يمكننا دون أي مجازفة حكمية نقدية –على الأقل من وجهة نظرنا- اعتبار حركة 13 يونيو/ حزيران 1974، حركة سياسية إصلاحية وطنية (إنقاذية) إلى حدود معينة، أي إنقاذ من حالة عجز وفوضى شاملة عمت البلاد كلها. ففي “يوم الخميس 13 يونيو/ حزيران 1974، تعلن وكالة الأنباء تقديم رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني استقالته للشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس مجلس الشورى، والذي رفعها ومعها استقالته إلى نائب القائد العام المقدم إبراهيم الحمدي، وفي غياب القائد العام المقدم محمد الإرياني ورئيس الأركان حسين المسوري، اللذين كانا خارج البلاد، وكأن هناك اتفاقاً مسبقاً على ذلك. فالقائد العام محمد الإرياني هو ابن أخ رئيس المجلس الجمهوري –الباحث.
وقد اجتمعت القيادة العسكرية وقبلت الاستقالة، وأعلنت إلغاء المجلس الجمهوري، وحلّ مجلس الشورى الذي استقال رئيسه، وإلغاء القيادة العامة للقوات المسلحة، وحل “الاتحاد اليمني”، التنظيم السياسي الوحيد في البلاد (المقصود التنظيم الوحيد الرسمي -الباحث) وتجميد الدستور (1). وقفزت إلى قمة المشهد السياسي (السلطة)، حركة سياسية عسكرية إنقاذية “تصحيحية”، لم تسفح فيها قطرة دم واحدة. وقد أشار الرئيس الحمدي في خطبة له قائلاً: “أستطيع أن أقول وبكل سعادة بأنه لم ترَق قطرة دم واحدة، ولم يدخل شخص السجن، ولم يتعرض أمن البلاد لأي هزات”(2).
وكان الرئيس الحمدي في معظم خطاباته وتصريحاته ومقابلاته المنشورة في الكتاب المذكور، يشير ويؤكد على قضية رفض العنف والقوة والحرب، وأن الحرب لا تأتي بالاستقرار والأمن، وكأنه يوجه نقداً لاذعاً وقاسياً لدعاة اللجوء إلى العنف والحرب وتجار الحروب، وهي إشارات سياسية ومفهومية تحتويها العديد من خطبه. وهو يرى أن مفهوم الأمن والاستقرار “أيها الأخوة، هو عدم العودة إلى التلهّي بدماء المواطنين وبهدم وتدمير القرى وتيتيم الأطفال -كما في النص- وترميل النساء، إذ أن هناك -كما يرى- من رأوا في حياة الأمن والاستقرار تعطيلاً لمواهبهم الحربية وتجميداً لبطولاتهم ومنعاً للرزق، وكأنهم لا يستطيعون -كما يقول الحمدي- أن يعيشوا إلا إذا ظلت البلاد قلقة وغير مستقرة”(3). وهو أوضح وأصدق خطاب سياسي نقدي لمن يتاجرون بالحرب من قمة السلطة. وأعلنت قيادة الحركة أن “الجيش للحرب والإعمار”. واتخذ قرار تيسير الزواج وقرار تجميد الإيجارات –قال- يجب أن تبقى هذه القرارات كما صدرت وبدون استغلال(4).
كما أصدر قرار إلغاء الألقاب والكنى، والاكتفاء بكلمة “الأخ”.
إن حركة 13 يونيو/ حزيران 1974، بصرف النظر عمّا أنجزته في نهاية المطاف، ومن أن رحلتها قطعت بالدم والشهادة (الاغتيال)، فإن الشيء الأكيد أنها جاءت تلبية لحاجة شعبية وإرادة سياسية وطنية عامة. إن ما قصرت في فعله الحركة السياسية المنظمة عبر التنظيم والشارع، بادرت الحركة السياسية العسكرية إلى القيام به ضمن ممارسة (فوقية)، وهي وإن جاءت حاملة وعاكسة لأحلام وتطلعات الناس (الشعب) بالإصلاح والتغيير وبالانتقال بالبلاد والشعب من دولة القبيلة إلى مشروع دولة الوطن، أو هكذا كان المرتجى، فإن حجم التحديات في الواقع كان أكبر من قدرة الحركة على إنجازه وتجاوزه بإمكانياتها الذاتية السياسية المحدودة التي كان عمودها الفقري هو “الجيش”، باعتباره القوة الوحيدة المنظمة، قوة كانت تعيش عثراتها الذاتية والتنظيمية والتكوينية الخاصة. وحول هذه النقطة والقضية يشير الرئيس الحمدي نفسه قائلاً:
“الجيش اليمني تكوّن في ظروف حرب، فيه الكثير من السلبيات والإيجابيات، وإعادة تنظيم جيش حديث تحتاج إلى تجارب، ولا يأتي التغيير من خلال شعور هذا يُبعد وذاك يأتي. وأنا لن استعمل عصا موسى في إصلاح الجيش، ولكن الفضل يعود لتقدير الشعب للعمل الجماعي ولتقدير الجميع للمصلحة العامة. أنا لا أقصد التخلص من أشخاص بقدر ما أريد أن أنفذ خطة لبناء أبجديات الدولة الحديثة”(5).
تسلم الجيش السلطة ولم تكن القوات المسلحة تمثل كياناً واحداً، وهو ما انعكس في تأثرها بالنــزعة المركزية، وفي ذلك الحين كانت تتكون من ثلاثة أقسام: القوات النظامية وقوات الاحتياط و”الجيش الشعبي”
إن التحديات الموضوعية والسياسية التاريخية لما بعد القيام بحركة 13 يونيو/ حزيران 1974، كانت فوق قدرة الوعي والإرادة السياسية الذاتية لقيادة الحركة –مجلس القيادة-وفوق سقف إدراكهم وحساباتهم وتصوراتهم، “إرث سياسي تاريخي”، وكأنهم – وخاصة الرئيس الحمدي- قد تفاجأوا بالتركة الثقيلة التي تستدعي مواجهة سياسية شاملة ومغايرة لما تصوروه واعتقدوه لحظة قرارهم الإمساك بالسلطة.. لحظة جديدة تستدعي الذهاب إلى الشعب للتأسيس للعمل الجماعي، وهو ما كان يعجز أفق الحركة العسكرية الإصلاحية عن استيعابه، ناهيك عن الذهاب باتجاهه كخيار سياسي لمواجهة تلكم التحديات. وكان الرئيس قد بدأ، أمام حجم المخاطر، يتلمس الطريق بالذهاب إلى القوى السياسية الوطنية الحديثة وتوجيه خطاباته للناس، ولكنه لم يذهب في هذا الطريق إلى مداه المطلوب، بل وانحصرت علاقاته الحذرة ببعض علاقاته الحزبية القديمة مع بعض عناصر في حركة القوميين العرب/ “الحزب الديمقراطي الثوري” لاحقاً، وبالعناصر الشابة الناصرية “قليلة الخبرة”، والتي تعيش أزمة خلافاتها وصراعاتها مع الأطراف السياسية الأخرى. وبقي هذا التحرك باتجاه الصلة أو العلاقة بالتنظيمات السياسية في حدوده الدنيا “الشخصية والحذرة يحكمها منطق عدم الثقة”. وهنا تكمن أزمة جوهر المشروع السياسي لحركة 13 يونيو 1974. فالجيش أداة الانقلاب يعيش أزماته الذاتية التكوينية، والتنظيمية الخاصة بعد عملية تدمير منظمة وممنهجة لقواه وتراكيب وحداته العسكرية المختلفة. لقد بادرت الصفوة العسكرية بإرادة ذاتية نبيلة للتصحيح “ونهض الجيش كقوة سياسية مركزية ومؤثرة أكثر من غيرها ومتميزة عن غيرها بصلابته، وقوة هيكلها التنظيمي. وفي ظروف اليمن الشمالية، وما تتميز به من تخلف سياسي وغياب كامل للمنظمات السياسية ذات البنية الحزبية تقريباً، والصحيح من وجهة نظرنا ضعف البنية الحزبية، وليس غيابها الكامل –(الباحث)، فقد كان الجيش ذا معنى كبير. وفي الحقيقة فقد تسلم الجيش السلطة ولم تكن القوات المسلحة تمثل كياناً واحداً، وهو ما انعكس في تأثرها بالنــزعة المركزية. وفي ذلك الحين كانت القوات المسلحة تتكون من ثلاثة أقسام (جيوش) القوات النظامية وقوات الاحتياط و”الجيش الشعبي” أي الوحدات القبلية(6)، وهي القوات النظامية وقوات الاحتياط وغيرها التي كانت (وحداتها/ ألويتها) موزعة في قبضة القبائل/ العسكر، وهو ما سبق الإشارة إليه. بل والأخطر أن مجلس القيادة العسكري، لم يكن مجلس قيادة منسجم، أو حتى شبه منسجم، والدليل أن اغتيال الرئيس الحمدي كان مصدره هذا المجلس. وفي هذا المناخ السياسي المضطرب والمرتبك والوضع الصعب والمعقد، كان وصول القيادة الوطنية العسكرية إلى قمة السلطة. وقبل أن تستقر، بدأت الصراعات بين مراكز القوى العسكرية القبلية، ومجلس القيادة، بعد أن أعلن مجلس القيادة عن نفسة كسلطة عليا من سبعة أعضاء، وانتقلت فيه السلطة بصورة نهائية إلى قيادة الجيش -في وضعها المشار إليه- في شكل مجلس القيادة الجديد الذي وسع بعد ذلك عدد أعضائه إلى عشرة (أسماء) ضباط، بقيادة إبراهيم الحمدي.
لقد أعلنت الحركة أنها قامت ضد الفساد السياسي والمالي: “ففي ميدان السياسة الداخلية أعلنت القيادة الجديدة عن إصرارها لوضع حد للفساد والرشوة، وأيضاً التعاون مع العناصر الوطنية الشريفة القادرة على حل المسائل المطروحة. وفي تقديرنا أن من أهم الإجراءات السياسية والتنفيذية التي اتخذها مجلس القيادة هو تجميد مجلس الشورى، وهو أداة تنظيمية وسياسية وتشريعية خطيرة كانت بيد رموز القمة المشيخية والجماعات السياسية الدينية، واستطاعت الحركة -رغم كل شيء- أن تكسب تعاطفاً شعبياً وجماهيرياً واسعاً، وخاصة بعد إجراءات الحركة في إزاحة بعض رموز البنية المشيخية القبلية والعسكرية.
أما عن رد الفعل الخارجي، فيمكن الإشارة إلى البيان السعودي حول الحركة وقيامها، ويتضمن التالي: “أنه عمل داخلي للجمهورية العربية اليمنية، تدخل الدول الأخرى عمل غير مسموح به مطلقاً” ووقفت حكومة مصر موقفاً مشابهاً(7).
وبقي الموقف السياسي السعودي الرسمي والعملي طيلة سنوات 74-1976 يتحرك في هذه الحدود وفي نطاق الصلح بين الطرفين (الرئيس إبراهيم الحمدي/ والشيخ عبدالله الأحمر).
لقد كان همّ الرئيس الحمدي من بعد قيام الحركة يتمحور ويتركز حول ثلاث قضايا، الأولى: قضية الدولة المركزية الوطنية الحديثة، والثانية: مسألة التنمية الاقتصادية الاجتماعية، والثالثة: قضية الوحدة اليمنية. ولا تخلو معظم خطاباته ومقابلاته من التأكيد على هذه المسائل، وخاصة قضية بناء الدولة التي احتلت مساحة كبيرة من بنية تفكيره، والتي بدأها من فوق، وبدون رؤية سياسية برنامجية استراتيجية، بتقليص نفوذ هيمنة الرؤوس السياسية والاجتماعية والعسكرية الكبيرة من السلطة السياسية، إلى المؤسسة العسكرية (بيت أبو لحوم/ مجاهد أبو شوارب، حتى التضييق على الشيخ عبدالله الأحمر)، الذي اعتكف في قريته، ودعمه عناصره ومجاميعه القبلية المسلحة في قطع الطرق، ومحاولته إعاقة عمل الجيش، ومؤسسات الدولة في تحقيق الأمن والاستقرار، وهناك رسالة بخط الرئيس/ الشهيد الحمدي موجهة للشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، قاسية بهذا الخصوص، صارت قيد التداول في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، تدعوه للتوقف عن هذه الأعمال والممارسات التي تستهدف إعاقة التوجه السياسي الرسمي لمؤسسات السلطة، نحو تعزيز بنية وحدة الجيش كمؤسسة وطنية نظامية على قواعد وأسس صحيحة، خطوة على طريق مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة.
قرار مجلس القيادة بإنشاء “اللجنة العليا للتصحيح” الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 1975، مثّل خطوة مهمة في اتجاه تدعيم وترسيخ أعمدة بنيان السلطة المركزية، ودخل في مهامها، ليس فقط مراقبة نشاط أجهزة السلطة، بل أيضاً نشاط المشايخ
والحقيقة أن ذلك من حيث المبدأ، تفكير عملي سليم، لأنه كان يتضمن إعادة نظر في قضية نظام الحكم وفي المكانة المركزية لقضية بناء الدولة، وفي القلب منها الجيش، وإن لم تكن تقف خلف ذلك قيادة سياسية/ تنظيمية موحدة، ولا رؤية سياسية برنامجية واضحة حول الخطوات السياسية والتنظيمية والقانونية والدستورية للسير في هذا الاتجاه الصعب. ناهيك عن أنه من الصعب البدء بالإصلاح السياسي أو العسكري، وبُنية “مجلس القيادة” مخترقة بعناصر تآمرية ومتخلفة، وضد أي محاولة لبناء جيش وطني، أو إنجاز مشروع بناء دولة وطنية حديثة. وبقي إرث النظام السابق بكل حمولاته المعوقة والكابحة هو من يحكم منطق المرحلة الجديدة بسبب الممانعة الداخلية، والمقاومة الشرسة لأي إجراءات بالمساس بجوهر النظام القديم، ولذلك وضعت الاعتراضات والعوائق أمام حكومة محسن العيني التي جرى الاعتراض عليها من أول وهلة لقيامها. تشكلت بعدها في 25 يناير/ كانون الثاني 1975، حكومة جديدة برئاسة عبدالعزيز عبدالغني. ويرى البعض، ونحن منهم، أن قرار مجلس القيادة بإنشاء “اللجنة العليا للتصحيح” الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 1975، مثّل خطوة مهمة في اتجاه تدعيم وترسيخ أعمدة بنيان السلطة المركزية، ودخل في مهامها، ليس فقط مراقبة نشاط أجهزة السلطة، بل أيضاً نشاط المشايخ، سواء على مستوى السلطة المركزية أو على مستوى النواحي. وبغض النظر عن النتائج العملية لهذا القرار في الواقع، فبالإمكان تقييمه كبداية لهجوم الحركة، في صورة مشروع (السلطة المركزية)، ضد القوى الانفصالية، وهي بداية خجولة لاستقلالية الدولة ومؤسساتها عن دولة المشايخ، والمقصود بــِ”الانفصالية” هنا مشائخ القبائل. وأدت محاولات الدولة للحد من امتيازات وجهاء الإقطاع والقبائل، إلى المزيد من تضافر وتمركز المناوئين لنظام الحمدي المتمثلين بمشايخ القبائل القوية، وضباط الجيش المرتبطين بهم الذين أقالهم الحمدي من مناصبهم. وفي هذا السياق، عقدت مؤتمرات قبلية مناوئة للنظام الجديد، في “خمر” بمحافظة عمران، منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 (8).
وكان الرئيس الحمدي، وفق منظوره السياسي، ووفقاً لواقع الشروط الممكنة لبناء الدولة، يرى في “لجان التصحيح” إلى جانب “التعاونيات”، قوة سياسية اجتماعية تنظيمية ورقابية مساندة في مشروعه لبناء الدولة.
وكان يكرر ذلك القول في خطبه حول هذا المعنى. ففي افتتاحه الاجتماع الموسّع لقيادات هذه اللجان يقول: “إخواني، واضح أن لجان التصحيح جزء مكمل للدولة، ولا نشعر بأي فارق بين أجهزة الدولة ولجان التصحيح”(9). إضافة إلى حديثه المتكرر عن التصحيح المالي والإداري وقضية مكافحة الفساد وربطها مباشرة باللجنة العليا للتصحيح وإداراتها المختصة. كان يرى في ذلك، إلى جانب موقفه الإيجابي الداعم للتعاونيات، مدخلاً إبداعيا يمنياً للربط بين لجان التصحيح، والشروع في التأسيس لبناء الدولة، والذي ترافق مع شعار مكافحة الفساد.
والقضية الثانية التي كانت تؤرق تفكير الحمدي –كما أشرنا- هي قضية التنمية الاقتصادية الاجتماعية، ودفعه بخطط التنمية بشكل متسارع (البرنامج الإنمائي الثلاثي). وفي يونيو/ حزيران 1976، بدأ بتنفيذ مشاريع الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية، واهتم بالمرتكزات الأساسية لقضية التنمية الداخلة في صلب تقوية بنية الدولة وأجهزتها المختلفة، بالتركيز على البنية التحتية للنظام السياسي. ولذلك اهتم ببناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق والمواصلات والحدائق والاتصالات وبناء المنشآت الحكومية -بنية تحتية إدارية وتنظيمية وقانونية اقتصادية وتجارية وقضائية، سنأتي على بعض منجزاته في ختام هذه الفقرة، ومنها وأهمها “الجهاز المركزي للتخطيط”، وعشرات غيرها.
على أن تركيزه الأهم انصبّ على الاهتمام بالقطاع الزراعي، بدرجة أساسية، باعتباره “العنصر الأساسي للاقتصاد الوطني، كونه مصدراً رئيسياً للدخل في البلاد وميدان العمل للسواد الأعظم من فئات الشعب، فقد قدر عدد العاملين في هذا القطاع من إجمالي القوى العاملة في كافة القطاعات الأخرى في تلك الفترة بنحو 70%، في المقابل بلغت مساحة الأراضي المزروعة بحوالي 1,5 مليون هكتار، من مجموع المساحة الكلية لليمن البالغ في تلك الفترة 20 مليون هكتار، أما بالنسبة لمساهمة الزراعة في الناتج المحلي، فقد وصل من العام 73-إلى1977، إلى حوالي 55%، وقد تراجعت تلك النسبة في العام 78-79إلى 44%، حتى وصلت النسبة في العام 80-81 إلى نسبة 30% (10).
يمكننا اعتبار مرحلة الحمدي لحظة سياسية وطنية استثنائية، وجملة اعتراضية في مواجهة واقع كآبة مشحونة بالكراهية السياسية لأي إمكانية لبناء وإقامة الدولة الوطنية الحديثة
والقضية السياسية والوطنية الثالثة التي كانت تشغل بال الرئيس الحمدي هي قضية الوحدة اليمنية، التي بدأها بتشكيل لجان شؤون الوحدة المشتركة، وحديث متكرر عن قضية الوحدة اليمنية، وضرورة العمل باتجاه وحدة اليمن، وبتقاربه السياسي الكبير مع قيادة الشطر الجنوبي، وتنسيقه الوحدوي، والذي بلغ ذروته في علاقته الخاصة والمميزة بالرئيس سالم رُبيِّع علي، ودعوته له لزيارة صنعاء واستعداده لزيارة عدن، في اتجاه تعميق الصلات الوحدوية بين الشطرين، ليس بالمعنى الفوري، وهو سقف أحمر ممنوع الاقتراب منه بالنسبة لقوى نافدة في الداخل والخارج، “المشايخ والسعودية”.
وفي تقديرنا، أن تقليص نفوذ القمة المشيخية القبلية مترافقاً مع حديثه السياسي الجدي، وبأفق وطني عن قضية الوحدة اليمنية، هي من الخطوات التي سرّعت باقترابه من دائرة الخطر/ القتل، خاصة بعد زيادة تصريحاته الناقدة ضد رموز البنية المشيخية القبلية، وبداية افتراقه السياسي الكبير عنهم. ففي خطاب له قال فيه: “إن المشايخ يحكمون ولا يتحملون المسؤولية عن أفعالهم”.
والأهم من ذلك كله، أن الحمدي انتهج سياسة خارجية مستقلة عن العربية السعودية، وتقرب من “اليمن الديمقراطي”، وهذا خط أحمر سعودي آخر، وأوقف الحملات الدعائية ضد دولة الجنوب، واستقبل سالمين في صنعاء، وعقد معه اتفاقية وحدوية في “قعطبة”، في فبراير/ شباط 1977، تضمنت تعزيز التعاون الاقتصادي وتنشيط التبادل التجاري وتوحيد المناهج الدراسية(11).
بالإضافة إلى مماطلته في التوقيع على تجديد اتفاقية الحدود مع السعودية. ولذلك كان يجب أن تتم إزاحته وتصفيته وإخراجه من مشهد السلطة والحكم.
على أننا لم نتوقع أن الانتقام من الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، سيكون بتلك الصورة والطريقة البشعة والوحشية وغير الأخلاقية.
ويمكننا اعتبار مرحلة الشهيد إبراهيم الحمدي لحظة سياسية وطنية استثنائية، وجملة اعتراضية في مواجهة واقع كآبة مشحونة بالكراهية السياسية لأي إمكانية لبناء وإقامة الدولة الوطنية الحديثة؛ مرحلة سياسية قطع معها بالاغتيال والقتل، لإدراكهم أن اكتمال مبتدأ الجملة الاسمية بخبرها، يعني دخول اليمن مرحلة سياسية ووطنية تاريخية جديدة. ومن هنا تضافرت قوى العنف والتخلف في الداخل والخارج للقطع مع مشروع وطني تاريخي كبير يجري ترحيله من بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، حتى اغتيال الحمدي وإلى اليوم، وهو مشروع بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة. وكما يرى د/ أبوبكر السقاف، أن رحيل الحمدي المأساوي جسّد حالة الصراع بين المشايخ ورأس الدولة، وأن المؤسسة القبلية، ركيزة سلطة المشايخ، لا تستطيع التعايش مع أي حكم مستقر وهي بطبيعتها نقيض السلطة المركزية حتى في أضعف صورها”(12).
بعض إنجازات الحركة في اتجاه بناء الدولة:
سبقت الإشارة إلى عمومية ما أنجزته حركة 13 يونيو/ حزيران، وهنا نشير إلى أهم تلك الإنجازات:
-تجميد مجلس الشورى وإعلان العمل بالدستور الدائم (انظر بيان الحركة).
-إنشاء الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.
-إنشاء النيابة الإدارية والمالية والمحكمة التأديبية 13/7/1974.
-حظر العمل السياسي على ضباط وجنود القوات المسلحة.
-صدور قانون خاص بجوازات السفر 12/12/1974.
-إجراء أول تعداد للسكان 1/2/1975.
-إنشاء مركز الدراسات والبحوث اليمني 8/3/1975.
-إعادة تنظيم الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية 20/2/1975.
-تنظيم وثائق السفر الدبلوماسية 11/5/1975.
-إنشاء الجهاز المركزي للأمن الوطني 6/7/1975.
-إنشاء جهاز التخطيط المركزي 8/6/1975.
-تنظيم عمليات القبض والإيداع في السجون 16/7/1975.
-إعادة تنظيم وزارة الإقتصاد 18/10/1975.
-وضع ضريبة على العقارات 19/1/1976.
-إعادة تنظيم وزارة الإعلام والثقافة وإنشاء مؤسسات جديدة للإذاعة والتلفزيون والصحافة والأنباء والسياحة 8/1975.
-إصدار قانون لمؤسسة الموانئ في اليمن 3/4/1976.
-إعادة تنظيم وزارة التربية والتعليم 4/11/1976.
-إنشاء المؤسسة العامة للتجارة الخارجية.
-تحديد المبيعات العقارية مارس 1977.
-إعادة النظر في مؤسسات الدولة والجيش خلال ثلاث سنوات(13)
________
الهوامش:-
1-محسن العيني “خمسون عاماً في الرمال المتحركة.. قصتي مع بناء الدولة الحديثة”، ص282، وكذلك أحمد الصياد “السلطة والمعارضة والمعارضة في اليمن المعاصرة” دار الصداقة/ بيروت”. وهنا من المهم الإشارة والتأكيد إلى أن الرئيس القاضي الإرياني، والأستاذ أحمد محمد نعمان، قد سلما استقالتيهما إلى رئيس مجلس الشورى الشيخ عبدالله الأحمر وفق الأصول الدستورية، على أمل أن يتخذ الشيخ الإجراءات المتعارف عليها في الدستور، ولكنه اكتفى بإرسال الاستقالتين، مع استقالته إلى قيادة ضباط حركة الجيش، وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً على ذلك أو أنه يريد إحداث ارتباك واضطراب سياسي تجاه قادة الانقلاب من بعض مراكز القوى. وقد أشار إلى هذه المسألة محقاً الأستاذ مصطفى النعمان في واحدة من مقالاته.
2- إبراهيم الحمدي، “خطب وتصريحات” الرئيس القائد إبراهيم الحمدي، من 13يونيو/ حزيران 1973 إلى مايو/ أيار 1977، وزارة الإعلام الإدارة العامة للإعلان (المجلد الأول)، مصدر سابق، ص140.
3- إبراهيم الحمدي، نفس المصدر، ص96.
4- إبراهيم الحمدي، نفس المصدر، ص 161.
5- إبراهيم الحمدي، نفس المصدر ص43-44.
6- مجموعة من المؤلفين السوفييت “تاريخ اليمن المعاصر” ترجمة: محمد علي البحر، ص278.
7- مجموعة من المؤلفين السوفييت، مصدر سابق، ص279-280.
8- جلوبوفسكا، أيلينا، (التطور السياسي في ج.ع.ي، 62-1985 إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني/ صنعاء، ط(1)، 1994)، ص168.
9- إبراهيم الحمدي “خطب وتصريحات”، مصدر سابق ص190.
10- أروى محمد ثابت “إبراهيم الحمدي/ حياته ودوره السياسي في اليمن” ص151، رسالة ماجستير جامعة الحديدة، محفوظة في مكتبة مركز الدراسات والبحوث اليمني/ صنعاء.ص151
11- فواز طرابلسي “جنوب اليمن في حكم اليسار”، ص.79.
12- د/ أبو بكر السقاف: الجمهورية بين القبيلة والسلطنة، شركة الأمل للبطاعة والنشر، ط(1)، 1988.
13- (انظر فيصل جلول (الثورتان الجمهوريتان، الوحدة)، 1962-1994، (2)، دار الجديد/ بيروت، ص56/57 ). وكذلك كتاب “وقفات على سفوح المجد” الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، حياته وتجربته في الحكم، عبدالغني الكناني، وعبدالسلام الحمدي، ط. أولى، 2013، ص177+184+188+221+234،ط وكذلك أروى محمد ثابت.