من خلال المقولة الشعبية المتداولة: "قَاهِيْهْ دِيْ صْفالْ أَمَّسَب"، يتمظهر حضورٌ مُطّردٌ للفظ: "المَسَبّ" في التداول الشفاهي للمديريتين: "ماوية" من محافظة تعز، و"الحشأ" من محافظة الضالع، وفي أجزاء من المديريات المتماسة معهما.
تتردد هذه المقولة متسمةً بخصائص المحكية في جغرافية انتشارها، فتظهر خاصيةُ ملازمةِ صوتِ (السكون) لأواخر الكلمات: (الهاء) من "قاهيهْ"، و(الياء) من "دِيْ"، و(اللام) من "صْفالْ"، و(الباء) من "أَمّسَبْ".
كما تظهر خاصيةُ اختفاء صوت (أل) التعريف القمرية من (أَمَّسَبّ/المسب)، وتحويرها إلى (أل) التعريف الشمسية غير المنطوقة.
وجاءت (دِيْ) متسمةً بتلك الخصائص التي تظهر في دلالتها على اسم الإشارة المذكر والمؤنث والجمع على حدٍّ سواء، وقد كان المفرد المؤنث هنا هو ما تشير إليه. كما تظهر تلك الخصائص في حلول صوت (الدال) محل صوت (الذال) في صيغته الفصحى (ذي/الذي).
وتشكلت اللفظة (قاهيهْ) من صوت (القاف) كبادئةٍ تحمل في المحكية عددًا من المعاني، حملت هنا معنى التأكيد، ومن ضمير المؤنث المنفصل (هي) مع إخضاعه لنظام المحكية؛ فحلت حركة (السكون) محل حركة (الفتحة) على صوت (الياء)، كما اتصل به صوت (هاء السكت) في نهايته.
وفي (صْفال) التي تعني: (أسْفَل/سُفال)، أول ما يظهر من خصائص المحكية فيها تسكين صوت (الصاد)، مجسدةً بذلك خاصيةَ اطرادِ بدءِ المحكية بساكن، وهي خاصيةٌ محكيةٌ بحتة، مغايرة للفصحى التي لا تجيز ذلك.
وظهرت خاصية تفخيم صوت (السين)، حتى صار (صادًا)، وهي سمةٌ ذات حضور في كثير من اللهجات اليمنية، وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور عباس السوسوة في كتابه "شرح المشعططات السبع" وهو يحلل بيتًا من الشعر الشعبي، بقوله عن الشاعر إنه "من القوم الذين يفخمون السين فيصيرونها صادًا، فيقول في أمثال: سكر وسلام وسيارة ووسادة وسعود، صكر وصلام وصيارة ووصادة وصعود"(1).
كما أن لهذه الخاصية مهادًا فصيحًا، وذلك حينما يكون صوت (السين) مسبوقًا بصوتٍ من أصوات الاستعلاء: (ق. ح. ث. هـ. ش. خ. ص. س. ك. ت)، فالعرب قد "أبدلوا من موضع السين أشبه الحروف بالقاف ليكون العمل من وجه واحد، وهي الصاد"(2).
يرد لفظ (المَسَبّ) في المحكية اليمنية للدلالة على عملين متراتبين في فضاء المعاني الزراعية، هما: جرفُ التربة، ثم احتواؤها؛ ومن هذه الدلالة نحَا التعبير بـ"المسب" منحى الدلالة على أداة أخرى مقصورة على خاصية الاحتواء والحفظ فقط
يتفاوت اطراد تفخيم صوت (السين) في جغرافية انتشار هذه المقولة، من منطقة إلى أخرى، فمثلًا في جغرافية المديريتين: "الحشأ" و"ماوية" تتضح محدوديةُ اطراد هذه الخاصية، باستثناء ملازمتها لبعض الألفاظ المحدودة جدًّا، والتي منها هذه اللفظة "صفال". أما في كثير من الأجزاء في المديريات المتماسة مع المديريتين يلمس السامع اطرادَ هذه الخاصية، كاطرادها في مديريات "الأزارق، وجحاف" المتماستين مع مديريتي "ماوية" و"الحشأ"، ومنهما يمتد هذا الاطراد إلى مديرية "المسيمير" من محافظة لحج، كما يمتد إلى كثير من مديريات محافظة الضالع، لا سيما مديرية "الضالع" مدينةً وريفًا، حيث تظهر هذه الخاصية على طريقة النطقِ لكثيرٍ من الألفاظ، من مثل قولهم: "غَصَّلْ/ صَكَّرْ" بمعنى: (غسّلَ/ سكّرَ)، وإذا كان معنى (غسّل) واضحًا، فإن معنى "سَكّرَ" هو (أغلق).
يرد لفظ (المَسَبّ) في المحكية اليمنية للدلالة على عملين متراتبين في فضاء المعاني الزراعية، هما: جرفُ التربة، ثم احتواؤها؛ فـ"المَسَبّ": "لوحٌ من الحديد، ويكون له يد خشبية، وتربط إلى أطرافه حبال فيعمل عليه في العادة ثلاثة؛ أحدهم يمسك باليد الخشبية ويضغط لينغرز اللوح في التربة والآخران يشدان بالحبال فتنجرف كمية كبيرة من التربة، وهكذا دواليك"(3).
ومن هذه الدلالة المتخَلِّقة في البيئة الزراعية نحَا التعبير بـ"المسب" منحى الدلالة على أداة أخرى، أداة مقصورة على خاصية الاحتواء والحفظ التي تشترك فيها مع "مسب الزراعة"، حيث تحررت من الدلالة الزراعية (الحفر والجرف). هذه الأداة، هي: "كيسٌ من جلد الغنم وخاصة جلد الماعز، يتخذ من جلد الجدي أو العنزة الصغيرة كاملًا حتى لتظهر اليدان والرجلان. وكان الرجال خاصة هم الذين يحملون هذا الكيس الجلدي الذي يقوم مقام حقيبة اليد للمسافر، وكانوا يعلقونه بسيور على أكتافهم متدليًّا على الجنب، ولم يكن يُحْملُ فيه إلا الخفيف من الأغراض أو الهدايا أو زاد المسافرين"(4). وفي ذلك إحالةٌ على خيط رفيع من الارتباط بجذرٍ فصيح ينحدر منه هذا اللفظ في مستوى من مستويات صياغته، فـ"سَبأَ الحرارةُ أو السَّوطُ الجلدَ: غيّرتْه ولوّحتْه. وـــ الجِلدَ: أحرقه. وــ كَشَطه"(5).
وبهذه الدلالة المحيلة على أداةٍ خاصةٍ بمهمةِ الاحتواء والحفظ، مستقلةٍ عن بيئتها الأولى -حقل الزراعة- تردد لفظ "المسب" في عددٍ من المقولات والأمثال الشعبية، فنجده في المثل: "مَسَبِّيْ تَحْتْ راسِيْ وِيِرْحَمْ كُلًّا في طبعه"، حيث جاء هذا المثل من قصةٍ فحواها: أن مسافرًا أدركه الليل، فنزل في خانٍ لم يجد إلا مسافرًا واحدًا نازلًا فيه، لم يطمئن إلى مظهره، وزاد قلقه حينما حان وقت النوم؛ فقد كان "مسبه" معلقًا على مشجب في الجدار، وبات قلقًا عليه من نوايا الرجل، غفا وهلةً وانتبه، فوجده واقفًا بالقرب من "المسب" يهمّ بسرقته، سأله ما شأنك؟ رد: أنا طبعي أن أنام واقفًا. فقام الرجل وأخذ "مسبّه" من مشجب الجدار، ووضعه تحت رأسه ونام وهو يردد هذا المثل. ويضرب في مواطن الحذر وإراحة النفس بالتحوط وترك القلق، كما يضرب في مواطن العجز والحيرة التي يُترك فيها الشخص المشكوك في أمره(6).
وجاء "المسب" في سياق المثل: "مسبّ التّواصِيْ مخزوق"، وموضوع المثل يستهدف سلوك التواصي -جمع توصية- وهي أن تطلب من شخص شراء حاجة لك دون دفع مقدم. ويمكن بلورة مشهديته في شخصين؛ الأول ذاهب إلى السوق، والآخر يطلب منه شراء بعض حاجياته، وحينما عاد سأله عن طلبه، فكانت إجابته بأنه كان قد جلب الطلب، ولكن -لأن في "مسبه" فتحةً- سقط منها الطلب دون انتباه منه. فتضمن المثل حثًّا على الاعتماد على النفس لا على الآخرين فيما فيه إثقال عليهم(7).
ومثل ذلك ورد "المسب" في العبارة: "قَدْ هِيْ في الْمَسَب"، وتقوم حكايتها على موقفِ خصامٍ بين شخصين، أحدهما شتم الآخر شتيمة أغضبته، وليشفي الغاضب غليله ويكسب الجولة مرتاحًا، قال لخصمه: شرور الأرض وقذاراتها كلها، وكل ما في كلام الجن والملائكة والناس أجمعين من سب وتسفيه، جمعها الله في "مسب" وأودعها رحم أقبح امرأة في أشأم ليلة، فلما ولدتْ كنتَ أنت المولود وفيك كل ذلك. فانتفض خصمه وانهال عليه سبًّا وشتمًا بكل ما لديه من لعنات وشتائم، فالتزم الرجل الصمت مستمتعًا بانفعال خصمه وغضبه، وكلما هدأ خصمه قال له: "قَدْ هِيْ في المَسَبّ"، أي: كل ما قلته كان في المسب الذي جئت منه(8).
لا تقتصر إحالات المقولة على الأشياء المادية الملموسة وما يحتويها "المسب" -بخصائصه المادية- فبعد أن بدأ التواري المتنامي للمكونات المادية التي تمثل أصل الإحالات في هذه المقولة، اتسعت إحالاتها لتشمل الإحالة على ما يقدمه شخصٌ لآخر
مثل هذه المقولات والأمثال -التي ورد فيها (المسب)- متسمةٌ بخصائص اللهجة المحكية في بيئة التداول لكل واحدةٍ منها في الجغرافيا اليمنية، وهي الحال ذاتها مع مقولة: "قاهيهْ صْفال أمَّسبّ" التي اتسم تداولها الشفاهي بالخصائص الصوتية للمحكية في جغرافية انتشارها؛ التي عكست الخصائص الذهنية الاجتماعية التي تحتضن حيوية تداولها، تلك الخصائص التي جسدت في المقولة مغايرةً دلالية لما تحيل عليه العبارة: "قَدْ هِيْ فِي المَسَبّ"، التي اكتنز تداولها بمعاني الشتيمة والخصام، إذ لم تتضمن هذه المعاني مقولةُ "قاهِيهْ دِيْ صْفالْ أَمَّسَبّ"، فقد احتفظت بخاصية الإحالة على ما يتم وضع الأشياء فيه، مع استيعابها لإحالات تفصيلية تمظهرت في سعةٍ دلاليةٍ على تنوعِ المحتوى وتدرجات تقييمه ومكانته. وقد تجلى كل ذلك في تنوع إحالاتها.
ومما يكشف عنه هذا التنوع، إحالتها على مستويات مختلفة لما في "المسب"، وعلى الطريقة المتبعة في ترتيب الأشياء ووضعها فيه بعضها فوق بعض، وبحيث يكون التذاكي حاضرًا في اتباع تراتبية معينة؛ إذ يتم وضع الأشياء الأكثر أهمية وقيمة في أسفل "المسب"، ثم فوقها الأقل أهمية، تليها الأقل، وهكذا، حتى لا يكون في أعلى "المسب" إلا الشيء الأقل أهمية وقيمة.
وتتضح فاعلية الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذه التدابير، فهي حياة مأهولة بمخاطر متعددة، أو قل باحتمالات متعددة يخسر على إثرها الشخص بعض أشيائه، فيخاتل هذه الاحتمالات باحتياطاته التي تسفر عن تموضع الأشياء الأقل أهميةً وقيمةً أعلى "المسب"، لتكون هي أول ما سيقع عليه احتمال خسارته، بحيث تكون نسقًا دفاعيًّا يحمي الأعلى قيمة منها، ليتم الاحتفاظ به قدر المستطاع، وبهذه التدابير يتفادى الشخص احتمالات الخسارة التي يتعاطى معها، بنبلٍ أو بإكراه، حسب السياق والموقف الذي يُجابَه به.
وحينما يعطي شخصٌ شخصًا آخر شيئًا من أشيائه وهو يصفه بأنه "دِي صْفال المسب"، فمعنى ذلك أنه أهم ما في حوزته، وأنه آخر ما لديه أو آخر ما يملكه، وأن لهذا الشخص مكانة عالية عنده؛ فالتخلي عن شيء في مستوى يستدعي الاحتفاظ به أسفل "المسب" لا يكون إلا في أحرج اللحظات، أو لأعز الناس.
كما يبدو التغير في دلالات التراتب، حينما يتخلى الشيء الأعلى قيمةً عن استحقاقه المنطقي في أن يتسنم أعلى المراتب، ويصبح مكانُه المناسب تحت الشيء الأقل قيمة منه، وبتراتبٍ مطردٍ، تصبح الأمكنة العليا أمكنة مناسبة لأشياء مفرغةٍ من علو القيمة، وتصبح الأمكنة السفلى لأشياء عالية القيمة والمكانة، وما كل ذلك إلا تجليًّا لفاعلية الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التعاطي مع الممتلكات والأشياء، وَفقًا لخصوصيتها وتفاصيل معطياتها المختلفة.
ولا تقتصر إحالات المقولة على الأشياء المادية الملموسة وما يحتويها "المسب" -بخصائصه المادية- فبعد أن بدأ التواري المتنامي للمكونات المادية التي تمثل أصل الإحالات في هذه المقولة، اتسعت إحالاتها لتشمل الإحالة على ما يقدمه شخصٌ لآخر، لا سيما الإحالة على المعاني والأفكار، ويندرج في ذلك: نصيحة مهمة، أو آخر ما في جعبة شخصٍ من الكلام، أو آخر موقف يتخذه شخص تأنى زمنًا قبل اتخاذه. وبذلك صار "المسب" وما فيه مقولةً تعبيرية، بمكوناتٍ غير مادية مستوعبة ما ليس ماديًّا من الأفكار والمعاني. أو صياغةً تعبيرية محيلةً على شيء ذي ماديةٍ ملموسة وذي ضمنيةٍ احتوائية بمعنى "المسب"؛ لاستيعاب خصائص الفرادة التي تتركها إحالاتُ المقولة في المحال عليه، سواءٌ أكان هذا المحال عليه من الماديات أو من المعاني والأفكار المجردة.
هوامش:
[1] ضياء الدين بن جمال الذماري، شرح المشعططات السبع، تحقيق وتعليق: عباس علي السوسوة، مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، صنعاء، 1428هـ/ 2007م، ص91.
[2] سيبويه، الكتاب، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمد هارون، دار الجيل، ط1، بيروت، 1411هـ/ 1991م، ج4/ ص470.
[3] مطهر علي الإرياني، المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث؛ حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ/ 1996م، ص415.
[4] نفسه، ص416.
[5] مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص411.
[6] يُنظر: مطهر علي الإرياني، المعجم اليمني، المصدر السابق، ص416.
[7] نفسه.
[8] نفسه، ص417.