لم يجمع اليمنيون على وطنية حركة سياسية مثلما أجمعوا على حركة ١٣ يونيو/ حزيران 1974، ممثلة بقائدها الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي. ومن الصعب أن نجد زعامة وطنية نالت مثل تلك الشعبية والالتفاف الجماهيري والمحبة التلقائية التي نالها وما تزال حتى اليوم بنفس الحماس والقوة حتى لدى الأجيال التي لم تشهد عصره ولم تعِش فترة حكمه.
هذه الحالة الفريدة جعلت من جاء بعده يحاول بكل وسيلة محو تلك الفترة من الذاكرة اليمنية، لكنهم فشلوا أمام طغيان شخصية الحمدي برمزيته وكارزميته على الرغم من قصر فترة حكمه.
لم يكن الحمدي يستغل المال العام لشراء الولاءات وكسب التأييد الشعبي كما فعل ويفعل غيره. لم يستخدم العنف والتصفيات لإسكات المعارضين. أراد الحمدي أن يبني إجماعاً وطنياً لصنع التحول التنموي الشامل وتأسيس حياة ديمقراطية شعبية، إلا أن مراكز النفوذ التقليدية لم توافقه على ذلك لأنها تريد التوافق السياسي على أساس تقاسم الثروة والسلطة، والحفاظ على مصالحها، وحرمان القاعدة العريضة والطبقات الفقيرة من حقوقها الطبيعية.
وقد حدّد الرئيس الحمدي تلك الرؤية في أحد خطاباته حين قال “لقد طرحنا نقاط عمل تضمنت نظرتنا إلى كافة مشاكلنا وقضايانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، منطلقين من المبادئ الستة للثورة، ودعونا جميع القوى الوطنية لنقاشها والإضافة إليها وترجمتها بعد ذلك إلى ممارسة عملية بعيداً عن المغالاة أو المزايدة أو تسجيل المواقف..” (كتاب خطب الرئيس ص ٢٠٠).
كانت مواقف إبراهيم الحمدي ورؤاه الوطنية هي الباعث على المواجهة مع تلك الفئة المناهضة لسياسته الوطنية وطموحاته التنموية الكبيرة، وهي أساس شعبيته والتفاف الشعب حوله في كل ربوع اليمن، وحضوره الدائم في ذاكرة اليمنيين؟
كان قريباً من الشعب ومن الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً ومعاناة. اختلف مع مراكز القوى القبلية لأنه أراد إنصاف الفئات المستضعفة. اختلف مع مراكز النفوذ لأنه أراد تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون. وكما عبر عن ذلك في كلمة له مشيراً إلى أولئك الذين يقلقون من نهوض اليمن: “هناك أناس قلقون، لا أدري لماذا يقلقون وماذا يقلقهم؟ هل الإنجازات التي تُبنى لخدمة الإنسان اليمني هي التي تقلقهم؟ هل قرابة نصف مليون من الطالبات والطلبة على مختلف أنحاء الجمهورية ينعمون اليوم بالعلم والتعليم هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل شق آلاف الكيلومترات من الطرقات المعبدة؟ هل أن يحل الحب والتعاون بدل البغضاء هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل غرس الشجرة وبذرة الأمل الطيب في النفوس بدلاً من الألغام وأشلاء المشوهين ودماء الشهداء هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل بناء الدولة المركزية التي ينعم كل مواطن في ظلها بما له من حقوق وما عليه من واجبات، هو الذي يقلقهم؟ بدلاً من الفوضى والتسيّب ومراكز القوى والدويلات المتعددة؟ لا أدري، إنما حين أقول هذا أقوله لكي أكون باستمرار صريحاً مع شعبنا الكريم الذي أعرف، وأنا متأكد جداً بأنه اليوم يعرف طريقه وأنه اليوم يعرف أعداءه وأصدقاءه، وأنه اليوم يعرف من يقلقون على مصالحهم الشخصية، وإلاَّ لماذا لم يقلقوا والجماجم تتساقط، لماذا لم يقلقوا وأموال البلد تهدر، لماذا لم يقلقوا وسمعة اليمن في الحضيض، لماذا لم يقلقلوا والفوضى ضاربة أطنابها في كل مكان؟ نحن طريقنا هو البناء وطريق السلام” (خطب الرئيس ص ٢٦٠).
لقد برز البعد الاجتماعي والبعد الإنساني بقوة في التجربة التعاونية وعملية التنمية الزراعية ورعاية المهمّشين والمغتربين، وإشراكهم في عملية التنمية الوطنية كشريحة نوعية لعبت وتلعب دوراً هاماً اقتصادياً وسياسياً .
كانت التجربة التعاونية التي وصفها بأنها: “هي المبادرات الشعبية الصادقة التي نعتز بها، والتي نحثّ على دفعها إلى الأمام، لكي تستطيع أن تجدد في أعمالها وإنتاجها صورة حقيقية لطموحات وآمال شعبنا في كل مناطق اليمن” (ص ١٠ خطب وتصريحات الرئيس). وقد كان لتجربة التعاونيات دوراً حيوياً فعلاً في إحداث تحوّل تنموي ملموس في الأرياف المحرومة والمعزولة، وعمل على توفير ضمانات نجاحها واستمراريتها من خلال ربطها بالقاعدة الشعبية، بحيث كان العنصر البشري هو وسيلتها وغايتها، فقد كانت مظاهر التنمية المحدودة تنحصر في العاصمة صنعاء، مما زاد من عزلة أطراف البلاد وتهميشها، فلا خدمات تعليمية ولا صحية ولا مياه ولا طرقات، ولا أي مظهر من مظاهر الحياة ووسائلها البسيطة، فرسَم للحركة التعاونية خطة طموحة لعملية تنمية قصيرة المدى لإنجاز أهم المرافق الخدمية، وهي المدارس ومجانية التعليم وتوفير الكتاب المدرسي في كل قرية ومدينة، والمستوصفات والوحدات الصحية، وشق الطرقات الفرعية وإقامة مشاريع مياه الريف. وكل هذه تمثل أهم الخدمات الأساسية لمحاربة الجهل والأميّة وإحداث التحول والتغيير من خلال نشر التعليم، ومحو الأمية، ورفع مستوى الوعي الصحي من خلال المراكز الصحية، وتوفير المياه النقية، وتسهيل التواصل، وكسر العزلة بين المناطق الريفية والعواصم بشق الطرقات الرئيسية والفرعية. ولضمان استمرارية الحركة التعاونية، خصص لها نسبة ٧٠% من موارد الزكاة وكانت تكاليف إقامة تلك المشاريع توزع على ثلاث جهات:
كان الجانب الاجتماعي والإنساني يأخذ حيزاً واسعاً في فكر وتوجه إبراهيم الحمدي، وكان أول حاكم يفتح المدارس والكليّات العسكرية للمهمّشين، ويمنحهم حق تولي الوظائف العامة، ويخصص أراضي لإقامة مساكن لهم
استطاعت التعاونيات أن تحقق قفزة كبيرة في إقامة المدارس والمستوصفات والوحدات الصحية، وشقّ الطرقات الفرعية، وإقامة الحواجز المائية لتوزيع مياه الأمطار، وعملية التشجير، والتنمية الزراعية، والحدّ من زراعة القات.
كما أسهمت في تخفيف الظلم الاجتماعي عن كاهل المواطن الضعيف من خلال جعل الزكاة أمانة، وإلغاء وظيفة المخمّن (المثمِّن)، ومنع الإتاوات وأجرة العسكر وتكاليف العدالة القضائية، والحدّ من التطويل في نظر القضايا أمام المحاكم وتنفيذ الأحكام، ثم في محاربة قضايا الثأر، ومنع التخرجات القبلية، وتحديد المهور، وفرض عقوبات على مخالفيها لتمكين الشباب من الزواج والاستقرار في حياتهم الاجتماعية والنفسية والعائلية. وكان لتلك المبادرات والإجراءات دورها في جلب الشعور بالأمان والاطمئنان إلى نفوس المواطنين إلى حدّ انحسار ظاهرة الثأر والتخلي عن حمل السلاح في المدن والأرياف، بل والتخلص من الأسلحة الشخصية وبيعها بأرخص الأثمان.
ربط المغتربين بعملية التنمية داخل الوطن
كنا في زيارة للمغتربين في أمريكا وعدة بلدان أوروبية وعربية أوائل عام ١٩٧٧، وفي لقاء جمعنا بالأخ السفير حينها المرحوم يحيى المتوكل، وكان عائداً لتوّه من اجتماع له بمدير البنك الدولي، فوجئنا بالأخ السفير يقول: “تخلصت بصعوبة من موقف محرج مع مدير البنك الدولي، فقد كان مصرّاً على أن تقرض اليمنُ مصرَ خمسمائة مليون دولار بحجة ارتفاع الاحتياطي النقدي لليمن من العملة الصعبة”. شرح الأخ السفير لمدير البنك عجز اليمن عن تلبية ذلك الطلب بأن تلك الأموال تعود لبيوتات وشركات تجارية ومدّخرات مغتربين يمنيين في الخارج، وأن ذلك سيؤدي إلى حرمان اليمن من المساعدات والقروض المعفية، وسيرفعها من درجة الدول الأقل نمواً الى درجة أخرى لا تحصل على الامتيازات التي تحصل عليها الآن. وقد نجح السفير في إقناع مدير البنك.
كان الجانب الاجتماعي والإنساني يأخذ حيزاً واسعاً في فكر وتوجه إبراهيم الحمدي رحمه الله. فقد كان أول حاكم يفتح المدارس للمهمّشين، ويفتح لهم الكليّات العسكرية، ويمنحهم حق تولي الوظائف العامة، ويخصص أراضي لإقامة مساكن لهم. كما خصص للمغتربين مجمّعات صناعية، وفتح لهم أبواب الاستثمار والمساهمة في بنوك التسليف الزراعي والصناعي والإسكان، وكانت مساهماتهم عالية جداً. وكذلك خصّص أراضي لإقامة مدن سكنية للموظفين والعمال والمغتربين العائدين من فيتنام وإثيوبيا جراء الحروب التي شهدتها تلك البلدان، بل وجّه بتسيير رحلات جوية لنقلهم، وقد كُلّفتُ والمرحوم علي محمد القطري بالسفر إلى السودان للإشراف على نقل العائدين من إثيوبيا، وكان الطيران اليمني يشغّل رحلتين يومياً.
وحتى لا أتجاوز المساحة المسموح بها، فإنني أختتم هذا الموضوع المختصر بكلمة للرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، والتي تجسد حقيقة مشاعره تجاه وطنه وأبناء وطنه بقوله:
“بصفاء السماء وبسمة الشروق، ورحابة البحر؛ هكذا أحب وطني، وأحب كل مواطن فيه. كل مواطن هو أخي وحبيبي، وسعادتي أن أراه حرّاً سعيداً، وإنساناً منتجاً قادراً وليس عالةً على أحد، ولا يطلب الاستجداء من أحد، يجب أن نعتمد على أنفسنا ونبحث في كوامن القدرة في أعماقنا، وسنجدها لأننا شعب كريم وعظيم” (ص242 أروى محمد ثابت).