في خضم أزمة تفشي فيروس كورونا، تفاجأ اليمنيون، في صنعاء والمناطق الواقعة تحت سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، بتناثر أزمات أخرى. صحيح أنهم اعتادوا عليها لكنها كانت خافتة، إلى حدٍ ما، منذ بداية العام الجاري 2020. غير أن السيارات والمركبات عادت للاصطفاف في طوابير طويلة أمام محطات تعبئة البترول والديزل، بالتزامن مع ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في عدن ومناطق الحكومة المعترف بها دولياً، حيث ارتفع سعر الجالون 20 لتراً إلى 3500 ريال بعد أن كان بـ3 آلاف ريال.
وتقف السلطات التي تتقاسم حكم اليمن، عاجزة في مواجهة انتشار فيروس كورونا وتبعاته الباهظة على كافة المستويات الاقتصادية والصحية، مع استمرار الحرب التي دخلت عامها السادس، وتوسُّع دائرة الصراع بعد إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في 18 أبريل/نيسان 2020، “الإدارة الذاتية” على عدن “العاصمة المؤقتة” للحكومة المعترف بها دولياً، وعلى محافظات جنوبية أخرى، بما فيها سقطرى.
تسببت هذه التجاذبات والصراعات في اضطراب الحركة التجارية وانخفاض المعروض من السلع الغذائية والاستهلاكية، وارتفاع في أسعارها، وبالتالي مضاعفة الأعباء الملقاة على عاتق المواطنين، إضافة إلى الأزمة الخانقة التي تظهر بين فترة وأخر في المشتقات النفطية، والتي تدخل أسبوعها الثاني.
ومع تجدد أزمة الوقود ونفاده من كثير من محطات التعبئة في صنعاء، وتوفّره بكميات محددة ومؤقتة في بعض المحطات، عادت السوق السوداء لتنشط من جديد، مع وصول سعر صفيحة البنزين (20 لتراً) إلى ما يقارب 12 ألف ريال (قرابة 20 دولار).
استهداف لقمة العيش
في جولة ميدانية لـ”خيوط” في العاصمة صنعاء، لوحظ تراجع ملحوظ للحركة التجارية وعمليات النقل والمواصلات داخل المدينة، حيث تضاعفت أجرة النقل، خصوصاً في سيارات “التاكسي”، كما ارتفعت أسعار كثير من السلع الغذائية والاستهلاكية والمياه، وانخفض المعروض من الخضروات والفواكه، ما ينذر بأزمة غذائية ومعيشية كبيرة إذا ما استمرت الأزمة.
وانعكست أزمة الوقود على خدمة الكهرباء، على الرغم من خصخصتها، حيث أفاد سكان في عدد من أحياء صنعاء، بأن الكهرباء تنطفئ لمدة نصف ساعة إلى ساعة في اليوم، كاحتجاج من قبل ملاك المحطات الخاصة لكي تزودهم شركة النفط بمادة الديزل.
وتصطف العشرات من السيارات وباصات النقل الصغيرة والمتوسطة، في طوابير طويلة بغية الوصول إلى محطات تعبئة الوقود، حيث يتوفر بكميات ضئيلة كل خمسة أيام، أو في السوق السوداء بأسعار مضاعفة.
واعتبر مواطنون ومزارعون وتجار ما يجري “استهدافاً متكرراً للمواطن اليمني”، ومحاربته في لقمة عيشه، من قبل جميع أطراف النزاع، التي حمّلوها مسؤولية هذه الأزمات، واستنزافها المتواصل للناس وقدرتهم الشرائية.
فواز سعيد (صاحب باص أجرة)، كان يقف في طابور طويل أمام محطة لتعبئة البترول في شارع الرقاص بصنعاء، ولم يصل دوره بعد منذ أربعة أيام. تحدث فواز لـ”خيوط”، عما وصفها بـ”سياسة خبيثة” في تزويد “بعض المحطات” بكميات محدودة من الوقود تنفد بسرعة، فيضطر الناس للانتظار أياماً حتى تأتي دفعة أخرى.
يبين كشف توزيع سابق لشركة النفط الحكومية الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، عن ضخّ نحو 1.9 مليون لتر على 32 محطة فقط، ومن هنا تأتي الاتهامات الموجهة للشركة في مضاعفة الأزمة والتسبب بالطوابير الطويلة بسبب اقتصار توزيعها على محطات محدودة تتبع تجاراً نافذين
وتستهلك صنعاء في الأيام العادية في حدود 1.7 مليون لتر من البنزين يومياً، ونحو مليون لتر من مادة الديزل، يباع في 100 محطة تعبئة منتشرة في أغلب مناطق وشوارع العاصمة.
لكن هذه النسبة ترتفع في الأزمات، حيث يبين كشف توزيع سابق لشركة النفط الحكومية الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، عن ضخّ نحو 1.9 مليون لتر على 32 محطة فقط، ومن هنا تأتي الاتهامات الموجهة للشركة في مضاعفة الأزمة والتسبب بالطوابير الطويلة بسبب اقتصار توزيعها على محطات محدودة تتبع تجاراً نافذين، بحسب إفادات سكان محليين.
ومن المتوقع في حال استمرار الأزمة، أن تؤدي إلى توقف المصانع والأنشطة التجارية والصناعية، وتراجع إنتاجية الأفران والمخابز بنسبة تزيد على 50%.
ويعتمد غالبية سكان صنعاء على المخابز والأفران في توفير احتياجاتهم من الخبز، نظراً لأزمة أخرى متعلقة بصعوبة الحصول على الغاز المنزلي، حيث أصبح الحصول على الأسطوانة يتطلب المرور عبر عقّال الحارات، ويحتاج إلى نحو 20 يوماً وأكثر من الانتظار.
سجال ضحيته المواطن
مع تفجر أزمة الوقود مجدداً، بادرت شركة النفط اليمنية التابعة لسلطات أنصار الله (الحوثيين) إلى إصدار بيان، كشفت فيه عن قيام التحالف باحتجاز 15 سفينة محملة بالمشتقات النفطية قبالة ميناء جيزان لفترات متفاوتة تصل في أقصاها إلى ما يزيد على 90 يوماً، رغم استكمالها إجراءات آلية التحقق والتفتيش في جيبوتي، وحصولها على التصاريح الأممية لدخول ميناء الحديدة ابتداء من 25 مارس/ أذار وحتى 11 مايو/ أيار 2020، على التوالي.
واعتبرت الشركة ذلك “مؤشراً خطيراً يبين درجة التصعيد الراهن وخطورة التداعيات المُحتملة” في حال استمر احتجاز السفن بهذه الوتيرة. كما اعتبرت ذلك “تعسفاً” له آثار كارثية على المستوى الإنساني خاصة في ظل تفشّي جائحة كورونا، وضرورة تأمين كامل احتياجات القطاعات الخدمية من المشتقات النفطية وعلى رأسها قطاعات الصحة والنظافة والمياه.
ومع تأكيدها أنه على “اتّساع دائرة المعاناة الإنسانية نتيجة استمرار الحصار المفروض على سفن المشتقات النفطية، وصولاً إلى حرمان المواطنين من الاستفادة من الانخفاض العالمي في أسعار النفط”، حملت الشركة دول “التحالف العربي” بقيادة السعودية والإمارات، “مسؤولية التداعيات الناجمة عن الحصار الجائر… وكافة النتائج المُترتبة على سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها (دول التحالف) منذ عدة سنوات في إطار حربها الاقتصادية”. واتهم بيان شركة النفط دول التحالف بـ”محاولة تكوين بؤر وبائية عبر صناعة أزمات تموينية تدفع المواطنين إلى التخلي عن الإجراءات الاحترازية والازدحام الاضطراري أمام المحطات للحصول على احتياجاتهم من المشتقات النفطية”.
وأعلنت الشركة تطبيق نظام الترقيم على تموين السيارات في محطات البنزين، بسبب انخفاض المخزون المتوفر من الوقود، بحيث يكون تعبئة الوقود بحسب أرقام لوحات السيارات.
بحسب هذا النظام، الذي أعلنت الشركة في بيانها المؤرخ بـ9 يونيو/ حزيران 2020، أنها ستطبقه من اليوم التالي، فإن تعبئة السيارة بالوقود سيكون حسب رقم لوحتها، بحيث لا تستطيع الذهاب إلى أي محطة تموين أخرى قبل مرور خمسة أيام. ولم توضح الشركة في بيانها اللاحق في 21 يونيو/حزيران، ما إذا كانت هذه الآلية ناجحة في ترشيد توزيع مخزونها المتوفر من الوقود.
وفي بيانها اللاحق، قالت شركة النفط في صنعاء، إن مخزونها من الوقود “وصل إلى مرحلة حرجة جداً”، وأنه “لا يكفي لتموين القطاعات الحيوية”، كالصحة والكهرباء والمياه وقطاع النظافة، خلال “الأيام القادمة”. وأفاد البيان أن آخر شحنة وقود وصلت ميناء الحديدة، كانت في 23 مايو/ أيار 2020.
وبموجب اتفاق ستوكهولم في شقّه الاقتصادي، تم نقل آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش “يونفم” من جيبوتي إلى ميناء الحديدة، للتفتيش والإشراف على السفن التي تصل الميناء، لكن مصادر ملاحية في ميناء الحديدة أبدت استغرابها من تجميد هذا القرار حتى الآن، رغم مرور ما يقارب سنة ونصف على اتفاق ستوكهولم، واعتبار هذا البند محوراً رئيسياً في الاتفاق.
وعبّر أحد المواطنين كان مصطفاً بسيارته أمام إحدى محطات الوقود في منطقة الحصبة شمال صنعاء، عن غضبه لعودة هذه المعاناة في الحصول على الوقود في ظل انتشار فيروس كورونا وحاجة الناس إلى الحذر والوقاية منه بدلاً من التجمع أمام محطات تعبئة الوقود.
وعن سبب اتجاههم السريع للاصطفاف أمام المحطات، رد عمار النقيب، سائق باص نقل كان ينتظر دوره في طابور أمام محطة تعبئة في شارع الستين شمال غرب صنعاء، أنه مجبر مثل غيره ممن يكسبون عيشهم من العمل بسيارات الأجرة، لأن عملهم اليومي في خطوط السير بشكل متواصل، لا يتيح لهم الاحتفاظ بأي احتياطي من البترول، وفي أفضل الأحوال لا يستمر خزان الوقود معهم أكثر من يومين.
وكانت الحكومة المعترف بها دولياً وصفت، في بيان رسمي عن مجلسها الاقتصادي- اطّلعت عليه “خيوط”، أزمة الوقود وإعاقة السفن بأنها عبارة عن “حملة تضليل” من قبل سلطات أنصار الله (الحوثيين)، حسب تعبير البيان. واتهم المجلس في سلطات صنعاء، بنقض اتفاق صرف رواتب المدنيين، والاستيلاء على المبلغ المخصص لذلك من الحساب الخاص في فرع البنك المركزي في الحديدة، والذي يخضع لرقابة مكتب المبعوث الدولي والمكتب الفني للمجلس الاقتصادي، وهو ما يعد حسب ما ورد في البيان، “خرقاً للاتفاقيات التي تمت مع مكتب المبعوث الأممي حول تحصيل رسوم توريد المشتقات النفطية لصرف رواتب الموظفين المدنيين”.
وذكر بيان المجلس الاقتصادي في الحكومة المعترف بها دولياً، أن الإيرادات المتراكمة في الحساب البنكي بفرع البنك المركزي في الحديدة، بلغت 45 مليار ريال، منوهاً إلى أن الحكومة تنتظر استكمال النقاش للوصول إلى اتفاق حول صرف رواتب المدنيين من ذلك الحساب.
ونفى البيان اتخاذ الحكومة المعترف بها دولياً، إجراءات تعرقل السفن المحملة بشحنات الغذاء التي تخضع بشكل مباشر لإجراءات التفتيش من قبل الأمم المتحدة. وفي حين أفاد بأن شحنات المشتقات النفطية تخضع لما سماه “الفحص المصرفي والفني والقانوني المتفق عليه مع مكتب المبعوث والأمم المتحدة”، اتهم سلطات أنصار الله (الحوثيين) بالتباطؤ في تفريغ الشحنات التي تصل إلى الجزء الذي تسيطر عليه في الميناء، ما يؤدي، حسب البيان، لتراكم سفن الوقود وتجاوز عددها “حدود السلامة… والأمن الملاحي”.
مختصون وتجار وقود يرون ضرورة اتفاق حكومتي صنعاء وعدن على تنفيذ مشترك لبنود استيراد المشتقات النفطية والإيرادات المفروضة عليها
نقاط التفتيش البحرية
في السياق، أفادت مصادر مطّلعة، طلبت عدم الكشف عن هويتها، في أحاديث متفرقة مع “خيوط”، بأنه لم يتم اعتراض أي سفن خاصة بالغذاء في نقاط التفتيش البحرية التي تشرف عليها الأمم المتحدة، بينما تخضع السفن المحملة بالوقود لإجراءات الفحص المصرفي والفني والقانوني المتفق عليه مع الجهات الإشرافية الأممية، بهدف تطبيق الضوابط الدولية للحد من التجارة غير القانونية للنفط في اليمن. وأضافت المصادر ذاتها أن تلك الإجراءات أدت مؤخراً إلى توفر الوقود والغذاء في كافة المناطق، خصوصاً الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، بكميات تتجاوز الاحتياج.
وكانت الحكومة المعترف بها دولياً قررت مطلع العام الجاري 2020، اعتماد آليات جديدة لاستيراد المشتقات النفطية إلى اليمن، وإسناد المهمة الإشرافية على عمليات الاستيراد إلى المجلس الاقتصادي الأعلى بدلاً عن اللجنة الاقتصادية، لضمان ما وصفته بـ”استمرار توفّر الوقود وفقاً للمواصفات والمقاييس المعتمدة عبر تحويلات بنكية ومصرفية، طبقاً لمعايير الامتثال وآليات استمرار تطبيق قراريها: ٧٥ لعام ٢٠١٨ والقرار ٤٩ لعام ٢٠١٩، والترتيب لورشة خاصة بهذا الشأن، بما يساعد على استيعاب الأفكار المناسبة لتطوير آليات العمل”.
في السياق، أكد مختصون وتجار وقود، ضرورة اتفاق “الجهات المعنية” على تنفيذ مشترك لبنود الاتفاقيات المبرمة بينهما بخصوص استيراد المشتقات النفطية والإيرادات المفروضة عليها من جمارك وضرائب، معتبرين أن ما يتم تنفيذه من “إجراءات غير قانونية”، سينعكس سلباً على حركة الاستيراد بسبب فرض المزيد من الرسوم على حركة النقل من قبل الشركات العالمية إلى موانئ الحديدة.
وشددوا على أن أكثر السفن التجارية التي تتعرض للاحتجاز في مياه اليمن الإقليمية بالبحر الأحمر من قبل القوات البحرية التابعة لـ”التحالف العربي”، هي سفن المشتقات النفطية، وأن هذه السفن تتعرض للاحتجاز “ليل نهار على مرأى ومسمع العالم”، ولذلك يتم احتجازها لأسابيع وأشهر، ويمنع دخولها إلى السوق اليمنية، ما يجعل السوق تغرق في الطوابير أمام المحطات شهراً بعد آخر، وأن ذلك يتيح الفرصة لازدهار السوق السوداء بأسعارها التي لا يتوقف ارتفاعها عند حد.
وقدّرت إحصائية غير رسمية، اطّلعت عليها “خيوط”، الخسائر التي تكبدها التجار اليمنيون جراء احتجاز سفن المشتقات النفطية بحوالي 4 مليارات دولار، وهي نفس القيمة التي تم شراء المشتقات بها خلال العام 2018.