بعد حرب طاحنة بين الجمهوريين (الجيش السبتمبري) وبعض رموز الملكيين، ومن ورائهم بعض من قبائل شمال الشمال والرموز المشيخية، والدعم السعودي والمرتزقة والخبراء من أنحاء العالم، دامت قرابة سبع سنوات، تمت المصالحة التي سعى لها النظام الناصري، ونظام الحكم القبلي بعد انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وتم ضرب قوى الحداثة في المجتمع، والسجن والتنكيل والاغتيال لقادة فكّ حصار صنعاء.
بعد ذلك سعَت قيادات الملكيين بالأمس، ومن ورائهم السعودية، إلى إشاعة المذهب الوهابي في أوساط النشء الجديد في عمق القبيلة، فكان أن فاتح القاضي يحيى لطف الفسيل، بعد مصادقته الشيخ حسين علي الصلاحي ومصاهرته له، بفكرة إنشاء معهد علمي، في مسور خولان/ صنعاء. وأبدى الشيخ حسين علي الصلاحي استعداده لفتح المعهد ودعمه. وبعد اختمار الفكرة، التقى القاضي یحيى لطف الفسيل، بالقاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري –حينها- وعرض عليه الفكرة فوافق عليها، وبدأ إنشاء المعهد العلمي بمسور خولان عام 1972، واستقدم لذلك الغرض، الأستاذ قاسم إبراهيم البحر، ومعه نحو خمسين طالبَ علم من أهالي ريمة يرأسهم الأخ محمد صغير المزلم.
كان أولئك الخمسين طالباً، بمثابة البذرة في ذلك المعهد، لتشجيع أهالي المنطقة على الالتحاق بالمعهد، وبدأت الدراسة، حیث تطوع عدد من المدرسين منهم الأستاذ عبد الله قشوه، ومن أهالي عدن الأستاذ محمود شيخان، والأستاذ الفاضل علي عبد الإله محمد، والأستاذ عبدالله علي الحمزي، والأستاذ حسين أحمد الآنسي. قدموا من صنعاء، وبدأ نشاط المعهد بين مدرسيه وطلابه، وأقبل عليه الطلاب من المنطقة وغيرها، وبحسن الأداء من المدرسين والأموال المبذولة نجح المعهد .
كان هناك إشراف شكلي على المعهد من قبل وزارة التربية والتعليم، من خلال زيارات متباعدة، وظلّت الدراسة بالمعهد طوعية، وعلى نفقة الشيخ حسين الصلاحي، ومساعدة الجمعية العلمية الیمنیة (إحدى واجهات نشاط الإخوان المسلمين) التي كان يرأسها الشيخ عبدالمجيد الزنداني، والضابط أحمد محمد الأكوع، أمين عام الجمعية، وكان ضابطا في وزارة الداخلیة.
إلا أن الأستاذ عبدالباري طاهر ذکر لي أن هناك معهداً أسسه شیخ عائد من السعودیة من أسرة “الجبر”، أسس معهداً علمياً فی مدیرية اللحیة، وعند استفساري الأستاذ علي إبراهیم العقیلي، کان رده: “تم تأسیس معهد الجبیریة في مدیریة اللحيّة”.
كانت التجربة مشجعة، بحيث عمد المقدم إبراهيم محمد الحمدي، بعد انقلاب 13یونیو/ حزيران 1974، وكملحق لعملية المصالحة بين الجمهو- قبليين، والملكيين، إلى إصدار ثلاثة قرارات من مجلس القیادة، بإنشاء ثلاثة مكونات قیادیة وتعلیمیة، وکانت بمثابة حواضن لحزب الإخوان المسلمين في الجمهورية العربية اليمنية عام 1974، وقد أوكل إدارتها لزعماء في تنظيم الإخوان المسلمين أو شخصيات مقربة :
ــ مكتب التوجيه والإرشاد، أوكل رئاسته للأستاذ عبدالمجيد الزنداني ومنحه درجة وزير.
ــ الهيئة العامة التربوية، وأوكل رئاستها للقاضي الصفي المحبوب، المقرب من الإخوان. (اسمه أحمد عبدالرحمن المحبوب، وقد كان مقرئاً شارك في حركة 1948، والصفي كنية لاسمه، حيث تطلق في صنعاء کنیة لكل اسم، مثل: محمد: العزي، أحمد: الصفي، عبدالله: الفخري…)
ــ الهيئة العامة للمعاهد العلمية، وأوكل رئاستها للقاضي يحيى لطف الفسيل، وکان وکیل الهيئة حمود هاشم الذارحي.
كانت هذه الكيانات تمثل حكومة موازية فيما يختص بالتعليم الديني، بعيداً عن رقابة الوزارات المعنية بالشأن التعليمي والثقافي. وخصصت للمعاهد العلمیة میزانیة ضخمة، لا تخضع لرقابة وزارة المالیة، والأجهزة الرقابیة الأخرى.
تم استقدام خبرات تعليمية عبر التنظیم الدولي للإخوان المسلمین، ومدرسین من عدد من البلدان العربیة، في طلیعتها مصر والسودان وسوریا. وبهذا الصدد، یقدم الأستاذ السوداني محمد أحمد الأمین محیریبا، شهادته عن الفترة اللاحقة لتأسیس المعاهد العلمیة بقوله:
“في بداية الثمانينات استعان على ما أعتقد تنظيم الإخوان اليمنيين بالتنظيم الدولي لازدهار هجرة الإخوان المسلمين في السودان إلى اليمن، والعمل في المعاهد العلمية حتى بدون شهادات، وأنا كنت شاهداً على ذلك، وفرضوا سيطرتهم الإدارية على المعاهد العلمية ومعهم الإخوان المصريون”. ومحمد أحمد الأمين المحيريبا، درس في كلية العلوم-كيمياء، بجامعة صنعاء، وعمل في التدريس خلال عقد التسعينات، وقبل ذلك، كان والده مدرساً معاراً بوزارة التربية والتعليم في شمال اليمن.
وبالمقابل لفتح المعاهد، تم إغلاق الجمعية العلمية اليمنية، إحدى واجهات تنظيم الإخوان المسلمين في الجمهوریة العربیة الیمنیة، والتي تم تأسيسها عام 1968.
لم يكتفِ الإخوان المسلمون، بالتوسع الذي حققته لنشاطهم السیاسي المعاهد العلمیة، والذي بدأ بتأسیس 15 معهداً، ووصل إلی 500 معهد علمي، عام 1982، فی ذروة نشاطهم السیاسي والمسلح في مواجهة الجبهة الوطنیة الدیمقراطیة، ووصل عدد المعاهد إلی 1200 معهد، قبل توحید التعلیم في 2001، وعدد الطلبة كان قرابة 600,000 طالب.
هكذا کانت الجبهة الإسلامية في الجمهورية العربیة الیمنیة، أول نتاج لتزاوج السلطة الاستبدادية مع تنظيم الإخوان المسلمين. فبعد انتصارات الجبهة الوطنية الديمقراطية على الجيش القبلي في مناطق النفوذ القبلي، والتواجد الكثيف لرموز السلطة في المناطق الوسطى على وجه التحديد، وإعلان عديد من مديريات الجمهورية كـ”مناطق محررة”، عمد تنظيم الإخوان المسلمين عام 1979، وعبر الضابط فی وزارة الداخلیة، أحمد محمد الأکوع، للاتصال والاجتماع برئيس الجمهورية حينها علي عبدالله صالح، وتأكيدهم على قدرتهم للتصدي للمدّ الشيوعي (يقصدون الجبهة الوطنية) بالرغم من أن الجبهة الوطنیة، كانت تحالفاً لكل القوى الوطنية في شمال اليمن.
العمل الجهادي لا يقوم إلا على رافعة دعوية، وقد تم تهيئة أجيال طلاب المعاهد العلمية على الجهاد.
وفي الواقع، فإن ذلك كان امتداداً لما بعد انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وأحداث أغسطس/ آب الكارثية 1968، والتي هدفت إلى إقصاء قوى اليسار ومنظمات المجتمع المدني، لنزع وهج الانتصار في حصار السبعين يوماً، والذي كان نتاجاً لتحالف شعبي تمثّل في المقاومة الشعبية والجيش السبتمبري وقيادة صغار الضباط الذين صمدوا في صنعاء، وكترتيب للمصالحة مع القوى الملكية، فحصلت مواجهات بین السلطة والضباط والجنود المبعدین من الجیش والأمن، وتم تأسیس منظمة المقاومین الثوریین الیمنییين، ومنظمة جیش الشعب الثوري، وفی العام 1976، تم تأسیس الجبهة الوطنیة الدیمقراطیة.
كان للانتصار النسبي الذي حققته الجبهة الإسلامية بقيادة عبدالسلام خالد كرمان، في مديرية شرعب بمحافظة تعز، على تواجد الجبهة الوطنية الديمقراطية فيها، أثراً طيباً لدى السلطة، ما دفعها لإبرام تحالف “كاثولوكي” مع الإخوان المسلمين، تمثل في إلحاق أعداد كثيرة منهم بالكليات العسكرية والجيش والجهاز المركزي للأمن الوطني (جهاز الاستخبارات)، وفتح معسكرات تدريب ومدّهم بالأسلحة والعتاد الحربي، وفتح معاهد علمية في مناطق الصراع، وعلى الحدود الشطرية مع اليمن الديمقراطية (الجنوب). فالعمل الجهادي لا يقوم إلا على رافعة دعوية، وتهيئة أجيال طلاب المعاهد العلمية على الجهاد.
ربما تعطي هذه الخلفية فكرة واضحة عن نشأة التنظيمات الجهادية في طول وعرض الساحة اليمنية، وفي هذا السیاق یقول أ. د حمود العودي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء:
“إن تجزئة العملیة التعلیمیة بین أطراف سیاسیة ودینیة مختلفة، أدت إلی تجزئة الوجدان والعقل الیمني للجیل الموجود، وتوزیعهم إلی جزر ومستوطنات عقائدية ومذهبیة وطائفیة وسیاسیة”.
ویری أن المعاهد العلمیة کانت أبرز المظاهر التي تجسدت من خلالها تجزئة مفهوم العملیة التعلیمیة. مع ذلك فقد جرت محاولات لإلغاء المعاهد العلمیة، بعد التوقف النسبي للأعمال العسکریة بین الجیش والجبهة الإسلامیة من جهة، والجبهة الوطنیة من جهة مقابلة.
وقد صدر قرار جمهوري بتشكيل “المجلس الأعلی للمناهج”، عام 1983، فأصدر وزیر التربیة والتعلیم د. حسین عبدالله العمري، توجیهات بتوحید المناهج التعلیمیة. انتهی الأمر بعزل الوزیر، ورئیس الهيئة العامة للمعاهد العلمیة الشیخ یحيى لطف الفسیل. وبعد الوحدة صدر قانون توحید التعلیم رقم 45 لسنة 1993، والذي لم یجد طریقه للتنفیذ.
في کتابه “التعلیم فی الجمهوریة العربیة الیمنیة”، يؤصل الدکتور علي هود باعباد، لتأسیس المعاهد العلمیة، بأنها کانت موجودة قبل الثورة (26 سبتمبر/ أيلول 1962)، وأن عددها كان حوالي 15 معهداً. وهو تأصیل غیر منطقي، فلم تكن لحلقات الدرس في الجوامع والمساجد أي تسمیات، فهي کمدارس لعلوم الدین تنسب إلی المساجد والجوامع، وإلی المشائخ والقضاة القائمين علی التدریس في تلك الحلقات.
تم إغلاق ملف المعاهد العلمیة، بعد أن أخرجت مئات الآلاف من الدعاة وأئمة المساجد والمدرسین الذین أعيد توزيعهم على المدارس الحكومية، کمدراء وموجّهین ومدرّسین.
کانت المعاهد بمثابة نشاط سیاسی، بدلیل أن عدد المعاهد العلمیة ازداد بعد توقف المواجهات مع الجبهة الوطنیة في 1982.
یقول الأستاذ أحمد الشرعبي :
“لیس هناك أي خلاف على أن هذا التضخم الكبير للمعاهد کان في الأساس نشاطاً حزبیاً واضحاً، إلی درجة أن أحد أعضاء الكتلة النیابیة لحزب الإصلاح یصرح أنه في وقت الحرب والشِّداد، لا تقف إلا القوات المسلحة والمعاهد العلمیة”. وهو بذلك (النائب الإصلاحي) یعطي المعاهد دور الملیشیات.
قبل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، قدّم رئیس الوزراء عبدالقادر باجمّال برنامجه إلی الحكومة، وفیه إشارة إلی توحید التعلیم منهجاً وإدارة وتطبیقاً. وبعد التصویت علی البرنامج في مجلس النواب، بعد انسحاب کتلة التجمع الیمني للإصلاح، اجتمع مجلس الوزراء في 8 مايو/ أيار 2001، وأصدر جملة من القرارات، کان أهمها القرار الذي قضی بتنفیذ القانون الخاص بتوحید التعلیم.
وبذلك تم إغلاق ملف المعاهد العلمیة، بعد أن أخرجت مئات الآلاف من الدعاة وأئمة المساجد والمدرسین الذین أعيد توزيعهم على المدارس الحكومية، کمدراء لتلك المدارس وموجّهین ومدرّسین.
لمزيد من الاطّلاع، يرجى العودة إلى كتاب “الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن”، ناصر محمد علي الطويل.