يواصل الريال اليمني تراجعه أمام العملات الأجنبية في ظل أزمة خانقة في النقد الأجنبي، مع نفاد الدولار من البنك المركزي في عدن، الخاضع لإدارة الحكومة المعترف بها دولياً. ويتزامن هذا التدهور مع تعرض الموارد الحكومية في عدن ومناطق أخرى في الجنوب، مثل الجمارك والضرائب، للاستيلاء من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي، بما في ذلك ما يزيد على 100 مليار ريال من العملة الورقية، كانت متوجهة من ميناء الحاويات في عدن إلى البنك المركزي.
وانخفضت العملة الوطنية في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، خلال أيام، من 690 ريالاً للدولار الواحد، إلى 750 ريالاً. في حين تحرك سعر الصرف بشكل مفاجئ في مناطق أنصار الله (الحوثيين) بعد فترة شهور من الصمود عند حاجز 599 ريال، متراجعاً إلى 630 ريالاً، قبل أن يرتفع بشكل طفيف اليومين الماضيين إلى 624 ريالاً للدولار الواحد.
وتعاني اليمن صراعاً مالياً محتدماً بين الحكومة المعترف بها دولياً، وبين أنصار الله (الحوثيين) منذ نهاية العام 2019، بعد تنفيذ حكومة صنعاء، التي تعتمد العملة الورقية القديمة في التداول النقدي، قراراً يقضي بمنع تداول العملة الورقية الجديدة ومصادرتها في صنعاء ومناطق سيطرتها، فيما تطغى هذه العملة المطبوعة على عملية التداول في مناطق سيطرة حكومة عدن، الأمر الذي خلق أزمة اقتصادية ومالية طاحنة وانقساماً في العملة الوطنية ومصارفتها.
وأجرى البنك المركزي في عدن آخر عملية مصارفة من الوديعة السعودية لبيع الدولار للتجار المستوردين، قبل حوالي شهرين بنحو 140 مليون دولار، وهو آخر ما تبقى من الوديعة السعودية، وفق مصادر مصرفية رسمية في البنك تحدثت لـ”خيوط”، في ظل رفض السعودية تجديد الوديعة، بمبرر ما تعانيه من آثار اقتصادية نتيجة تفشي فيروس كورونا.
ويعاني البنك المركزي في عدن، حسب هذه المصادر، من عجز كبير في العملة الصعبة- الدولار، الأمر الذي يجعله غير قادر على مواجهة المتطلبات المتعلقة بتوفير العملة الصعبة للتجار من أجل الاستيراد، خصوصاً والأسواق اليمنية تعاني من أزمة سلعية وانخفاض كبير في معروض عدد من السلع الغذائية المدعومة من الوديعة السعودية.
يتوقع أن يؤدي انهيار العملة مؤخراً إلى التضييق أكثر على معيشة اليمنيين مع تفشي فيروس كورونا، نتيجةً احتمالية ارتفاع أسعار السلع وتراجع المخزون الغذائي بسبب أزمة الاستيراد
تبعات مستجدة وسياسات خاطئة
منذ العام 2018، تعتمد الحكومة المعترف بها دولياً على وديعة سعودية في البنك الأهلي السعودي، لتوفير الدولار للتجار بأسعار تفضيلية، وفتح الاعتمادات المستندية لاستيراد السلع والمواد الغذائية والاستهلاكية، وشراء وقود لتشغيل المحطات الكهربائية في عدن والمحافظات الجنوبية من اليمن.
ويرجع المصرفي علي التويتي أسباب تدهور العملة الوطنية إلى ارتفاع الطلب على الدولار مع انخفاض المعروض ونفاد الوديعة، والذي دفع بتجار الوقود والسلع الغذائية والاستهلاكية إلى أسواق الصرافة للبحث عن الدولار. وإلى ذلك، شكّل تراجع تحويلات المغتربين اليمنيين في الخارج، سبباً آخر للأزمة، خاصة في ظل التبعات الاقتصادية لفيروس كورونا، وتأثير الإجراءات المتّبعة في دول الاغتراب على تحويلات المغتربين.
ويصف التويتي سياسة البنك المركزي في عدن بالخاطئة، ويرى أنها “تضرّ كثيراً بالسوق النقدية وبالمواطن اليمني، وذلك نظراً لعدم قيام البنك بالبيع مباشرة للدولار بالسعر الذي يحدده، وإلزام الجميع بهذا السعر أو ترك سوق الصرف”.
وتعتمد اليمن على الاستيراد بشكل رئيسي في تلبية احتياجاتها من السلع الغذائية والاستهلاكية بنسبة تتعدى 80% ،وهي نسبة كبيرة تستدعي خططاً عاجلة لحل ما قد تواجه الأسواق اليمنية من نقص في السلع الاستهلاكية ونفاد المخزون الغذائي، في حال استمر إغلاق المنافذ وتوقف حركة الاستيراد لفترة طويلة.
الخبير المصرفي أحمد السهمي، يرى من جانبه، أن “كل هذه العوامل ستكون آثارها كارثية على العملة اليمنية التي تعاني انخفاضاً متواصلاً منذ بداية الحرب”. إذ قد تشهد، وفق حديثه لـ”خيوط”، تدهوراً كبيراً بالتوازي مع الانكماش الاقتصادي ونفاد الاحتياطي من الدولار والعملات الصعبة، إضافة إلى تبعات الإجراءات المتخذة لمكافحة كورونا، الأمر الذي سيزيد من معاناة اليمنيين، وصعوبة حصولهم على السلع والاحتياجات المعيشية في هذه الظروف الحرجة.
وإضافة إلى انخفاض المخزون السلعي والتمويني نظراً لاعتماد اليمن على الاستيراد بنسبة عالية تصل إلى 80%- 90% لتغطية احتياجاتها الأساسية، فمن المحتمل أن يشهد العام 2020، نقصاً في السلع المستوردة ومعاناة المصنعين من اضطراب حركة التجارة وسلاسل التوريد، وربما يجدون صعوبة في توفير بعض مكونات الإنتاج وقطع الغيار وصعوبة في إيجاد البديل، في حين قد يواجه المورّدون صعوبات في التوريد، مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار السلع.
تحييد الاقتصاد والمؤسسات المالية
يرى خبراء ومراقبون محليون أن على جميع السلطات في اليمن “أن ترتقي إلى مستوى التحديات القائمة، وتحييد الملف الاقتصادي عن الصراع القائم”، والكفّ عن العبث بالمتاح من الموارد المالية، وعلى وجه التحديد موارد النقد الأجنبي المتاحة من صادرات النفط، بالإضافة إلى الدعم المقدم من المجتمع الدولي، وتوحيد الجهود لوضع خطط الوقاية والمكافحة لجائحة كورونا الخطيرة.
وتقتضي الأهمية البالغة الاستئناف الكلي للصادرات النفطية بعد تحييد الملف الاقتصادي والمؤسسات المالية عن الصراع الراهن، لتغطية استيراد المواد الأساسية والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، في ظل استنفاد الوديعة، وكذا تراجع بعض موارد الدخل مثل تحويلات المغتربين، وتسرّب بعض الموارد المالية مثل الضرائب والجمارك وعدم توريدها في القنوات المالية الرسمية.
وتعاني اليمن من اختلالات في المالية العامة نتيجة توقف صادرات النفط والغاز، والعجز في الحصول على العملات الأجنبية، التي كان يتم الحصول عليها من خلال ضخّ العملات الأجنبية إلى السوق من أجل تمويل الموازنة العامة والاتجاه إلى طباعة النقود، مع التركيز على تنويع مصادر الدخل وتوظيف مختلف الموارد العامة بصورة صحيحة في التنمية الاقتصادية لوقف التدهور المتواصل في العملة اليمنية.
بدوره، انتقد الباحث الاقتصادي حسن الفتاحي في حديث لـ”خيوط”، الاعتماد على الوديعة السعودية والمساعدات الخارجية التي يعتبرها “مسكّنات مؤقتة لا ينبغي الاعتماد عليها بشكل كلي في إدارة الملف الاقتصادي والنقدي”. وقال الفتاحي إنه “لا بد من تفعيل مختلف الأوعية الإيرادية والصادرات النفطية وإعادة الدورة النقدية للبنك المركزي، إضافة إلى إدارة الوديعة وغيرها بشكل أفضل”.
وأفاد أنه “لم يطرأ أي تحسن ولا استقرار في سعر الصرف أو في تراجع أسعار السلع والمواد الغذائية التي تدعمها الوديعة”. فيما يتوقع أن يؤدي انتشار فيروس كورونا والإجراءات الوقائية منه، إلى تراجع الإيرادات العامة، الناجم بدوره عن تراجع الضرائب والجمارك نتيجة تراجع الإنتاج وانخفاض حجم التجارة والأعمال. كما يتوقع تزايد النفقات العامة اللازمة لمواجهة انتشار الوباء أو الوقاية منه خلال العام 2020.
وبينما يتركز الصراع أكثر على الملف السياسي والعسكري، يغيب الملف الاقتصادي وتأثير جائحة كورونا عن أي اهتمام في الشأن اليمني. وفي السياق، لا تبدو السلطات الرسمية المنقسمة، مهتمة بمناقشة آثار تفشي فيروس كورونا في اليمن على الجوانب الاقتصادية، مثل الآثار التي ستصيب الموارد العامة والإنفاق العام، وعلى النشاط الاقتصادي الكلي والعملة الوطنية، وبالتالي على دخول المجتمع.