قد تنشب حرب خلال دقائق، لكن تسعة أشهر كاملة لم تكفِ لتشكيل حكومة جديدة نصّ عليها "اتفاق الرياض"، الموقّع من حكومة الرئيس هادي المعترف به دولياً، والمجلس الانتقالي الجنوبي، في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. يبدو أن طبيعة العلاقة القائمة بين الطرفين كفيلة بإفشال أي حكومة قادمة، بغضّ النظر عن رئيسها وأعضائها؛ فالرئيس هادي، الذي أقال حتى الآن رئيسَي وزراء منذ تدخل "التحالف العربي" عسكرياً في اليمن، لا يريد رئيس حكومة قوي. دول التحالف أيضاً، أو بالأحرى السعودية والإمارات، لا ترغب برئيس حكومة يخرج عن طوعها، ويبدو أن "اتفاق الرياض"، بصيغة التقاسم الشبيهة بتلك التي نصّت عليها "المبادرة الخليجية" عام 2011، أضاف عقبات إضافية أمام ظهور حكومة قادرة على تحمل المسؤولية في البلاد، خاصة أن "المبادرة الخليجية"، بتلك الصيغة الغنائمية، مثّلت مقدمة حاسمة للصراع المستمر اليوم في اليمن.
كان خالد بحّاح آخر رئيس حكومة يمنية حصلت على ثقة البرلمان بتركيبته الكاملة في صنعاء، لكن هادي لم يرغب ببقاء رجل تربطه علاقة قوية بالإمارات، ويمكن أن تدفع به إلى واجهة الرئاسة بدلاً عنه. أقال هادي بحاح وكلف أحمد عبيد بن دغر رئيساً للحكومة، لكن مواقف بن دغر من الإمارات، ونشاطه الحزبي في حزب المؤتمر الشعبي العام، أخاف هادي، كما يبدو، من تحول الرجل إلى شخصية تلملم شتات المؤتمر بعيداً عنه، فأقاله وأحاله للتحقيق، وعندما كلف معين عبدالملك برئاسة حكومة لم يتدخل بتسمية أعضائها، أعلن الأخير أنه سيركز اهتمامه على الملف الاقتصادي ولن يتدخل في السياسة. ومع هذا فقد تدهور الاقتصاد في عهده أكثر، لكن فشل أو نجاح رئيس الحكومة ليس سبباً لبقائه أو رحيله، وإنما مواقفه وعلاقاته وتحالفاته. ويبدو أن من المواصفات المطلوبة في أي رئيس حكومة، ألا ّيتمتع بحاضنة حزبية أو قبلية أو شعبية، وأن الارتهان لحماية دولة أخرى سيكون مذهباً سياسياً مستمراً في الصراعات اليمنية.
كان اختيار هادي نفسه خلفاً للرئيس السابق علي عبدالله صالح، بناء على مواصفاته الشخصية من الضعف والسلبية، فظن حزب المؤتمر أنه قادر على استغلاله، وفرح حزب الإصلاح بأنه سيمنحه الحماية التي يحتاج إليها مقابل امتيازات خاصة، ورحبت الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية بأن الرجل الضعيف سيكون بحاجة المجتمع الدولي لحمايته ودعمه، حسب الباحثة في الشأن اليمني هيلين لاكنر. ويبدو أن هذه المواصفات هي المطلوبة أيضاً في شخصية رئيس الحكومة المنتظرة، وأن معين عبدالملك سيستمر على الأرجح في قيادة حكومة جديدة لن يكون له دور في اختيار أعضائها، في ظل آلية التقسيم والمحاصصة التي وضعها "اتفاق الرياض"، والتي لا تزال محل خلاف بين طرفي الاتفاق حتى الآن.
البلد يحتاج لرئيس حكومة قوي ونزيه ومؤهل وقادر على العمل باستقلالية دون الخضوع لرغبات القوى المحلية أو إملاءات الدول الأخرى، خاصة أعضاء التحالف العسكري
في الثاني من يوليو/ تموز 2020، غّرد عبدالعزيز جباري، نائب رئيس البرلمان الموالي للرئيس المعترف به هادي، بأن مصلحة اليمن "تقتضي تكليف شخصية وطنية من إقليم حضرموت لتشكيل حكومة جديدة". كانت هذه الآلية في منح مناطق معينة مناصب رفيعة، متبعة من قبل علي عبدالله صالح بعد انفراد حزب المؤتمر بالسلطة منذ 1999، حيث عيّن رؤساء حكومات جنوبيين، باستثناء فترة قصيرة للدكتور عبدالكريم الإرياني، على اعتبار أن رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان من الشمال. وكضرورة للتوازن المناطقي، كان اختيار أسماء جنوبية لرئاسة الحكومة، واستمر الأمر كذلك في عهد هادي مع خالد بحاح وأحمد بن دغر، لتصبح أهم رئاستين من نصيب الجنوب. ثم أصبح معين عبدالملك أول رئيس حكومة من المحافظات الشمالية منذ عقدين، لكن الأمر مختلف اليوم، والبلد يحتاج رئيس حكومة قوي ونزيه ومؤهل وقادر على العمل باستقلالية دون الخضوع لرغبات القوى المحلية أو إملاءات الدول الأخرى، خاصة أعضاء التحالف العسكري، التي باتت تمتلك النفوذ للضغط باتجاه أي اسم تريد، لأنها من يقدم الدعم المادي والعسكري لحكومة تم نزع مخالبها وتجفيف مواردها حتى تكون مضطرة للخضوع لرغبات الممول.
فيما يتعلق باليمن في وضعه الراهن، فإن تعيين رئيس وأعضاء حكومة جديدة، مرتبط بمن لديه القدرة على تمويلها بشكل أساسي، وبمن له قدرة على عرقلة عملها أيضاً، وهذه الأوراق كلها بيد كل من الرياض وأبوظبي. لكن بنود "اتفاق الرياض"، التي فرضت المحاصصة، خلقت عقبات كبرى أمام تشكيل الحكومة وأمام عملها لاحقاً؛ فمع إصرار المجلس الانتقالي على تمثيل الجنوب والحصول على أكبر عدد من الحقائب الحكومية الـ12 المخصصة له، عقدت القوى الحضرمية، كحلف قبائل حضرموت ومؤتمر حضرموت الجامع، لقاء في 11 يوليو/ تموز 2020، وطالبت بمنح المحافظة نصيباً في الحكومة يوازي أهميتها، بما في ذلك إحدى الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء، رئاسة البرلمان)، وما لا يقل عن 40% من المناصب في الهيئات الحكومية. وفي حال موافقة الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة على هذه المطالب، فهذا يعني مغادرة معين عبدالملك الحكومة، أو مغادرة سلطان البركاني للبرلمان، كخيارين ممكنين بأقل التبعات، أو إزاحة هادي من المشهد، أو أن تتحول هذه القوى إلى طرف معرقل لأي تسوية. وهذان الخياران معضلة كبيرة قد تعيد رسم المشهد اليمني برمته، خاصة وقد دعا الانتقالي إلى الاستعداد لبدء تنفيذ "الإدارة الذاتية" في حضرموت، السبت القادم (18 يوليو/ تموز 2020).
شهد اليمن تجارب مماثلة خلال حروبه الداخلية ذات الامتداد الإقليمي كما حدث مع حكومة أحمد النعمان في القاهرة خلال ستينات القرن العشرين الفائت، حيث قال له الرئيس عبدالناصر إنه لن يدعم حكومة تضمّ وزراء من البعثيين، وانتهى الأمر باستقالة النعمان غير المرضي عنه من قبل القاهرة يومها. وكانت القاهرة صبيحة ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، فرضت عبدالرحمن البيضاني على القيادة الجمهورية كنائب لرئيس مجلس القيادة، إضافة إلى وزارة الاقتصاد. ونتيجة عدم استقرار المرحلة، فقد تشكلت عشر حكومات في صنعاء خلال عهد الرئيس عبدالله السلال (سبتمبر/ أيلول 1962 – نوفمبر/ تشرين الثاني 1967).
وعندما وجدت القاهرة أن السلال، الذي تمتع بعلاقة قوية معها، بدأ يسجل مواقف مناهضة لرغبة القاهرة كرفضه اتفاق الخرطوم بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، رفعت عنه حمايتها وأفرجت عن خصومه في سجونها ليعودوا إلى اليمن، وكان الانقلاب عليه أول نشاط لهم.
كما أن المهندس محسن العيني أزيح من رئاسة الحكومة اليمنية (في الشمال) مرتين بضغوط سعودية مباشرة، الأولى في عهد القاضي عبدالرحمن الإرياني، بعد توقيعه أول اتفاقية للوحدة بين الشطرين في أكتوبر/ تشرين الأول 1972، وإن بدا الأمر كاستقالة كما ذكر العيني في كتابه "خمسون عاماً في الرمال المتحركة"، لكن الاستقالة نتجت عن رفض القوى التقليدية للتقارب مع عدن، والضغط على العيني واتهامه بالتخاذل في الحرب مع الجنوب المدعومة سعودياً، وقام حينها القاضي عبدالرحمن الإرياني بتعيين عبدالله الحجري خلفاً للعيني، على إثر رسالة من رئيس المخابرات السعودية حينها، كمال أدهم، في ديسمبر/ كانون الأول 1972، حسب الباحث قادري أحمد حيدر. أما المرة الثانية فكانت في يناير/ كانون الثاني 1975، بداية عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي قام بإقالة محسن العيني برغبة وضغط السعودية والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، على إثر زيارة الأخير للسعودية، وهي الزيارة التي عاد منها ليطالب العيني بالاستقالة مباشرة، أي بنفس طريقة إزاحته في عهد الإرياني، لأن السعودية ضده والمشائخ ضده، وأن الحمدي لم يعد راغباً بالتعاون معه. وعندما رفض محسن العيني الاستقالة، أخرج له الشيخ الأحمر قرار إقالته من الرئيس الحمدي، الذي كان جاهزاً معه كخيار ثانٍ في حال عدم قبوله الاستقالة في يناير/ كانون الثاني 1975. هذه رواية العيني في كتابه المشار إليه، والذي قال فيه إن ذلك حدث معه عندما حاول تهميش دور القوى القبلية في القرار الحكومي، وتطور الأمر بسبب اختلافه مع الرياض بشأن ملف المغتربين اليمنيين، وهو ما بدا كمواجهة غير مقبولة مع الرياض، وعجل بإزاحته.
لا يمكن الحديث عن استقلالية حكومة يتم النقاش بشأن تشكيلها وتوزيع حقائبها في عاصمة دولة أخرى، كما يحدث اليوم في الرياض
أما القاضي الإرياني الذي عين عبدالله الحجري رئيساً للحكومة برسالة من كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية، فلم يستطع بلع تصرف الحجري، الذي ذهب للرياض وناقش مع سلطاتها اتفاقية الحدود، ووافق على اعتبارها حدوداً نهائية بين البلدين، دون تفويض من رئيس الجمهورية. رأى القاضي الإرياني في ذلك تعدياً للحد المقبول من تدخلات الرياض وحلفائها في الشأن اليمني، وأصدر قراراً بإقالة الحجري لاحقاً، وقام بتعيين الدكتور حسن مكي، غير المرضي عنه من القوى التقليدية وداعميها في الرياض، رئيساً للحكومة. غير أن الرياض اعتبرت بدورها أن ذلك تجاوز غير مقبول من الرئيس الإرياني، وتسارعت وتيرة الانقلاب عليه في يونيو/ حزيران 1974، حيث تجاوز التدخل الخارجي في اختيار قيادات الصف الأول في اليمن، منصب رئيس الحكومة، إلى التدخل في اختيار رئيس الجمهورية نفسه أكثر من مرة.
نفس القوى التي انقلبت على القاضي عبدالرحمن الإرياني، كانت دعمت إبراهيم الحمدي كرئيس لشمال اليمن، وخضع الحمدي خلال العام الأول من حكمه لإملاءات هذه القوى والرياض، كما جرى عند إقالته للعيني، لكنه عندما أراد الخروج من دائرة وقيود الرياض والقوى التقليدية الحليفة لها، انتهى الأمر باغتياله كما هو معروف.
لم يحصل علي عبدالله صالح على أصوات أعضاء مجلس الشعب التأسيسي كرئيس لشمال اليمن، إلا بعد زيارة خاطفة قام بها الشيخ عبدالله الأحمر للسعودية، التي أرسلت له طائرة خاصة وحصل منها على الضوء الأخضر لصعود صالح. وقد قال الشيخ الأحمر للشيخ مجاهد أبوشوارب، الذي رفض صعود صالح للرئاسة، إن السعودية معه، فوافق أبوشوارب على مضض، حسب رواية الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته. كما أن صالح اتخذ قرار خوض الحرب على الجنوب عام 1979، في لقاء جمعه بسفير الرياض وملحقها العسكري، حسب رواية الشيخ سنان أبولحوم في مذكراته، وهو ما يعني أن أي دعم خارجي، له استحقاقات من العيار الثقيل المخلّ بالسيادة والمصالح الوطنية.
منطقياً، لا يمكن الحديث عن استقلالية حكومة يتم النقاش بشأن تشكيلها وتوزيع حقائبها في عاصمة دولة أخرى، كما يحدث اليوم في الرياض بشأن تشكيل حكومة جديدة مناصفة بين الشمال والجنوب. وبشكل عام، فعندما تخضع التشكيلة الحكومية للمساومة، تتحول إلى صفقات ترضية ولا تعتمد الكفاءة، وكل طرف يحمل قائمة أسماء ومطالب يريد فرضها على الآخر دون إطار مرجعي وطني. ولو خرجت مشاورات الرياض المستمرة منذ أسبوعين، بمعادلة مقبولة حالياً من حيث حصص الحقائب الوزارية والأسماء، فإن العمل على الأرض مسألة بالغة التعقيد، خاصة وأنه لم يتم حل الملف الأمني والعسكري بين المجلس الانتقالي والحكومة المعترف بها دولياً حتى الآن.