عند السابعة صباحًا يغادر الرجل الثلاثيني، مهدي العيدوس، منزله، متجهًا إلى عمله الجديد. يودع أطفاله وزوجته التي اعتادت وداعه كل صباح إلى مهنة بعيدة كل البعد عما كان يحلم به قبل سنوات.
العيدروس الذي يعمل اليوم بالأجر اليومي في حمل الأحجار، كانَ يومًا في سماءِ الوطنِ طيارًا محترفًا، قذفت بهِ رياحُ الأقدارِ عنوةً إلى مكان لا سقفَ فيه سوى الفقر والمعاناة.
تخرج مهدي عبدالله العيدروس من كلية الطيران عام 2003، ضمن الدفعة العشرين، برتبة ملازم ثاني طيار، وحصد الترتيب الثامن على الدفعة، وتم اختياره طيارًا مقاتلًا على الطائرة الروسية ميغ 21 في القاعدة الجوية بالحديدة، ليبدأ مرحلة جديدة لم يتوقع أنها ستنتهي به يومًا إلى قريته في عزلة المواسط بني حماد، للعمل في حمل الأحجار، التي كان قد حمل قبلها جبال من الهم والمواجع، والمعاناة، التي قسمت ظهره منذ بدء الحرب في اليمن.
بعد ما يقارب 13 عامًا قضاها في أحضان الطائرات، وجد رائد طيار/ مهدي العيدروس نفسه مع الكثير من زملائه خارج قاعدة الديلمي الجوية في العاصمة صنعاء، تحديدًا بعد التدخل العسكري في اليمن مارس/ آذار 2015، وقصف القواعد الجوية العسكرية وتدمير منظومة الدفاع الجوي، ولكن بعد أن توقفت المرتبات في أغسطس/ آب 2016، دخل الرجل منعطفًا آخر ازدادت فيه معاناته، واضطر إلى البحث عن عمل في أي مهنة، ليستطيع الحياة ويؤمن عيشًا كريمًا له ولأفراد أسرته، متنقلًا بين محلات البقالة والمكتبات وفي التسويق ومحلات الملابس والمراكز التجارية، ليصل به الحال كعامل (شاقي)، في مجال البناء والطلاء وغيرها.
قضى العيدروس أكثر من ألف ساعة طيران، توزعت على طائرات النقل العسكرية، والحربية وغيرها ليكون إجمالي ساعات طيرانه 1205 ساعة طيران، قضاها محلقًا في سماء اليمن، شرقها وغربها وجنوبها وشمالها
في حديث خاص لـ"خيوط" يحكي الرائد طيار مهدي العيدروس، بعضًا من فصول حياته التي قضاها في الطيران وانتهت به إلى واقع مليء بالمرارة. بحرقة كبيرة يصف العيدروس الحال الذي وصل إليه هو وزملاؤه في القوات الجوية، الذين أجبرتهم الظروف الصعبة إلى بيع كل ما يدخرون لمواصلة العيش، معبرًا بحسرة: "البعض باع أثاث سكنه وانتقل للسكن في قريته عند والديه ومع إخوته في ظروف قاسية وصعبة، وهناك من طلق زوجته، فيما زميل آخر هجر زوجته وأطفاله وغادر البلاد، وإلى الآن لا نعلم عنه شيئًا".
عمل الكابتن العيدروس، في ثلاث قواعد جوية في اليمن، وهي قاعدة العند الجوية في محافظة لحج، ومطار الحديدة، وقاعدة الديلمي في صنعاء، قضى خلالها أكثر من ألف ساعة طيران، توزعت على طائرات النقل العسكرية، والحربية وغيرها، ليكون إجمالي ساعات طيرانه 1205 ساعة طيران، قضاها محلقًا في سماء اليمن، شرقها وغربها وجنوبها والشمال، فبشرته السوداء وتقاسيم وجهه تعبر عن جغرافيا اليمن التي يحفظ، عن ظهر قلب، كل مناطقها التي زارها خلال فترة عمله في الطيران.
عتاب ولوم
"أي وضع وصلنا إليه؟" يتساءل مهدي العيدروس، ويدخل في شرود، قبل أن يخرق الصمت مواصلًا الحديث بالقول: "كل شيء يبدو قاتمًا اليوم! ضاع الوطن وانتهت كل أحلامنا"، ويستطرد مهدي: "لكن هناك أيضًا من يعاتبك ويحملك المسؤولية، أنتم - الطيارين - لماذا لم تحاربوا؟ ويتناسى أننا مُنعنا من الدخول إلى جوار طائراتنا منذ نهاية سنة 2014".
أخذ مهدي نفسًا عميقًا، وتابع الحديث لـ"خيوط": "الجميع اتفق بشكل غير مباشر على تدمير القوات الجوية، لأنها عصا التأديب ونقطة الحسم" وأردف متممًا: "نحن كطيارين نُقصف ونموت كل لحظة، من قبل أن تأتي الحرب"، ويضيف: "أسقطت طائراتنا، وأهملت كوادرنا، سُلمنا لقمة سائغة لكل الأعداء، وعندما دخلت الحرب لم يكن بيدنا شيء".
غير أن الجانب الأكثر إيلامًا وقهرًا في حياة مهدي العيدروس، أن يقف عاجزًا شأنه شأن بقية الناس مجرد عاجز، مكتوف الأيدي، فيما تتجول الطائرات في سماء بلده؛ تقصف المدن والأحياء السكنية، في حين يقف على الركام كشاهد زور، ليس له من الأمر شيء، وهو الذي تلقى التدريبات ودرس التحليق!
بعد أن أخذ تنهيدة عميقة، واصل مهدي الحديث بكلمات ممزوجة بالقهر والأسى: "عرضنا حياتنا للموت والخطر من أجل الوطن ومن أجل أن تبقى طائراتنا محلقة، الطيار مكانه الجو وليس الأرض، ولكن بعد قصف مطاراتنا وطائراتنا، تم تهميش الطيارين وكوادر القوات الجوية بشكل ممنهج".
يتذكر مهدي العيدروس، وهو يحاول منع دموعه من السقوط، سنوات عمله في سلك الطيران العسكري للجمهورية اليمنية، وكيف كان يقوم بربط أطراف الوطن ببعضه في ساعات، من جزيرة سقطرى إلى الحديدة، ومن صعدة إلى عدن، وأصبح اليوم كما يقول: "يربط على بطنه من الجوع"، بعد أن كان ناقلًا الجنودَ والوزراء والمسؤولين والإمدادات، إلى جانب مهمات جوية كثيرة للإنقاذ وتشكيل جسور جوية في مناطق السيول والأمطار.
هذه الذكريات هي كل ما تبقى من الأيام الجميلة بتعبير مهدي، رغم معاناتهم التي كطيارين يمنيين سابقًا، لكن التحليق في السماء شامخًا بطائرات وصفها بـ"منتهية الصلاحية"، متجاوزًا الكثير من التحذيرات حول سلامة الطيران لتنفيذ مهمة وطنية، أو لنقل متطلباتٍ قد تكون منطقةٌ ما بحاجة ماسة إليها، سببًا تخفيفيًّا عن هذه الشحة.
مجرد من البطولات
تقلد مهدي عبدالله مناصب عدة في قيادة القوات الجوية اليمنية، حيث كان مدير فرع التدريب في كل من السرب الخامس طيران في القاعدة الجوية بالحديدة، وكذلك اللواء الرابع طيران بالقاعدة الجوية بصنعاء، وعضو لجنة التأهيل والتدريب وإعداد المناهج في القوات الجوية، كمل شغل مدير المركز الإعلامي للقوات الجوية والدفاع الجوي.
"تصور أنني كنت أنتظر لحظة عودتي من العمل إلى البيت لأحكي لزوجتي وأطفالي عن رحلة طيراني اليوم وماذا رأيت؟ وكيف كانت؟" يقول وقد أنهكه عمله الجديد، ويضيف بحزن أنه اليوم بات يخشى من العودة إلى المنزل، وهم ينتظرون ماذا يحضر لهم على العشاء.
الطيار الذي عمل على تأمين أجواء الجمهورية اليمنية بمساحتها 527 ألف كم مربع، يبحث اليوم عن عش صغير يأويه وأسرته، بعيدًا عن فوضى الحرب التي تعصف بالبلاد منذ سنوات.
"أريد جدارًا فقط يظللني من الشمس"، هكذا تمنى العيدروس. ليعلق عليه من الداخل شهادات كثيرة منحه إياها الوطن خلال خدمته في الطيران، شهادات شكر وتفوق، ومشاركة في القضاء على عصابات تمرد وإرهاب، ربما لا يكفي لها الحائط هذا، حد قوله.
ثمن الكلمة
الكابتن مهدي مستقل لا ينتمي سياسيًّا لأي جهة، مثقفًا مطلعًا، طموحًا يسعى دومًا إلى تغيير واجهة البلد وإصلاح كافة جوانبها، خصوصًا استقلال الجيش وبنائه بشكل صحيح وعلى ثوابت وطنية. وبالرغم من كونه في السلك العسكري إلا أنه كان ينتقد النظام والقيادات العسكرية بشكل دائم، وهذا ما عرضه للكثير من المضايقات والسجن خلال فترة خدمته بالجيش، إضافةً إلى اعتقاله من قبل مسلحين تابعين لتنظيم القاعدة في إحدى مديريات محافظة حضرموت، تم الإفراج عنه وزملائه وجميع ركاب الطائرة لاحقًا، بوساطة قبلية وأمنية بعد ثلاثة أيام.
قاد ثورة استمرت لمدة 5 أشهر أدت إلى إقالة محمد صالح الأحمر، وتعرض لمحاولتي اغتيال بسببها، ثم إقالته في سنة 2014، من إدارة المركز الإعلامي للقوات الجوية وإحالته للتحقيق والسجن عند نشره معلومات عن صفقات فساد في قطع غيار الطائرات والعملات
في العام 2011، مع انطلاق شرارة الربيع العربي بدأ بالتخطيط لعمل انقلاب داخل مقر قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي بصنعاء، للإطاحة بقائد القوات الجوية اللواء محمد صالح الأحمر شقيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وقاد ثورة استمرت لمدة 5 أشهر أدت إلى إقالة محمد صالح الأحمر، وتعرض لمحاولتي اغتيال بسببها، ثم إقالته في سنة 2014، من إدارة المركز الإعلامي للقوات الجوية وإحالته للتحقيق والسجن عند نشره معلومات عن صفقات فساد في قطع غيار الطائرات والعملات وغيرها.
يواصل مهدي حديثه لـ"خيوط": "إن ما يجهله الكثير أن جميع مطارات اليمن مدنية، ماعدا مطار العند الذي يعتبر مطارًا عسكريًّا"، وأرجع السبب في انهيار قوات الدفاع الجوي، إلى أنه "تم جمع كل أنواع الطائرات في مطار صنعاء المدني الدولي، وهذا يعرضها للكشف والخطر" كما يرى، و"بالفعل تم قصفها من قبل التحالف في ربع ساعة".
وأشار إلى أنه كان يجب أن تكون الطائرات موزعة على كافة المطارات والقواعد، وبحسب نوعها كطائرات مقاتلة أو استطلاعية أو بحرية أو نقل أو حوامات، وبحسب الحاجة، لحماية المؤسسات السيادية والهامة والبنى التحتية للبلد، مثل الكهرباء والموانئ والمصانع ومخازن الأسلحة.
استمريت لأكثر من 18 يومًا في إجراء الفحوصات المطلوبة لفهم ما حدث لي، وبعد أن خضعت للرنين المغناطيسي تبين وجود بكتيريا في الغدد الصماء كادت أن تتلف العصب البصري
معركة مع المرض
عاش الرائد مهدي في القوات الجوية اليمنية سنوات قاسية ومليئة بالوجع؛ فالهموم وضيق العيش، والمعاناة اليومية التي تجرعها مع أسرته، إضافة إلى الحالة النفسية التي لحقت به جراء الوضع المعيشي الصعب، أدخلته منعطفًا آخر، بعد أن أفاق من النوم في صباح الأربعاء 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وهو فاقدٌ الجزء الأكبر من نظره "اصطدمت بجدار الغرفة، وقفت أمام المرآة، فلم أرى وجهي إلا كطيف بعيد"، يحكي مهدي تفاصيل مرضه المؤلم، مضيفًا: "استمريت لأكثر من 18 يوم في إجراء الفحوصات المطلوبة لفهم ما حلّ بي، وبعد أن خضعت للرنين المغناطيسي تبين بعدها وجود بكتيريا في الغدد الصماء كادت أن تتلف العصب البصري لولا سرعة اكتشافها".
من هنا بدأت معاناة العيدروس الجديدة التي استمرت ما يقارب الشهر، بعد أن قرر له استخدام جرعة من حقن (sulo medrol 1gm)، وهذه بالنسبة للرجل الذي يكاد يحصل على قوت يومه، باهضة الثمن، والحصول عليها ليس أقل من معاناة حقنها.
هذه الصورة تلخص ما آلت إليه أوضاع القوات الجوية، والطيارين اليمنيين بعد 5 سنوات من الحرب وانقطاع المرتبات، فالعيدروس الذي حلق في ارتفاع 35 ألف قدم فوق مستوى سطح الأرض هبطت به رياح الأقدار كرهًا إلى قاع الفقر والحياة القاسية. ومع ذلك يقول الطيار اليمني الذي فقد عمله في الطيران وبات اليوم عاملًا في مهن لم يؤهل لها، إن الوطن يحتضر وعلينا ألّا نبكي عند رأسه فتخور قواه". لإيمانه القوي أنه إذا وقف الجميع بصلابة، فسينهض من جديد، قويًّا شديدًا معافى. مؤكدًا أن الأوطان لا تموت.