تراكمت خلال عشرات السنين مبادئ ومعايير باتت في حكم البدهيات، يمكن من خلالها التفريق بين منصات الدعاية ووسائل الإعلام. ومنذ أول لحظة لولادة فكرة الصحافة أخذت مفاهيمها وقيمها ومعاييرها ووظائفها وتأثيراتها وتقنياتها ووسائلها في التطور، كجزء من التطور التاريخي للمجتمعات وتقدمها، لترسخ وجودها في المفاهيم الجديدة، بقيمتين أساسيتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضاً؛ الحرية والاستقلال، وما كان لذلك أن يحصل إلا من خلال معايير واضحة وصارمة، تتضمن التمويل المستقل واللامشروط والإدارة الحرة، والأداء المتسق في جميع الظروف والمتغيرات.
وفيما رزحت مجتمعاتنا بغالبيتها في العزلة، خارج هذه الشروط، شأنها في ذلك شأن المجالات الأخرى، كُرّس “الإعلام” في خدمة الصراع والإعلاء من شأنه وبالتخادم مع عوامل محلية وأخرى إقليمية ودولية، ما قوّض التراكم الذي بُني بمشقة ولعشرات السنين في جهود التحول الديموقراطي، فتحولت منصات “نقل الحقيقة والشهادة عليها” إلى “أوعية دعاية” في الطريق المفخخ إلى الحرب بالوكالة.
في الشأن اليمني، يتجلى هذا الأمر بوضوح، فمع السيولة والوفرة في المال السياسي للأطراف (الخليج/ إيران) المتقاتلة بالوكالة، أُنهك الفضاء العام بعدد مهول من قنوات فضائية ومواقع إلكترونية، لا هدف لها سوى إذكاء الاقتتال، وليّ عنق الحقيقة، بما يطيل أمد النزاع، ويبدو أنها حققت جزءاً من مسعاها.
ووسط حالة الاستقطاب والفرز الحادّين، وجدت وسائل الإعلام المستقلة نفسها تكافح بإمكانات محدودة للوصول إلى الجمهور، والتفاعل مع وعيه وضميره بمسؤولية، من خلال إثارة الأسئلة والبحث في مأزق الأزمة والمشاركة البناءة في تعريف السلام، وسط عوائق عدة ليست أقلها صعوبة الحملات المضادة المنظمة، والتي تبدو هلعة أكثر من اللازم، باعتماد منطق تهييج الغرائز واعتماد اليقينيات ولغة التكهنات والتحليلات التي لا تبنى على ما هو حادث، ولكن على ما يجب أن يكون. تتضافر في ذلك الإمكانات الضخمة لدول متخمة بجماعات غاشمة منفلتة، وسلطات شمولية فاسدة، ضلت جميعها الطريق الصائب إلى المصلحة العامة، فاعتنقت -بدلاً من ذلك- الخراب.
فجوة كبيرة
وإن كان التنافس من سمات هذا العصر، بعد سقوط العالم متعدد الأقطاب وانتهاء الحرب الباردة، إلا أن السباق بين وسائل الإعلام المستقلة الناشئة ووسائل “الدعاية المنظمة” المرتبطة بمحاور الصراع ومحرّكي دفته، غير متكافئة على مختلف مساحات الفضاء العام. كما أنه لا توجد مساحة للمقارنة في الموارد والإمكانات، ليبقى ماراثوناً بين متسابقين، يمنح الأول دراجة نارية حديثة، ويقيد الآخر بشرط السباق بقدميه، وهذا لا يقلل من قيمة وجدوى وأثر المبادرات الخلاقة لوسائل إعلام مستقلة حققت نجاحات متواصلة وحضوراً أوسع كل يوم، وهي نجاحات تتأسس على جهود مضاعفة لطواقمها ودأبهم المتواصل.
تظهر هنا، على سبيل الذكر لا الحصر، منصات، “درج”، و”رصيف 22″، و”مدى مصر”، و”منشور”، و”السفير العربي”، و”الجمهورية”، و”خيوط”، والتي استطاعت داخل كل هذه الفوضى والحرائق، أن تسجل حضوراً لافتاً في أمد قصير، من خلال مقاربتها مختلف القضايا بكفاءة ومهنية، مع أنها على ما حققته من بروز، لا تزال تواجه حزمة اختبارات صعبة في الاستمرار، وتثبيت حضورها وضمان ديمومته.
تظهر الوسائل هذه المنصات من الدعاية المحمومة، والذباب الإلكتروني المستشرس، ليبقى مجرد الحديث عن الدولة، والمواطنة، وسيادة القانون والعدالة والمساواة، شيئاً مفرغاً من معناه، أو مخاطرة قد تقودك إلى الموت أو السجن، أو التشهير في أفضل الأحوال
لكن أيضاً، لا يمكن إغفال ما تحققه وسائل “الدعاية”، ومحركو دفتها، من انتشار، بقدرتها على المراوغة في كسب مزيد من الجمهور الذين كانوا حتى وقت قريب خارج دائرة كتلتها الصلبة، وبالتالي تشويه وعيهم. وهي لا تكتفي بتوظيف موارد بشرية من أتباعها، بل تتجاوز ذلك لاستعارة كوادر انتهازية من تيارات مختلفة عنها، ولو حتى بشكل موقت، تحت توصيفات تقتضيها الحاجة، فنرى بين حين وآخر تفريخ وجوه جديدة بتوصيفات وظيفية، هي لسان حال الممول ومبتغاه. وهكذا أصبح محللون ونشطاء وخبراء، بهذه التوصيفات الفضفاضة، ذوي حظوظ فضلى، تتجاوز أهمية ما للصحافي من قيمة، باعتباره جامع معلومات وشاهداً على صدقيتها.
وتعتقد وسائل “الدعاية” تلك، واهمةً، أن بإمكانها ردم الفجوة الكبيرة في مركزها العام الذي يفتقر إلى المهنية وقيم الدقة والنزاهة والموضوعية، وهي في حكم البدهيات، والتعويض عن ذلك بالتقنيات الشكلية والتجهيزات الضخمة، لتظهر السيولة النقدية القادرة على الإبهار، وكأنها معادل موضوعي للغياب الحاد، لأدنى مقتضيات العمل الإعلامي والصحافي.
هناك أيضاً حيل أخرى، لتكريس المال السياسي لوجوده، ففي السنوات الأخيرة، مع تصدر مواقع التواصل الاجتماعي كمنصات متاحة للترويج، غزت أسراب من الذباب الإلكتروني الحقيقي والآلي، والجيوش الإلكترونية فضاءنا العام المزدحم، وكان لها أيضاً أن تستفيد من خاصية الوصول السريع المدفوع، لتقوم الخوارزميات بواجب إسداء خدمة إيصال المحتوى إلى المدى الذي يقرره الدافع بسيولته، لو أننا استبعدنا جدارة المحتوى وصلاحيته، من الشروط القائمة بين أطراف، لا تنظر إلى الدعاية إلا باعتبارها سلعة، في عالم وُجد ليستهلك وحسب.
من شأن أدوات “الدفع” السهل هذه، إضافة إلى عوامل أخرى، أن تتيح مساحات أكبر للنظم المتسلطة والمستبدة والتي تنحو منحى شمولياً، ومراكز القوى التي تتربص بالمصالح العامة للناس، والجماعات الدينية التي تطمع بأن تسود بـ”التمكين”، بعدما أمّنت شبكات التواصل الاجتماعي مساحة لبث تطلعات التغيير، ومنصات للتحشيد والتظاهر والاحتجاج، للأصوات المدنية المستقلة، محدودة الموارد والإمكانات. لكن بعدما أزيحت أنظمة كثيرة، استفاق الوعي الذي أتت عليه حركات التغيير، ليعيد الكرة على القوى المتطلعة لغد أفضل، لكن باستشراس أكبر.
ومع نجاح هذه القوى، والكثير منها تقليدي، في إجهاض مشاريع التحول الديموقراطي، التقطت الأنظمة القمعية والشمولية الفرصة، فاستعادت عافيتها وفاعليتها القمعية. وتحالف في ذلك حلفاء دوليون مع إقليميين ومحليين، ليندمجوا مع بعضهم بعضاً في بوتقة واحدة، بإرادة قوامها الحرب، ونتاجها الخراب، لتبدو الأهداف على هذا النحو الغامض والعبثي، وتظهر وسائل أخرى، إلى جانب الصواريخ والقنابل والألغام، وهي هذه المنصات من الدعاية المحمومة، والذباب الإلكتروني المستشرس. وبذلك يبقى مجرد الحديث عن الدولة، والمواطنة، وسيادة القانون والعدالة والمساواة، شيئاً مفرغاً من معناه، أو مخاطرة قد تقودك إلى الموت أو السجن، أو يبقى دعاتها هدفاً لحملات التشهير والترهيب والإساءة في أحسن الأحوال.
ولتسييج سلوك الخراب، درجت وسائل “الدعاية” على حماية نفسها، بمهاجمة الأصوات المستقلة وتخوينها، كمؤسسات وأفراد، ليبدو وكأن “مفهوم” الاستقلال خطيئة كبرى، داخل “الفضيلة” المتعسفة، والتي يراد بها المزيد من الاقتتال، وبالتالي المال غير النظيف، الذي بدوره أوجد فرصاً سهلة وسريعة لمن يرومون بكسلهم الوصول إلى المغانم والظفر، من بوابة التلفيق والتدليس على الناس واقتراف الكذب بحقهم.
سمات الدعاية
تأخذ السمات العامة لأساليب الدعاية المتبعة، لإذكاء الصراع، صوراً عدة، الكثير منها يمكن القبض عليه، وتقصي أسلوبه، وحتى المؤسسات التي ترعاه، والبعض الآخر يأخذ طابعاً خداعاً، ولو بشكل موقت، لتضليل الناس وحتى الصحافيين والإعلاميين المستقلين، والذين أوقعهم ظرف الحرب تحت طائلة الحاجة.
ففي بداية الحرب، ظهرت نسخ عربية رديئة من مواقع إلكترونية وصحف عالمية مرموقة وقنوات فضائية عالمية، مع ازدهار سوق أسهم البيع والشراء بالماركات الإعلامية والصحفية، والتنافس على الدعاية، وتجميلها على أنها عين الحقيقة والمصداقية، لأنها تصدر -هذه المرة- تحت شعارات وأسماء براقة. واستطاعت هذه المنابر استقطاب أسماء صحفية، أو كتّاب مستقلين، ومع أهمية ما يكتبونه، لكنها -أي هذه الوسائل- تدعم أيضاً “الحقيقة” على أنها وجهة نظر أحادية لا تتعارض -وقتياً- مع مصالح الممولين.
في إحاطات متتالية أعلنت إدارة “تويتر” حذف 4258 حساباً وهمياً، مصدرها دولة الإمارات، كانت تروج لأخبار كاذبة بشأن حرب اليمن، ثم أعلن “فيسبوك” حذف مئات الحسابات بسبب انتهاجها “سلوكاً مزيفاً منسقاً”.
منصات أخرى، اعتمدت أسلوباً أكثر التواءً، بإخفاء منطقة انطلاقها، وبتمويل مجهول، وبسياسات تحريرية مجهولة أيضاً، ثم تبدأ بتحشيد الكتاب باتجاه الكتابة اللامشروطة، ووفق رفع القيود عن المحظورات، لتأخذ الدعاية وقتاً نسبياً تستريح به، ثم تفرض نفسها كأمر واقع على الكتّاب والصحافيين الملتزمين الذين لا بد أنهم، وبحسن نياتهم وبحكم الظرف الاقتصادي الخانق، صاروا أكثر من أسرى للمزاج السادي لأباطرة البروباغندا.
ومع ازدياد الشرخ والتباينات داخل الكيانات التي كانت موحّدة، بفعل الصراع وتحولاته، تغيرت أيضاً خارطة التمويل السياسي للأطراف المنخرطة، ما أوقع الكثير من الشباب الذين عملوا خارج قناعاتهم، ضحايا لتناقض الإرادات والمصالح. ويظهر جلياً كيف عمدت القنوات الخليجية المنخرطة في الصراع، على سبيل المثال في تعاطيها مع إحدى محطات الشأن اليمني البارزة، إلى الاستغناء عن محلليها، بعد أحداث عدن، ليكشف الانقسام الجديد، عن أن الاستقلالية قيمة لا تمكن الاستهانة بها، في احترام المؤسسات للصحافي، وفي حراسة الأخير مستقبله وسمعته.
الأمر ذاته ينطبق على المؤسسات المدعومة من الطرف الإيراني، والتي تعرضت في الفترة الأخيرة لأزمة مالية حادة بفعل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي وقع في 2015، وفرضها، إثر ذلك، حزمة من العقوبات الاقتصادية على إيران، انسحبت آثارها على وسائل الإعلام الموالية لها والعاملين فيها، وعلى رغم استمرار تلك الوسائل، إلا أنها بدت أضعف في سباقها مع منافساتها من الوسائل الموالية لدول الخليج المتصارعة معها.
تراكيب “البروباغندا”
اعتمد الخطاب الإعلامي الممول سياسياً، على اللغة الهجومية، كضربة استباقية لمنتقديه، ولمحاولة تمثل الصواب والأحقية، بعكس الإعلام المستقل، لذلك تسيّد مبكراً خطاب الكراهية الممهد للحرب، وتمت معه معاداة محاولات نقل الحقيقة، أو قولها.
وعلى سبيل المثال، في اليمن، أسبغت “الدعاية” ألقاباً كثيرة على الصحافيين والنشطاء المستقلين لوصمهم وتنميطهم، مثل “شلة خالتي فرنسا”، و”مرتزقة احتياط”، و”الشبكة الناعمة للانقلاب” و”جمعية الرفق بالقناصة” و”الطابور الخامس”، إلى جانب مسميات أخرى تحولت إلى هاشتاغات، وحملات منظمة للذباب الإلكتروني، وتورطت فيها أسماء معتبرة وباحثون ومثقفون، تحت تأثير الضغط الإعلامي، وضخ الحشود الإلكترونية، أو لمجرد تسجيل موقف مع أطراف تظهر نفسها محتكرة للحق، على أنها ثابرت بإخلاص لإلصاقه بمبدأ القوة. وارتبطت وسائل الدعاية في السياق اليمني بأسماء عواصم إقليمية مثل الضاحية الجنوبية في بيروت وإسطنبول والدوحة والرياض وأبو ظبي والقاهرة.
في إحاطات متتالية، أعلن “تويتر” حذف 4258 حساباً إماراتياً وهمياً، مصدرها دولة الإمارات، كانت تروج أخباراً كاذبة بشأن حرب اليمن، ثم أعلن “فايسبوك” حذف مئات الحسابات بسبب انتهاجها “سلوكاً مزيفاً منسقاً”. وقال “فايسبوك” إن الشبكة الثالثة التي رصدها تعمل من خلال ثلاث شركات تسويق في الإمارات ومصر ونيجيريا، انخرطت في إنشاء حسابات وهمية نشرت محتويات تتعلق بنشاط الإمارات في اليمن، وإيران، والاتفاق النووي.
وفي طابعها العام، تمكن قراءة شخصية الصحافي/ الناشط المتجلبب بـ”الدعاية” من خلال جملة من السمات، مثل الاحتماء بسلطة، أو اللجوء إلى الشخصي في القضايا والهروب من العام، واستخدام لغة مشبعة بالتعميمات والأحكام المسبقة، وذوبان المسافة الفاصلة بين المقاتل الحربي والصحافي والناشط في التغطية الإعلامية والعمل المدني، وتبني خطاب “التمكين” و”النصر” في أبجديات النشر، التخوين، والتمترس وراء قيم مثل “السيادة” و”الوطنية” لتكميم الأفواه، والانتقائية والاجتزاء، ومخاطبة الغرائز، والشللية، والمناطقية والمذهبية. وأيضاً استخدام مصطلحات تمس وحدة النسيج الاجتماعي، وتحليل الوقائع السياسية والاجتماعية بالرجوع إلى الماضي البعيد، إلى جانب كون رجل “الدعاية” حاضراً -دائماً- لقراءة الوقائع بما يخدم أيديولوجيته، ويعزز موقعه عند جماعته.