كانت سبعينيات القرن الماضي موسم تفتح أزهار ثمار الـ 26 من سبتمبر/ أيلول 1962، والرابع عشر من أكتوبر/ تشرين أول 1963. ورغم انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين ثاني 1967، إلا أن خريف اليمن، بل خريف صنعاء الذي يبدأ في الـ13 من يوليو/ تموز، قد أزهر وأثمر.
الخريف في اليمن موسم الزراعة في تهامة، ونضج الثمار فيها، وموسم الفواكه في صنعاء. فقبيل فجر يونيو/ حزيران 1974، تزاحمت سحب شتاء نوفمبر/ تشرين ثاني، ورياح سبتمبر/ أيلول اللواقح؛ فقد سيطر كبار شيوخ القبائل، وبدأوا في تفكيك اليمن وتحويلها إلى إمارات. فالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر له السلطة في صنعاء، ومجاهد أبو شوارب في حجّة، وسنان أبو لحوم في الحديدة، وأحمد عبدربه العواضي في تعز، واستولت السعودية -عبر الإسلام السياسي- على التعليم، والأوقاف، وخطاب المسجد، والتوجيه في الجيش والأمن، وأعادت صياغة مناهج التعليم، وشرعت في التدخل في الشأن الداخلي اليمني بشكل سافر وفجّ؛ وهو ما عانى وشكى منه القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس الجمهورية حينها، ورئيس الوزراء محسن العيني.
وفي القاع بدأت بذور سبتمبر/ أيلول في النمو والإزهار: الحزب الديمقراطي الثوري، واتحاد الشعب الديمقراطي، وحزب العمال والفلاحين-العمل لاحقاً-، والتنظيم الوحدوي الناصري، وبرز النشاط الأدبي والثقافي: اتحاد الأدباء والكتاب، وازدهرت الصحافة، وتصاعد مد اليسار القومي والماركسي، وعلى المستوى الإقليمي والدولي، انتصرت حركات التحرر في غير قارة.
تعاظم دور حركة عدم الانحياز، ونشطت دور النشر والمطابع في الوطن العربي، وكان لمصر وسوريا والعراق ولبنان والكويت دور كبير في نشر الأدب والثقافة.
في اليمن صدرت المجلات: «الحكمة»، و«الكلمة»، و«اليمن الجديد»، و«الثقافة الجديدة»، و«الغد»، و«الرسالة»، و«الوحدة»، وبرزت الملاحق الأدبية، وتأسست العديد من النقابات، والاتحادات الطلابية والعمالية، وازدهر النشاط التجاري والثقافي والتعاوني.
في رأس “سلطة نوفمبر”، برز الخلاف بين قادة الجيش والمشايخ، خصوصاً بعد حرب 1972، بين الشمال والجنوب، وصدور “اتفاقية القاهرة”، و”بيان طرابلس”، وهما الوثيقتان المؤسستان للوحدة اليمنية.
بلغ العجز والفساد الذروة، وتصاعدت دعوات الوحدة، وبدأ التململ في الجيش، وتصاعدت موجة الكفاح المسلح في المناطق الوسطى بدعم من الجنوب. في هذه الفترة تبنى الضابط المقدم إبراهيم الحمدي دعوة الإصلاح المالي والإداري، وبدأت حركات التعاون خصوصاً في مناطق تعز.
الضابط الحمدي، قائد الاحتياط العام، ليس بخريج مدرسة عسكرية، ولا ينتمي إلى قبيلة، وحسبه ونسبه في المدنية، والقضاء، والثقافة، ورغم ذلك حظي بنفوذ واسع في الجيش لدعوته للإصلاح، وفي الحياة العامة لدعوته للتعاون، وبناء مؤسسات الدولة.
السعودية- ذات النفوذ الواسع في وسط المشايخ وكبار الضباط- بدأت تضغط لإزاحة القاضي الإرياني بواسطة الشيخ الأحمر، والقاضي عبدالله الحجري، ولكنها -في الوقت نفسه- كانت تدرك عجز المشايخ عن بناء قوة لمواجهة اليسار في الجنوب، والتيار الديمقراطي في الشمال. فإذا كان الإرياني متهماً بالممالأة لهذه الاتجاهات، فإن المشايخ بعنجهيتهم وتخلّفهم عاجزون عن المواجهة، وفشلهم في حرب 72، وتهافتهم في الحرب ضد الثورة -حرب السنوات السبع، والانكسار في حصار السبعين- كلها ترجح الميل السعودي لقوة عسكرية تزيح تيار القاضي -البين بين- كما سماه الشاعر الرائي عبدالله البردوني، والحدّ أيضاً من سلطة المشايخ الشائخة والفاسدة؛ فكان المقدم إبراهيم الحمدي نجم المرحلة، وهو في الأساس معبر عن إرادة شعبه عامة؛ للخلاص من المشايخ، وفساد الحكم وضعفه.
تأتي الذكرى الـ46 لحركة 13 يونيو/ حزيران 1974، واليمن تعيش أسوأ المراحل، وتشهد أسوأ كارثة عرفها العصر. وقد شوهت الصراعات السياسية، والخلافات الأيديولوجية القراءة الصائبة للحركة
تلاقت في صعوده عدة إرادات: إرادة شعبية عامة، ورغبة سعودية للخلاص من بعض أتباعها، والقبول بحكم عسكري يواجه الجنوب، ويحجّم نشاط اليسار والتيار القومي.
بذكاء مدهش ركزت حركة يونيو/ حزيران، على الإصلاح المالي والإداري، وتبني التعاونيات التي بدأت قبل “يونيو”، وبناء جهاز ومؤسسات الدولة والجيش الوطني، وكان التيار الغالب في الأحزاب الحديثة إلى جانب الحركة التي لقيت استجابة شعبية عارمة.
بعد الحركة بأسابيع نزل المقدم الحمدي لزيارة الحديدة. حينها جرت انتخابات المجلس البلدي، فنجح الشباب، منهم -كما أذكر: فتح الأسودي، والدكتور عبدالوهاب مكي، وأبو القصب الشلال، وأحمد مثنى، والدكتور علي الحقاري، ولكن لم يُعترف بالنتيجة.
رتب لنا الأستاذ محمد النزيلي –سكرتيره الخاص حينها- لقاءً معه؛ بناءً على طلبنا. التقيناه في دار البوني: أبو القصب، ومحمد سعيد مهيوب، وأمين عبدالدائم، وربما أيضاً فتح الأسودي، وأنا.
في اللقاء الذي استمر أكثر من ساعة، طرحنا المشاكل الموجودة في المحافظة (الحديدة)، وتفشي الفساد، وغياب النظام والقانون، وركزنا على رفض الاعتراف بنتيجة انتخابات المجلس المحلي لمدينة الحديدة التي فاز فيها الشباب. ومن جانبه، تطرق الرئيس الحمدي للصعوبات التي تواجه الحركة الإصلاحية، وتحدي مراكز القوى، طالباً تقدير الأوضاع، وتعاون القوى الوطنية والشباب. أشدنا بالحركة، وتقدير الشباب للتحديات التي تواجهها، وأكدنا على مطلب التوجيه بالاعتراف بانتخابات المجلس، مشيرين إلى أنَّ الأستاذ علي مقبل غثيم -مدير المباحث في الحديدة-، والأخ عبدالكريم حمود -مسئول مكتب الشئون الاجتماعية والعمل في الحديدة- هما من أشرف على الانتخابات؛ فوعد بالتوجيه.
شهدت الحركة في الأعوام الثلاثة وبضعة أشهر اللاحقة، حالة مدّ وجزْر، ولكنها حققت إنجازات مهمة، خصوصاً في الإصلاح المالي والإداري، وبناء مؤسسات حديثة، ومدّ التعاونيات إلى مختلف مناطق الشمال، وبناء المدارس، ومدّ المياه والكهرباء إلى القرى النائية والمذرورة، ونسج علاقات متينة بالمغتربين، وبالطلاب والشباب، وصدور تشريعات مهمة لبناء جهاز الدولة، وتهدئة الصراع في المناطق الوسطى بالتنسيق مع الرئيس سالم رُبيِّع علي في الجنوب، وإتاحة الفرصة للنقابات العمالية والمهنية، والسماح لها بالنشاط، كالاتحاد العام لعمال اليمن، ونقابة الأطباء، ونقابة المهندسين، وجمعية الصحفيين والمحامين. ففي العام 1976، انتخبت قيادة نقابة الصحفيين في صنعاء برئاسة الأستاذ عبدالله الوصابي، في حين عقد مؤتمر منظمة الصحفيين الديمقراطيين في 5 مايو/ أيار 1976، وكُّلِّفَ الوصابي، وحسن العلفي، وعبدالباري طاهر، لحضور مؤتمر عدن، وقد طلب منا الجلوس في صف الضيوف، كما طلب من سعيد الجناحي أيضاً، بينما رفض عمر الجاوي الحضور.
غضب الوصابي غضباً شديداً، وأثار القضية مع قادة التنظيم. كان الانقسام في القيادة الجنوبية واضحاً، وكان الوصابي الآتي من الجبهة القومية، والعضو في الحزب الديمقراطي الثوري غير بعيد عن الصراع، إضافة إلى مزاجه الحاد. وكان يرى، ومعه الجاوي، وأحمد قاسم دماج، ضرورة توحيد جمعية ومنظمة الصحفيين، أسوة باتحاد الأدباء، ولكن تبريرات اختلاف مهام وطبيعة العمل الصحفي اليومية والسياسية المباشرة لا تسمح بالتوحيد؛ لاختلاف النظامين، وتم التوصل إلى توحيد التمثيل عربياً ودولياً.
في مطار صنعاء، أخذنا الأمن من المطار مباشرة إلى القيادة العامة، وتحديداً إلى مكتب الرئيس. قال الحمدي: كان الأمن يريد اعتقالكم، ولكني قلت لهم: إن الاعتقال للخارجين على النظام والقانون، وليس للمناضلين. احتد النقاش بين الحمدي والوصابي، وصدر ما يُفهم منه التهديد للوصابي؛ فرد الوصابي: “الإمام يقطع الرأس، وأنت اقطع من الوسط”، وكان الغشمي حاضراً؛ فقال الحمدي للوصابي: “لا يصلح سيفان في غمد”.
عرفنا أن هناك تنسيقاً بين الرئيسين: سالم رُبيِّع، وإبراهيم الحمدي؛ فترك الوصابي صنعاء، وواضح أنه تعرض للتهديد، ونُصح بالمغادرة.
تلج اليمن أو تمر بالذكرى الـ46 لانبلاج فجر الـ13 من يونيو/ حزيران 1974، واليمن تعيش أسوأ المراحل، وتشهد أسوأ كارثة عرفها العصر. وللأسف الشديد، شوهت الصراعات السياسية، والخلافات الأيديولوجية القراءة الصائبة للحركة، كما لم تدرس إنجازاتها في التنمية، والاهتمام بالبناء والتحديث، والتقنين، والتشريع، وطُمِسَ طموح الزعيمين: ربيِّع والحمدي، لبناء الدولة اليمنية. وإذا لم نقرأ جيداً دلالات وأبعاد انقلاب صالح ضد “يونيو”، و”سبتمبر”، و”أكتوبر”، في هذه الذكرى المجيدة- فلن نقدر على قراءة الحدث.