، يتوجب عليه أن يدفع له مبلغاً مقابل بحثه وبدل مواصلاته. عليه أن يدفع هذا المبلغ للسمسار سواء استأجر الشقة أم لم يستأجرها، وفي حال كانت مناسبة للمستأجر، فإن مالك العقار يطلب دفع إيجار خمسة إلى ستة أشهر، بينما يطلب السمسار عمولته إيجار شهر كامل.
واستطرد القاضي: "نحن النازحون نجد صعوبة بالغة جداً في إيجاد سكن، هاربون من الموت إلى الموت، لا ملجأ منه في أي مكان. أسكن حالياً في شقة مكونة من غرفتين بـ40 ألف ريال، ما تزال قابلة للزيادة بين الحين والآخر".
هكذا تتفاقم أزمة العقارات والشقق السكنية في تعز وفي غيرها من محافظات الجمهورية، في ظل غياب قانون ينظم العلاقة بين المؤجّر والمستأجر، وفي ظل انقطاع المرتبات، ولا يبدو أن انفراجة قريبة تلوح في الأفق، في وضع الحرب القائم.