في واحدة من أقسى دلالات نكران الجميل والظلم لحالة العاملين في المؤسسات اليمنية الحكومية، ينهي العامل عوض زيد (60 سنة) خدمته في المرفق الصحي الذي أفنى فيه شبابه دون الحصول على وظيفة رسمية.
عوض زيد من سكان بلدة “جديمة” الساحلية برأس العارة شمال محافظة لحج، تبلغ سنوات خدمته في هذا المرفق، قرابة ثلاثين سنة، قضاها في العمل الدؤوب وانتظار الوعود التي بليت وذهبت جميعها أدراج الرياح. بعد ثلاثة عقود من امتصاص نشاط الرجل الذي يصفه العاملون والزائرون لمستشفى رأس العارة الريفي، المتاخم لباب المندب، بالإنسان الخدوم، بحيث لا تقتصر خدماته طبيعة عمله فقط، بل يقدمها للعاملين والمرضى، سواء من أهالي المنطقة أو من خارجها.
في مارس 1990، بدأ الحاج عوض زيد العمل في المرفق الصحي القديم برأس العارة متطوعاً كحارس للمرفق وأدواته. كما أضيفت لمهامه خدمات توفير احتياجات العاملين والمستشفى، وظل خمسة أعوام في المرفق القديم حتى انتقل إلى المستشفى الحديث ليعمل متطوعاً دون أي مقابل على أمل الحصول على وظيفة رسمية. طالما ظل محتاجاً لهذه الوظيفة لتأمين متطلبات الحياة لعائلته المكونة من خمسة أفراد. في العام 1995، تجددت آماله على إثر نقله إلى المستشفى الذي تم بناؤه حينها، لكن دون جدوى. مع ذلك، فقد كان يقضي طيلة النهار خارج منزله وفي بيته الجديد مرفق عمله.
يقول العم عوض لـ”خيوط” إنه منذ 30 سنة، لم يغِب يوماً واحداً عن مهامه الموكلة إليه، وأن مستشفى رأس العارة الريفي صار له بيتاً ثانياً يقضي فيه حياته اليومية بين أقسامه المختلفة، حيث ينطلق كل صباح بعد صلاة الفجر من بلدة جديمة شرق العارة، والتي تبعد 8 كيلو مترات عن المستشفى، من أجل القيام بواجبه؛ يقوم بتفقد المولد الكهربائي الخاص بالمستشفى، وأدوات العمل في الأقسام، وتوفير ما ينقص منها حالاً، خاصة بعد أن تعاقد معه المستشفى في أكتوبر/ تشرين أول 1995. غير أن العقد ظل حبراً على ورق.
يتبع مستشفى رأس العارة، مكتب وزارة الصحة العامة بمحافظة لحج، لكن المقابل الذي ظل زيد يتقاضاه طيلة 25 سنة، لم ينتظم كراتب ثابت. كما ظل المبلغ لا يتجاوز 10 آلاف ريال، بينما بقي العقد فقط، بمثابة صكّ للحصول على الوظيفة الحكومية التي لم ينلها بعد، وربما يغادر الحياة دون أن يحصل عليها. إنه يبدي حسرته على ضياع شبابه وعمره في جنبات المستشفى دون تحقق وعود التوظيف، التي مُنحت لعشرة ملفات، والتوجيهات التي لم تتجاوز الأوراق التي كتبت بها.
مرت الأعوام وهو أسير هذه الأوراق والمذكرات التي قال إنه قد يحرقها قريباً ما دامت لم تفده بشيء غير الحسرات التي تركتها في قلبه بعد هذا العمر الطويل.
ويتابع عوض حديثه: “طيلة ثلاثين عاماً لم أجد وظيفة أو مقابلاً للخدمة في المستشفى، وأفضل مبلغ مالي استلمته كان ثلاثين ألف ريال، عبر إحدى المنظمات العاملة في المستشفى، أما الجهات المختصة والعليا، فلم تعطني غير الوعود”.
وهكذا مرت السنوات وهو أسير هذه الأوراق والمذكرات التي قال إنه قد يحرقها قريباً ما دامت لم تفده بشيء غير الحسرات التي تركتها في قلبه بعد هذا العمر الطويل. كما أنه يعتبر عدم توظيفه نكراناً للجميل، مقارنة بما قدمه لمرفق يتبع مكتب وزارة الصحة العامة.
في ذات السياق يقول العامل في مستشفى رأس العارة ،عامر سلطان أن الحاج عوض زيد بمثابة أحد الأركان التي يعتمد عليها المستشفى في ترتيب العمل فيه. وأضاف في سياق حديثه لـ”خيوط” أنه منذ وصوله للعمل في المستشفى موظفاً بقرار حكومي عام 1998، كان حينها عوض عاملاً. لكن عامر تفاجأ بعد هذا العمر أنه ليس موظفاً رسمياً، رغم أنه ظل طيلة العقدين الماضيين من وجوده في المستشفى يقوم بأدوار تتجاوز مهامه. وتابع: “هذا يدل على الإخلاص الذي يتمتع به العامل عوض زيد في المستشفى، ناهيك عن أخلاقه الجمة تجاه الزوّار والنازحين الذين يصلون المستشفى، حيث كان يعمل على استضافتهم في غرف المستشفى وتوفير ما يلزمهم تقديراً لظروفهم الإنسانية”.
يحتفظ الحاج عوض زيد بعشرات الرسائل والمذكرات الموجهة من مستشفى رأس العارة الريفي، ومكتب الصحة بالمديرية، إلى مكتب وزارة الصحة العامة والسكان ومكتب الخدمة المدنية بلحج، وجميعها توصي بأحقيته في التوظيف. تم تقييد ملفه في الخدمة المدنية بلحج، لكن دون جدوى. ومرّت السنوات حتى بلغ الحاج عوض زيد سن التقاعد دون أن يتحقق حلمه بالحصول على الوظيفة الرسمية، أو مقابل “نهاية خدمة”، وهو حالياً في حيرة بين الاستمرار غير المجدي، أو التوقف عن العمل بشعور ثقيل بضياع العمر.