في نهاية العام 2019، انطلق وباء كورونا في مدينةووهان في الصين، وما هي إلا أسابيع حتى كان هذا الوباء يجتاح العالم. كان نصيبالبلدان الأكثر تحضراً وتقدماً وتطوراً النصيب الأوفر، لكن الوباء، وبعد بضعةأشهر، كاد أن يغطي الكرة الأرضية كلها. كان نصيب أوروبا وأمريكا هو الأوفى، وتتصدرالولايات المتحدة الأمريكية قائمة الإصابات والوفيات حتى الآن.
قبل أن تتمكن إدارة ترامب من إيقاف الوباء أو الخلاصمن الإصابات والوفيات، بدأت الاحتجاجات السلمية في غير ولاية أمريكية، على إثر وضعضابط شرطة ركبته على رقبة المواطن الأمريكي الأسود، جوروج فلويد، الذي كان يصيحقائلاً: "لا أستطيع أن أتنفس". تحول فلويد إلى أسطورة عالمية، خصوصاً فيأمريكا وأوروبا، وأصبحت عبارة "لا أستطيع أن أتنفس" الشعار الرئيسللاحتجاجات عالمياً.
ركبة الضابط تحولت إلى رمز مكثف لطبيعة العنصرية فيأوروبا وأمريكا، ورقبة جورج صارت تعبيراً عن حالة المواطن الأسود أو الملون فيأمريكا وأوروبا، والاحتجاجات واعدة بالامتداد إلى مختلف البلدان الموبوءةبالعنصرية.
وباء كورونا كشف الوباء المزمن والأخطر في أمريكاوأوروبا، ومن باب أولى في بلدان ما بعد الثالث، وبالأخص في منطقتنا العربية.معالجة الكورونا ممكن ومقدور عليه، ولكن وباء العنصرية متجذر، ويمتد لمئات السنين،ليس في أمريكا وفي أوروبا فقط، وإنما في العديد من بلدان العالم، وبالأخص فيمنطقتنا العربية.
الدولة الإسرائيلية- صنيعة الطبيعة الاستعماريةالعنصرية البريطانية الأمريكية، وهي آخر دولة استيطانية في العالم- قائمة علىالتمييز والفصل العنصري، والأنظمة العربية القطرية مصابة بداء التمييز ضداً علىمواطنيها بين "السني" و"الشيعي"، وبين الرجل والمرأة، وضدالطفولة، وبين الفئات والشرائح بسبب المعتقد، أو العرق، أو اللون، أو التراتبالاجتماعي.
دهس شاحنة إسرائيلية لعمال فلسطينيين، فجّر الانتفاضةالأولى في فلسطين 1987، ومقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة، فجّر الانتفاضة الثانيةفي 28 ديسمبر 2000، وإحراق محمد البوعزيزي لنفسه احتجاجاً على الامتهان، أشعلالانتفاضة في تونس 2011، وامتدت إلى ميدان التحرير في مصر، ولم يسكت شعار"الشعب يريد إسقاط النظام" إلا بفرار بن علي، وسقوط مبارك. وفي سورياظلت الاحتجاجات مشتعلة لستة أشهر، فتكالب الاستبداد الحاكم بجيشه و"شبّيحته"وأمنه لقمع الانتفاضة، وتحالفت أمريكا وبعض البلدان الأوروبية وتركيا وإسرائيلوالأردن ودول الخليج لتدمير سوريا.
في اليمن سقط النظام، لكن بيد حلفائه الأسوأ منه؛فتحالَف صالح مع أنصار الله (الحوثيين)، ليأتي الأسوأ من السوء نفسه. حققت السودانوالعراق والجزائر ولبنان انتصارات جزئية وتكتيكية، ورغم الحروب المسعرة في ليبياواليمن وسوريا إلا أن الاحتجاجات فيها ما تزال واعدة.
حلت الاحتجاجات في عصرنا محل حروب التحرير، وبدلالانقلابات العسكرية، وأصبحت سمة القرن الواحد والعشرين؛ بحيث يكون القرن قرنالاحتجاجات السلمية. فهذه الاحتجاجات تهدد الإرث الاستعماري كله، وتواجه التمييزالعنصري في أمريكا، وهي الآن كفيلة بتحقيق ما لم ينجزه الكفاح المسلح، وثلاث حروبضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
كشف وباء كورونا الفتاك أن العدو الحقيقي للأمم والشعوب والأفرادهو العنصرية، والاستبداد، والطغيان، وليست الصراعات الزائفة التي يغذيها الاستعماروأتباعه.
التمييز العنصري في فلسطين والاحتلال لم يعد مقبولاً؛فحتى اليهودي الفلسطيني العربي أصبح تواقاً إلى الأمن والسلام، والتصالح معالمواطن الفلسطيني، والمحيط العربي، كما أن الاستبداد في البلدان العربية آيل للسقوط؛فهذه الأنظمة المستبدة جزء من التراث الاستعماري الذي يُواجَه بالاحتجاجات، ويتعرضللمساءلة شأن إسرائيل.
لا يمكن مقارنة ما يجري في أوروبا وأمريكا بما جرى فيالمنطقة العربية، ولكن التمييز هو التمييز، وهو في أمريكا تحديداً، ثمرة عبوديةنجمت عنها حروب، وامتدت العبودية عدة قرون، وشهدت إصلاحات عديدة آخرها كفاح مارتنلوثر كنج منتصف القرن العشرين، ولكن بقاياها لا تزال متجذرة في الواقع.
الترافد بين وباء كورونا والاحتجاجات، كفيل بتغييرواسع وعميق في هذه البلدان وفي طبيعة نظمها، كما يتهدد صعود اليمين الشعبوي في القارتينالأوروبية والأمريكية، وتأثيره ممتد للعالم كله؛ فالعنصرية في الهند في حكم اليمينالقومي -حزب بهاراتيا جاناتا- تطمح إلى خلق امبراطورية جديدة يمتد نفوذها إلىالقارة كلها، والصين تعيد إحياء طريق الحرير إلى العالم الجديد.
إن عالم ما بعد كورونا يعد بإعادة تشكيل النظامالدولي، وإعادة صياغة الكيانات التي شكلتها الحقب الاستعمارية.
كشف الوباء الفتاك أن العدو الحقيقي للأمم والشعوبوالأفراد هو العنصرية، والاستبداد، والطغيان، وليست الصراعات الزائفة التي يغذيهاالاستعمار وأتباعه.
أمريكا وأوروبا والدول الكبرى هي الأقدر على المعالجةوالإصلاح والخروج من الأزمات بأقل التكاليف، غير أن المشكلة في الأنظمة التابعةضعيفة النمو والقائم نظامها في جوهره على الاستبداد والفساد.
تواجهالأمة العربية مشاكل جمة أهمها طغيان الاستبداد والفساد، وكانت "ثورة الربيع"العربية هي الأسلوب الأمثل للخلاص منهما، غير أن الجوار العربي، وتحديداً الإيرانيوالتركي، يلعب دوراً خطيراً في تأزيم الأوضاع، وتشجيع الصراعات الداخلية هناوهناك؛ فإيران بدعوة ولاية الفقيه تغذي الصراع الطائفي، كما تقوم تركيا أردوغانبإحياء أوهام الخلافة الإسلامية، وتدعم هي الأخرى الصراع الطوائفي.
الامبراطوريتان الهالكتان تواجهان مصائب كبيرة داخلبلدانها، وتتراجع قدراتها على الاستمرار في تغذية الصراعات الطائفية في قلب الأمةالعربية، ولكن الأهم إدراك أن الأنظمة الطائفية والعنصرية العربية هي الأساس، ولاخلاص من الأزمات الكارثية إلا بالخلاص منها؛ فالحروب التي تشن في المنطقة وعليهامردُّه إلى الأسباب الرئيسية الثلاثة: فساد واستبداد هذه الأنظمة القطرية،والثاني: الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، والثالث الجوار العدائي والنفوذالاستعماري.