أثناء عودتي على مركبة مواصلات عامة صغيرة، كان صوت حمود السمة حاضرًا من الإم بي ثري، وميزت أغنية على مقام البيات بأنه صاحبها. يمكن ببساطة تمييز ملامح الجيل الجديد اللحنية. إذ يغلب عليها تكوين بسيط متخفف من البناء المُعقد للأغنية الصنعانية التقليدية. ويمكن ملاحظة مؤثرات عربية واضحة في نسيجها اللحني. وهذا يعني أن الجيل الشاب فرض شخصية مختلفة تميزه عن سابقيه.
مع هذا، لا يمكن أن نطلق عليهم وصف التيار أو اللون، بمفهومه الشمولي، أو حتى بالنسق الذي فرضه جيل الكبار، سواء شمالًا أو جنوبًا. فهناك ملامح أو شخصية يمكن فهمها أو إدراكها، لكنها لا تشمل تعريفًا واسعًا، سواء فيما يؤدونه أو يلحنونه. كما أن السائد، انحسار أفقهم في الانزواء بآلة منفردة يمثلها العود، على الأقل حاول الآنسي أن يسعى للغناء برفقة فرقة موسيقية. وفي بعض ألحانه، مثل الحب والبن، بدأه بلحن مُرسل متصورًا فيه أوركسترا وترية. إضافة إلى أنه كان يبحث عن استعارات صوتية نقّب عنها في الألحان الريفية.
حتى بالنسبة للحارثي، الذي التزم بأداء تقليدي، يحضر طابعًا يمكن أن نطلق عليه حارثيًّا، يمتاز به عن سواه؛ دقة الأداء وحرفيته وفق اللون الكوكباني. لا يقتصر الأمر على شخصية صوته، ببحته، إنما كذلك بإجادة التفاصيل وإيضاحها وفق ملامح نخبوية محلية، اتسم بها هذا الغناء. دائمًا تأنٍ، والتزام تعبيري لا يشطح. قد يبدو لنا حرفيًّا، لكنه أيضًا يضفي عليها رهافة حسية.
لا أريد التقليل من هذا الجيل، فالنظرة المعاصرة تختلف عن تلك التي تنظر للماضي. وهذا الجيل الذي ظهر خلال أول عقدين من الألفية لا يختلف يمنيًّا، عما هو سائد عالميًّا؛ فالموسيقى والغناء لم تعد تمثل تيارات جديدة، وتميل لأن تكون مزاوجة بين تيارات عديدة. وعلى سبيل المثل، آخر تيار حقيقي تشكل في الأغنية العربية يعود للثمانينيات، وحتى الجيل المنسوب للتسعينيات برز أواخر الثمانينيات. بينما أصبحت الأغنية ظاهرة تركيبية من التوفيق بين أشكال موسيقية، أو تنسيقية.
من غير الممكن أن ننزع عن هذا الجيل ما اجتهد فيه، وما احتوته ملامحه، إذ تمتع بجرأة في تكوين ملامح أصبحت تحظى بقاعدة جماهيرية في اليمن، وكذلك خارج اليمن. وإن لم تكن بالنجومية التي لدى فنانين عرب في مصر ولبنان والخليج
بمعنى أن الموسيقى، والغناء أيضًا، أصبحت تميل للاستعراض، وهذا الاستعراض يقوم على عدة أشكال، بَدءًا من طرائق العزف أو الغناء. وجرت العادة مؤخرًا، أن يظهر عازف تشيلو يعزف محتضنًا فتاة حسناء بذراعه الممسكة على العصا الذي يمرره سرحة ورجعة بين الأوتار، وهناك وردة أيضًا. فالفن أصبح مسلوبًا لكل ما هو بصري، وحتى بالاستماع إليه في مسارات موسيقية يتشكل في العين كمسحة إبهارية، ثم يتدفق للأذن. وغالبًا ما تتعارض بعض الفنون مع كل ما هو بصري.
لكن على الصعيد اليمني، يتغير مفهوم الإبهار، بما يلائم الواقع الفقير، من ناحية تقنية أو صوتية أو حتى تعبيرية. فعلى خلاف ما انساق له الجيل السابق في استخدامهم الآلة الوحيدة، أي العود، نجد الجيل الجديد يبالغ في الضرب على الأوتار في مجاراة لطبيعة العزف على الجيتار، أيضًا نلاحظ الاعتماد على الأصوات الغليظة في ضربات السمة وحتى الأخفش. هذا المنحى ملائم لذائقة الجيل الجديد.
وبأي حال، تشهد الألحان الجديدة نسيجًا بسيطًا لا يتسم بأناقة زخرفية، ويمكن لأصوات محدودة الإمكانيات غناؤها. فهناك طموح إكليشيهي في استجداء جمهور يفرض ذائقته. وبالتالي لا يستغرق اللحن في تبني مضامين جادة ناتجة عن تأمل عميق. هل نسمي ذلك استعجال شائع؟ ربما، لكنه بطبيعة الحال يتبارى في منافسة أشكال غنائية بدائية، مثل الزامل والشيلة، وغيرها. وهذا يحدد لنا أيضًا الطريق الذي يسير عليه عالمنا، من الطموح الطلائعي لتبني تيارات مستقبلية، إلى انحسار هاجسه الماضي.
وأي حالة مسرحية أو بصرية، تتسم في اليمن بطابع متقشف، لكنها تنحرف عن الامتداد الحسي أو التعبيري للغناء، لتنقله في مفهوم حركة ضيق. إذ يفرض عليه اختبار مسحة تعاطفية، قد تكون نشيج على طريقة الأخفش، أو الغناء بملامح توثبية على طريقة السمة، وهذا يحسب له الخفة الشكلية، أو الصعود إلى جوابات، أحيانًا تفقد التحكم بالصوت كما لدى حسين محب.
فالإطار العام الذي تسير عليه تلك الملامح الغنائية أو اللحنية، محكومة بظاهرة شعبية. وبصورة عامة لا يمكن تناول تلك الأساليب بمعزل عن البيئة التي تشكلت عليها نجومية هؤلاء الشباب. وأيضًا لا ننساق لنبالغ في تصوراتنا الخاصة بذائقة غناء مرجعها مفاهيم كلاسيكية. إذ إن أولئك المغنين لم يتأسس مسارهم وفق تعليم أكاديمي، كما أن الغناء اليمني حتى بالنسبة لجيل الستينيات والسبعينيات قام على الاجتهاد الشخصي وما ورثوه من سابقيهم. وهو عُرف شائع في الغناء اليمني، إذ إن تشريح هذا الموروث بصورة علمية، لا توجد حوله مرجعيات، وكثير منها سواء في النسيج المقامي أو الإيقاعي تعود لفنانين يمنيين تحصلوا على علم أكاديمي.
كما أنه من غير الممكن أن ننزع عن هذا الجيل ما اجتهد فيه، وما احتوته ملامحه، إذ تمتع بجرأة في تكوين ملامح أصبحت تحظى بقاعدة جماهيرية في اليمن، وكذلك خارج اليمن. وإن لم تكن بالنجومية التي لدى فنانين عرب في مصر ولبنان والخليج.
من ناحية أخرى، لا ننسى أن نجوميتهم تشكلت في غياب لصناعة الموسيقى. وارتكز حضورهم بدرجة أساسية، على حفلات الأعراس، ومنها كونوا مسيرة احترافية مستقلة عن إيجاد مصادر دخل تتعارض مع الغناء. لكنْ هناك عيبٌ في القاعدة الجماهيرية القائمة على جمهور حفلات الأعراس المجانية.
إنه جمهور في العادة لا يدفع، وربما غير مستعد لدفع قيمة تذكرة لدخول حفلة غناء لهم على المسرح. وفي تلك القاعات تتشكل عادات تستهلك الغناء، مثلًا الإكليشيهات الصوتية المصاحبة للغناء، سواء في نداء اسم العريس، أيضا النظام الصوتي الرديء الشائع في صالات الأعراس. هناك تتشكل حالة مسرحية متقشفة. والفنان منهم يذهب إلى الصالة دون شروط، فهي ليست حاضرة، وحتى إن حضرت فغيرُ ممكن توفرها. كذلك الأصوات المرافقة أثناء تقديم وصلته، لأحد الجمهور وطرائقها المبتذلة، والتي لا يستطيع الفنان أن يحد منها، بتصور أن الجمهور لا يُمس. فأولئك الأشخاص يحظون بعصبة يمكنها أن تنهال غضبًا في تشويه الفنان، كعدو شخصي.
ومع أن تلك الحفلات المستمرة، منحت أولئك ريعًا جعلهم أكثر استقلالية، إضافة إلى قنواتهم على اليوتيوب، عدا أن بعضًا منهم قلما يحاول جاهدًا تطوير شكلًا موسيقيًّا له. فذلك يتطلب زيادة إنفاق، وكان لتغيير تلك العادات الراسخة بالاعتماد على العود، أن تضفي على الواقع فرصة لظهور عازفين على آلات مختلفة، مثلًا الكمان.
كنت أتحدث مع صديق، حول أن حمود السمة قدّم مؤخرًا تسجيلات تحتوي على موسيقى. لكنها اقتصرت على وجود الكيبورد، وتوزيع موسيقي بسيط. وفي تسجيلات لحسين محب بمصاحبة الموسيقى، بعض التعليقات كانت ترفض استبدال العود بالموسيقى، مع أن الأحرى بمحب أن يدرب صوته أكثر بمصاحبة الموسيقى ليفرض على جمهوره تقبله بشكل مغاير.
صحيح أن أولئك اجتهدوا بحدود إمكانياتهم المُتاحة، وتركوا بصمة ميزتهم وشكلت قاعدة جماهيرية. لكن ينبغي عليهم عدم الاكتفاء بما أصبح في متناولهم من جمهور جاهز، فالجمهور فكرة هشة وتتغير متطلباته بين وقت وآخر. ويمكن المزاوجة بين ما هو شعبوي وبين اختبار أشكال موسيقية بعناية، سواء بتبني عازفين جيدين وتشجيع فئات شابّة. ولا يعني بتبني مادي إنما بجعلهم سلعة مطلوبة في سوق الغناء، سواء في الأعراس أو التسجيلات. هل سيتقبل جمهور الأعراس وجود تخت صغير، عازف كمان، فلدى أولئك فكرة شائعة تُلازم القات؛ فأي صوت موسيقي عدا العود يخدش قداسة القات.
وعمومًا، شكّل هذا الجيل شخصيته الخاصة، شعرًا وغناء ولحنًا، فهناك جيل جديد من الشعراء يعبرون عن روح جيلهم. فيغلب عليهم روح المدينة اليمنية، والغائصة بمزيج ريفي تحضر فيه القبيلة. بحيث تنحسر في كلماتهم الطبيعة، على خلاف كبار الشعراء الغنائيين السابقين الفضول أو الإرياني، الذين استحضروا روح الريف وطبيعته الخلابة. لكن هذا الجيل يُعبر عن نفسه بطريقته، وأصبح البعض منه يكتب لمغنِّين خليجيين أو عراقيين. فاليمن أيضًا تتفرد بخصائص عن سواها. لكن تلك الروح المدنية، ما أسرع شيخوختها في عباءة الماضي!