تبتسم الطفلة آيات (اسم مستعار) ذات التسعة أعوام بطريقة جامدة، كما أنها لا تحرك شفتيها بأي ردّ عند سؤالها عن رأيها في خطبتها التي تمت في شهر رمضان المنصرم. آيات نازحة مع أسرتها في ضواحي مدينة عتق بمحافظة شبوة (شرق اليمن)، وقد تمت خطبتها لرجل راشد يكبرها بعقود. هي لا تعرف معنى السؤال عن الخطوبة ولا معنى الزواج الذي ينتظرها؛ فقط، عيناها تجولان يميناً ويساراً، هروبا أو خجلاً من سائلة غريبة، وخوفاً من رد فعل غير متوقع من أمها.
الأم بدورها تتهرب من الحديث عن تزويج طفلتها. ولأنها أمّية وضحية لثقافة مجتمع ذكوري متسلط، فهي ربما لم تدرك خطورة الحياة التي ستبدؤها طفلتها في القريب العاجل. هذه الطفلة الضحية، لا تعلم بأنها ضحية، ولا تجد معنى لاهتمام الآخرين بخطوبتها، كما أن كبار أقاربها يتملصون من الحديث عن قصتها، باعتبار خطبتها أمراً طبيعياً، وشأناً خاصاً بأسرتها (حسب العادات والتقاليد). وإلى ذلك، لا توجد جهة محلية، حكومية أو غير حكومية، يمكن أن تتبنى قضية الطفلة آيات وغيرها من القاصرات ضحايا الزواج المبكر في اليمن.
آيات ليست الوحيدة، وبالطبع، لن تكون الأخيرة، من مثيلاتها ضحايا الزواج المبكر. فالظاهرة منتشرة في جميع مناطق اليمن، مع بعض التفاوت بين منطقة وأخرى، إلا أن غياب القانون وضعف دور الجهات الحكومية المختصة، عامل مشترك لأغلب ضحايا هذه الظاهرة.
لا توجد إحصائيات واضحة أو حتى تقريبية لضحايا ظاهرة الزواج المبكر ومدى انتشارها حالياً مع الوضع الراهن للبلاد، لكن إحصائية قديمة للأمم المتحدة استندت إليها منظمة هيومن رايتس ووتش، تفيد بأن 52% من الفتيات يتزوجن دون سن الثامنة عشرة في اليمن، أي قبل تجاوزهن السن القانونية لسن الطفولة. وفي نفس البيانات بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن 14% من الفتيات اليمنيات المتزوجات تم تزويجهن قبل سن الخامسة عشرة، وهي مؤشرات عالية الخطورة تنتج عنها مشاكل صحية واجتماعية لا يقف تأثيرها على الفتيات الضحايا، بل تتجاوزهن إلى أطفالهن الذين يأتون إلى الحياة من أمهات غير مستعدات نفسياً وجسدياً وتعليمياً، لتربيتهم.
توسعت رقعة المشكلة خلال سنوات الحرب الدائرة منذ ست سنوات، على إثر تزايد حركة النزوح الداخلي من مناطق القتال، والأزمة الإنسانية المصاحبة للحرب
وعلى الرغم من المطالبات المتكررة من قبل منظمات حقوقية محلية ونشطاء مدنيين منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، بوضع قانون يحدّ من انتشار زواج القاصرات في اليمن، وتحديد سنّ الزواح بـ18 سنة، إلا أن المشكلة لم تنتهِ على الإطلاق. وعلى العكس من ذلك، توسعت رقعتها خلال سنوات الحرب الدائرة منذ ست سنوات، على إثر تزايد حركة النزوح الداخلي من مناطق القتال، والأزمة الإنسانية المصاحبة للحرب. وإذا كانت الظاهرة/ المشكلة ليست جديدة على اليمن، فإن الجديد فيها هو مسألة الوعي المتأخر بخطورتها، والعمل الخجول للحد منها ومحاربتها. وحسب دراسات اجتماعية، هناك خيط صلة واضح بين المستوى الاقتصادي والتعليمي للأسرة، وبين الزواج المبكر، خاصة زواج الإناث.
فقر العائلة وعدم قدرتها على تحمل مسؤولية ونفقات بناتها الصغيرات، هي مبررات شائعة للمتورطين في هذه الجرائم بحق الطفولة. وهي مبررات تضع هؤلاء أمام مسؤولية أخرى عن إنجاب أطفال يتم التخلص منهم لاحقاً بطرق كهذه، حيث تتحول الفتاة إلى أداة لتحسين الظروف المعيشية للعائلة، ويصبح التكسّب من وراء مهور الفتيات أقرب إلى الاتّجار بالبشر منه إلى طقوس وعادات الزواج.
خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، دفع تدخل منظمات حقوقية محلية ودولية بقضية زواج القاصرات في اليمن إلى حيز قضايا الرأي العام، ووصل الأمر إلى البرلمان اليمني، الذي فشل في وضع حدّ للظاهرة، نتيجة معارضة برلمانيين متشددين دينياً، اعتبروا تقنين سن الزواج أمراً يتعارض مع الدين الإسلامي.
ويحدد القانون رقم 20 لسنة 1992، في اليمن، بشأن الأحوال الشخصية، سن الزواج، للذكر والأنثى، بـ15 سنة.
أما الذين يبررون تزويج الصغيرات بالخوف عليهن من الضياع في ظل الفقر المدقع الذي تعاني منه كثير من الأسر، فيدخل في نطاق التهرب من المسؤولية القانونية والأخلاقية للأسرة. إذ أن هذه الخطوة اللامسؤولة تدفع أسرة الفتاة لوأدها وهي على قيد الحياة؛ ويتمثل ذلك بحرمانها من التعلم واللعب وخوض طفولة ومراهقة طبيعية خالية من المسؤولية، وهو حرمان إذا لم يتسبب بموتها، فهو يحملها ما لا يطيقه جسدها الصغير ونفسيتها الغضة التي لا تزال في مرحلة البناء.
أوجه للمخاطر
يشكل زواج القاصرات خطراً كبيراً على حياتهن من جوانب عدة، لعل تجربة الحمل المبكر والأمومة والتداعيات الصحية المقلقة التي يتسبب بها زواج القاصر، هي الأشد ضرراً عليها. وتشير تقارير صحية ذات علاقة بالظاهرة، إلى أن خطر وفاة الأم القاصر أو مولودها، يزداد إذا كانت الأم دون سن الثامنة عشرة، ناهيك عن الآثار النفسية التي تلحق بالزوجة القاصر، والحرمان من جو العائلة والطفولة واللعب، وتحمل عبء تأسيس عائلة جديدة، وأعباء التربية، ومخاطر التعرض للعنف الجسدي والجنسي من قبل الزوج.
ويعد زواج القاصرات في اليمن ثقافة مجتمعية يحاجج مناصروها بزواج النبي محمد (ص) من عائشة وهي في سن التاسعة، على الرغم من أن هناك روايات عن البخاري، أن النبي تزوجها وهي بنت ست سنين، وأُدخلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً، حسب نص الحديث. ولم تعد هذه الثقافة محصورة في الأرياف، بل امتد الأمر إلى سكان المدن، حيث يفترض أن تكون هذه العادة المجتمعية منقرضة بما أن معظم سكان المدن من المتعلمين.
ناصر لشدف، ضابط إدارة الحالة السابق لدى منظمة اليونيسف في محافظة شبوة، قال لـ"خيوط"، إن الجهل بخطورة تزويج القاصرات يعتبر من الأسباب الأولية لهذه المشكلة، إضافة إلى الفقر والحاجة، بالتوازي مع انتشار التسلط والعنف، سواء من رب الأسرة أو من قبل الزوج وأسرته. واعتبر لشدف هذه الممارسات عاملاً مضاعفاً لآثار المشكلة، وأورد مثلاً قال إنه تعامل معه أواخر العام 2018، حيث وقعت طفلة ضحية لزواج كهذا، وهي في عمر الثانية عشرة، وأسرتها نازحة في مديرية بيحان. وفي تفاصيل القصة، أن والد الطفلة كان عليه ديون لأخيه مما دفعه لتزويج صغيرته، مقابل الأموال التي يدين بها له، فعقد عمّها زواجها نيابة عن والدها المغترب، وكان العريس ولد العم القاصر أيضاً، الذي لم يتجاوز عمره العاشرة. ورغم محاولة أهالي المنطقة التدخل بتسديد ديون والد الطفلة، إلا أن العم أصر على ذلك الزواج، وحين علم بأن هناك منظمات سوف تتدخل، فرّ بالطفلة إلى محافظة الحديدة، ولم يُعرف عنها شيء منذ ذلك الحين.
زواج القاصرات في اليمن ثقافة مجتمعية ثابتة، لكن هناك محافظات معينة تنتشر فيها الظاهرة بكثرة
عادات اجتماعية وحرب
توسعت ظاهرة الزواج المبكر مع استمرار الحرب، وظروف النزوح والفقر. محافظة مأرب والمحافظات المجاورة لها استقبلت عشرات الآلاف من النازحين، وبسبب الظروف الصعبة للنزوح اتسعت ظاهرة تزويج النازحين لفتياتهم القاصرات دون رقيب.
تقول أمة الله الحمادي الناشطة المجتمعية في مأرب، إن زواج القاصرات في اليمن ثقافة مجتمعية ثابتة، لكن هناك محافظات معينة تنتشر فيها الظاهرة بكثرة. وبسبب النزوح الذي فرض على عشرات الآلاف في مناطق الحرب، تضاعفت الظاهرة بسبب عادات "مجحفة بحق الطفولة" داخل المجتمعات المضيفة للنازحين. "نرى عادات كثيرة مجحفة بحق الطفولة استعادت بريقها وتفشت مجدداً في أوساط المخيمات، وتعدت ذلك النطاق، كختان الإناث، والزواج بالإكراه، وزواج القاصرات". تضيف أمة الله في حديثها لـ"خيوط".
في هذه الظروف يعد زواج القاصرات أمراً عادياً بالنسبة لكثير من الأسر؛ فحين تصل الأسرة النازحة، تزوج البنت بشكل يعتبرونه طبيعياً للغاية. هي من وجهة نظرهم يجب أن تتزوج قبل سن الخامسة عشرة، وبعضهن تجري مراسم خطوبتها في سن الثانية عشرة حسب تقاليدهم. وحسب الناشطة الحمادي، فإن رد الآباء عند سؤالهم عن سبب تزويج بناتهم القاصرات، غالباً ما يتلخص في: "ابن بلادي أحرجني فزوجته".
كما ترى أن نزوح الأسر إلى هذه المجتمعات المضيفة، فتح شهية المجتمعات المستقبلة للزواج من القاصرات اللواتي ينتمين للأسر النازحة. فالرغبة في الزواج من بكر صغيرة والمهر الضئيل، من أقوى الأسباب التي تدفع الشباب للزواج من النازحات القُصّر. وهناك أيضاً الذكور الذين يعملون جنوداً في مأرب، قدموا إليها بدون عوائلهم. هؤلاء ضاعفوا أعداد القاصرات اللواتي تم الزواج بهن، وترى الحمادي أنه لا يمكن القول إن الجهل وحده هو الدافع الرئيسي لهذه الظاهرة، رغم أن هناك ثقافة مترسخة منذ عقود ولا توجد جهة حاولت بشكل جاد استهداف هذا الجهل.
في ظل الحروب يصبح الحديث عن القانون من الترف الفائض عن الحاجة في نظر البعض، لكن الحرب لها قوانينها الخاصة والقسرية على الدوام، خاصة إذا ترافقت مع غياب السلطات وتنصلها عن مسؤولياتها أمام المجتمع، كما يجري في اليمن، وهذه بيئة مثالية لانتشار كل الظواهر السلبية كزواج القاصرات.