ليست الأيام إلا نحن، فكل يوم في حياتنا يتأرجح وجوده بين ألمٍ وأمل، والأيام لا تكتسب قيمتها ولا اعتباريتها إلا من خلال ما وثَّقته من أحداث حياتنا، وما اختزلته من تاريخ وجودنا. وقد فطن العرب قديماً لمفهوم التاريخ من خلال ما سموه بأيام العرب، تعبيراً عن الوقائع والأحداث والمعارك. حتى صار مصطلح “الأيام” تعبيراً عن حركة التاريخ.
لا يمكن الحديث عن 13 يونيو/ حزيران، دون أن يتوهج ذلك اليوم من عام 1974، ودون أن يُفتح الباب لذكرياتٍ خضراء وأخرى دامية. ففي هذا اليوم ولد حلمٌ يمني بدولة المواطنة، التي بشَّرت بها ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، ولم تستطع أن تحققها، بفعل تكالب وتألب أعداء الثورة على الجمهورية الوليدة، وتحويل الصراع من صراعٍ لتحقيق أهداف الثورة إلى صراعٍ على المشروعية بين الجمهورية، والملكية التي أطاحت بها الثورة، ثم إلى صراع على الدولة.
وقد جاء يوم 13 يونيو/ حزيران 1974، ليكون يوماً مفصلياً في مسار الجمهورية، حيث أعلن إبراهيم محمد الحمدي انقلاباً على الرئيس عبدالرحمن الإرياني، وأمسك بزمام السلطة معلناً “ثورة التصحيح”؛ ليبدأ عهدٌ جديد، ويضيف التاريخ فصلاً جديداً في عمر الجمهورية.
هذا الارتباط بين يوم 13 يونيو/ حزيران، والوجدان الجمعي، يختزل الجانب التراجيدي في سردية التحرر الوطني، ويوجز جوهر الصراع الذي خاضته شعوب العالم النامي، وهي تكافح للدفاع عن وجودها، والعمل من أجل اللحاق بالعصر.
ويكاد يوم 13 يونيو/ حزيران، في الذاكرة اليمنية أن يُسمَّى يوم إبراهيم الحمدي، فقد صارت لهذا اليوم دلالته السياسية والعاطفية بالنسبة لليمنيين الذين وُجدوا في حقبة إبراهيم الحمدي، وقد كان تجديداً للحلم بالمواطنة المتساوية، وإمكانية تحقيق الذات.
وكادت حقبة الرئيس الحمدي أن تكون تاريخاً شخصياً لكل يمني؛ فكل الذين عاشوا هذه الحقبة يستعيدونها بالغبطة والحنين والحسرة على فقدانها، والسخط على أولئك الذين اغتالوا الحمدي، وأنهت مؤامرتهم مرحلةً مضيئة، وزمناً من الاعتزاز بالذات اليمنية.
وأي قراءةٍ في مفكرة المواطن اليمني البسيط، لابد أن تتوقف بقوة الشرط التاريخي عند اسم إبراهيم الحمدي، لتلمس عبره جدل الفكر بالواقع، وتلمس معنى شرعية الإنجاز.
وقد استشعر المواطنُ اليمنيُّ البسيط من خلال التغيُّر الذي حدثَ في حياته المعيشية أهمية الدولة، ودورها في البناء والتنمية؛ وكأنَّ يوم 13 يونيو/ حزيران، كان يوم رد الاعتبار للدولة. فمع هذا اليوم بدأ الشعب اليمني مع قائده إبراهيم الحمدي معركة استرداد الدولة التي نهبتها مراكز القوى المشيخية، واستعادة القرار السيادي لصالح المواطن اليمني من المحاور التي كانت تتصارع وتتنافس على السلطة والثروة والعمالة للخارج.
وقد تميَّز إبراهيم محمد الحمدي بالمسؤولية والحزم والجدية في إدارة الدولة، وتوفَّر على قدرٍ كبيرٍ من الوعي بخصائص الواقع، ومن الخيال الذي مكَنه من التخطيط والإرادة التي مكَّنته من التنفيذ، وقد وضع ما عُرف بـ”الخطة الخمسية”، واتسع برنامج التنمية ليشمل إنشاء التعاونيات وشق الطرق والتوسُّع في التعليم، ودعم الإنتاج الزراعي، وبناء القوات المسلحة.
الوقوف عند 13 يونيو/ حزيران، يستدعي النظر في تاريخ المجتمع اليمني، فكل ما يُقال عن كونه مجتمعاً غير مؤهلٍ للتطوُّر، تدحضه وقائع حقبة “ثورة التصحيح”، فحين وُجدت القيادة السياسية المسؤولة، وُجد معها المشروع الوطني
وتزامن مع هذا انفتاح اجتماعي، ونزوع لتحديث المجتمع بالتوجه لتسييد القانون، والانتصار للحريات، والحد من نفوذ القبيلة، وانتهاج سياسة إزالة الفوارق بين اليمنيين. وكان أبرز قرار اتخذه الحمدي في هذا السياق أنْ جعل لقب “الأخ” في المخاطبات الرسمية وأدبيات الدولة، صيغةً رسمية تُلخِّص محاولته لإيجاد رابطة جامعة وعابرة على كل الروابط العنصرية والطبقية والتراتبية المجتمعية التي بنتها سلطة الإمامة على مدى قرون من تاريخ اليمن.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية، سعى الحمدي لتصحيح علاقاته بدول الجوار، لاسيما جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية التي تشكل الشطر الآخر من اليمن الكبير، وعمل، مع قيادة دولة الجنوب حينها، على إزالة رواسب الصراع والتهيئة لقيام الوحدة الوطنية وإنهاء التشطير.
والوقوف عند 13 يونيو/ حزيران، يستدعي النظر في تاريخ المجتمع اليمني، فكل ما يُقال عن كون المجتمع اليمني غير مؤهلٍ للتطوُّر، تدحضه وقائع حقبة “ثورة التصحيح”. فحين وُجدت القيادة السياسية المسؤولة، وُجد معها المشروع الوطني؛ وحين لمس اليمنيون خطواتٍ جادةً وحثيثةً باتجاه تحقيق الحلم وتحويله إلى واقعٍ مادي، انخرطوا في عملية التنمية، وتنافسوا في العمل، وشاركوا في التنمية بحبٍ وتفانٍ ونكران للذات، وارتفع الوعي بدور الفرد من أجل المجموع، ونشأ عن ذلك تغيير سريع لبنية المجتمع، وتثوير واضح للواقع.
سيظل يوم 13 يونيو/ حزيران، في الذاكرة اليمنية، ذكرى مؤلمة وتوقيتاً رسمياً لاستعادة الحلم الذي اغتيل، واحتفالاً وجدانياً بالرجل الذي كان رمزاً للعمل والأمل، وقد دفع حياته ثمناً لتفانيه في حب شعبه، والتزامه بمصلحة وطنه وإعلاء مبدأ المواطنة.
وعلى امتداد العقود التي مرَّت من زمن الشعب اليمني المثخن بالحروب والخيبات، ظل الحمدي حياً في الوجدان، حتى ارتفع به المخيال الشعبي إلى مصاف الأسطورة، واتخذه أيقونةً، وصار الحديث عن الحمدي يكاد يُرادف الحديث عن الدولة.
وحين جاءت ثورة 11 فبراير/ شباط 2011؛ لتنهي عقوداً من الاستبداد والفساد، كان استحضار الرئيس الحمدي في المسيرات والتظاهرات والاحتجاجات، برهاناً على وفاء الشعب اليمني لرموزه الوطنيين.
رفعت الجماهير الثائرة صور الحمدي تعبيراً عن حبِ حقيقي لم تستطع السنوات أن تنتقص منه، ولم يستطع زمن الطغيان والفساد أن يمحوه من ذاكرة الأجيال التي توارثت حبه.
ورأت في رفع صوره إعلاناً بأنَّ الحلم لم يمت، وأن الدولة المنشودة تبدأ من حيث انتهت، مع الرجل الذي ما يزال اسمه علامةً على أن الإرادة تصنع الريادة، ودليلاً على أن التاريخ يُمكن أن يُصنع محلياً.
وقد كان يوم الـ11 من أكتوبر/ تشرين أول عام 1977، يوم اغتيال الحمدي، يوماً مشؤوماً شكَّل نهاية الحلم الذي بزغ مع 13 يونيو/ حزيران 1974، وسيظل هذا اليوم جرحاً غائراً في الوجدان الجمعي، بل يكاد أن يكون ثقباً أسود يبتلع كل الرؤساء اليمنيين، ويضعهم قسراً في مقارنة مع الحمدي.
سيظل يوم 11 أكتوبر/ تشرين أول من عام 1977، يوماً دامياً، يقطر كآبةً وحزناً، على اغتيال الحلم الذي كان عمره ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وانطوت بانطوائه صفحةٌ مضيئة من كتاب التاريخ اليمني المعاصر.