الهجرة التي كانت حلًّا لكثير من اليمنيين الذين تركوا وطنهم بحثًا عن حياة أفضل خارجه، صارت مع مرور الوقت فعلًا مدانًا من داخلها، بسبب مآلاتها القاسية في حياة المهاجرين؛ أما الصوت الذي امتلك الجرأة في إدانتها، فهو متعدد ومتنوع في بنية النص الأدبي. صحيح أنه مستنبت في حدود التخييل، وأعادت أفكار الكتّاب هندسته، ليؤدي دورًا احتجاجيًّا، بمشغلات أيديولوجية وثقافية متباينة، تسقطها نزعات الكتاب وثقافتهم، لكنه بالتأكيد يتكشف أمام المتلقي، كسمة من سمات الهجرة وإفرازاتها.
الاحتجاج الناقد جاء في النصوص الأدبية - السردية على وجه الخصوص - إما على هيئة حوار بين طرفين، أو على هيئة تداعيات ومنولوجات ذاتية في لحظة حزن تنتاب واحدًا منها، أو هي طريقة تعليلية في وصف الحالة تكشف عنها امرأة منهدمة، أوشاب مولد ممزق الهوية في أديس أبابا، أو شيخ حضرمي أمي في جاوة، أو مهاجر يمني مسحوق في متشجن. سيلخصها مهاجر فنان، يُتهم بالجنون؛ لأنه كان يرسم التجار المتوحشين بسخرية حادة، أو ابنة مهاجر فقير، مات في إحدى قرى الحبشة، وترك طفلة ضائعة، لم تجد غير مهنة الدعارة لتقتات منها، أو بدوي جمَّال، من وادي دوعن في حضرموت، فقد والده المهاجر في سنغافورة في ذروة الحرب العالمية الثانية، وكذلك في خوف أب على أولاده من المشكلة التمييزية في اليمن وصعوبة الاندماج في السودان.
في معظم المكتوب الناقد للهجرة، يلعب الراوي المركزي في النص دورًا فاعلًا في تجسيم الحالة، حين يصير عليمًا بخفايا الشخوص، ويصير في الوقت ذاته لسان الكاتب وموقفه.
(***)
في حوار بين "أبو رُبية" والطفل "سعيد"، في القصة التي تحمل الاسم ذاته، في مجموعة "الأرض يا سلمى"، لمحمد عبدالولي:
"اسمع يا سعيد، كل اليمنيين ليش يهاجروا؟ هم خوافين، ما قدروا يجلسوا في بلادهم، وهربوا منها، خلوها للملاعين. آه أنت ما تعرف بدَؤُوا الهجرة من ألف سنة، هم هدموا السد بفسادهم ما قدروا يبنوا سدود ثانية، هربوا. اسمع لازم تروح اليمن، أيش تسوي هنا، أيش معك هنا في بلاد الناس؟!". [الأعمال الكاملة، ص 30]
أبو ربية هذا فنان ساخر، كان يجوب الشوارع، ويرسم على الجدران حيوانات برؤوس آدمية، تشير إلى تجار تعساء وجشعين، يتآمرون عليه ويتهمونه بالجنون، فتقوم السلطات الأثيوبية بسجنه، وتاليًا طرده إلى عدن، حيث سيجده سعيد بعد عدة سنوات في إحدى مقاهي الشيخ عثمان بذات السجية، يعبِّر عن احتجاجه بالرسم.
رؤية "أبو رُبية" لمشكلة الهجرة بوصفها هروبًا، تقترب جدًّا من رؤية الابن المولد في "رواية يموتون غرباء"، صاحب الموقف الواضح من الهجرة، ومن واجهاتها الاجتماعية في الحبشة. هذا المولَّد يعمل سكرتيرًا لأحد رموز المهاجرين، ويعرف كل خباياه؛ وبواسطة الجدل بينهما تتكشف المسافة الثقافية والأخلاقية، التي أنضجتها إشكالية الهجرة داخل كل واحدٍ منهما.
إدانة الهجرة تعبِّر عنها أيضًا ابنة أحد المهاجرين، التي تضيق بها الدنيا، فلا تجد مهنة تقتات منها غير الدعارة؛ وفي لحظة انهدام كبرى يتلبسها السؤال الوجودي الكبير، وعلى حواف السؤال تنمو الزهراء السوداء لسيرة المهاجر البائس
"أنت تتحدث أربعة وعشرين ساعة عن تحرير بلادك، لكنك لن تحررها مطلقًا. لقد هربت، أتعرف مِن هنا لن تستطيع إلا أن تصرخ بملء فمك: أيها الظالم سننتقم. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع أحد صوتك سوانا". [يموتون غرباء/ الرواية، ص 81]
هذا الموقف الحاد من الهجرة، بوصفها هروبًا، تتكشف أيضًا في رواية "قرية البتول"، لمحمد حنيبر؛ والحوار الذي يجرى بين صالح ورفيقه فضل، على ظهر الباخرة التي يعملان بها، يختزل هذه الحالة بدون مواربة:
"- على كل حال يا أخ صالح، يجب ألّا نيأس، فسيأتي اليوم الذي يتبوأ فيه شعبنا مكانته بين شعوب العالم المتحضر.
- متى يا أخي؟ وها نحن نعالج أوضاعنا بالهرب منها إلى المهجر، وهذا منطق العاجزين". [قرية البتول، ص 74]
إدانة الهجرة تعبِّر عنها أيضًا ابنة أحد المهاجرين، التي تضيق بها الدنيا، فلا تجد مهنة تقتات منها غير الدعارة؛ وفي لحظة انهدام كبرى يتلبسها السؤال الوجودي الكبير، وعلى حواف السؤال تنمو الزهراء السوداء لسيرة المهاجر البائس الذي تركها لمصيرها القاتم:
"لماذا أتى؟ ليزرعني ويموت كالكلب. آه، وجوده كان لإيجاد هذا الشقاء، كان بعيدًا، ولد هناك، وترك كل أهله، كان يحدثني عنهم عندما يكون مرحًا، ويصف لي جبال بلاده ووديانها. كنت صغيرة، كم كانت عيونه تضحك وهو يحكي كل ذلك. لقد أخذني، وكنت طفلة، بعد أن ماتت أمي، لم يحدثني عنها كثيرًا؛ ترى هل ماتت حقًّا؟ كثيرون من أمثاله يكذبون على أبنائهم، أكان يكذب؟ لقد كان طيبًا ضائعًا. تغرَّب في قرى ومدن صغيرة، كان يبيع أشياء كثيرة. ومات في الضياع، في قرية نائية بعد أن أصيب بحمى، لم يكن يعرفه هناك أحد. وتشردت وحيدة، طفلة صغيرة ووحيدة، بعد أن دفنوه في حفرة سوداء مليئة بالطين. ولم يصل عليه أحد، وأخذوا كل ما لديه". [محمد أحمد عبد الولي، الأعمال الكاملة، ص 250 – 251]
في رواية أحمد عبدالله السقاف "فتاة قاروت"، تتظهر شخصية عفوية تعي معنى أن تمتصك الهجرة دون أن تقدم شيئًا لوطنك رغم ثرائك، هذه الشخصية تحضر كمقابل ضدي لشخصية تغريبية تفك ارتباطها بالوطن الأصل، ويقدمها المؤلف بعفويتها ولغتها الحضرمية الشعبية التي كانت جارية في الألسن قبل مئة عام:
"قياسك يوم العرب لهم سنين في جاوة، وفيهم تجار البامية ألف وألف باميتين. واحد معه ملايين، ما يسيب الصغر إلا بالخمسين ستين ألف، مخلّين متجرهم كله في جاوة، ولو نقلوا حتى نصف متجرهم إلى حضرموت وعمروا بلادهم كان هم في خير وحقهم محفوظ، والمساكين با يعيشون هناك". [رواية فتاة قاروت، سابق، ص 123]
من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، حيث تشتت اليمنيون "من جاوة إلى متشجن"، وفي فسحة من الزمن تقترب من القرن، نجد أيضًا من لديه تعليلًا لنقد الهجرة التي تحول البشر إلى كائنات تعيسة، تهرب إلى حتفها بملء إرادتها، تركوا وطنهم إلى بديل أكثر قسوة، امتص كل رحيق في زهرة شبابهم. الهجرة حين تصير في الشارع المنسي ليس أكثر من جوع جنسي لم يُشبع، وانكسار طويل مرسوم في العيون:
"نفس السحنات، نفس الانكسارات المرتسمة في العيون. رجال لم يعودوا كما كانوا أول الدهر. من كان يصدِّق أن ذلك العجوز الطيب سيموت بين فخذي عاهرة، التقطها من الشارع، وهو العاجز كبير السن. والحاج الذي كان يصلي الفجر حاضرًا، ثم مات مثل كلب عجوز بين يدي عاهرة قاسية الشبع. مات المسن موتته المخزية التي لم يقصدها، وهو الذي كان قد تزوج بفتاة في عمر أصغر بناته، التي كان يقضي معها شهورًا معدودات، ثم سرعان ما يفر منها قبل أن تهلكه، وهي الشابة فائرة الرغبة والجسد، هرب من تعب الحلال ومات موتة الحرام". [عبدالناصر مجلي، الأعمال القصصية، ص 236–237]
الجمَّال الدوعني حمد بن صالح يتشكل موقفه من الهجرة من خارج حدودها الجغرافية، ويفصح عن هذا الموقف الاحتجاجي بصوت ينتصر للمرأة المهجورة من الزوج، وبذات المتلازمة التي تعينت عند النساء في الأرياف اليمنية العديدة، التي شهدت هجرات الأزواج إلى أفريقيا ودول ما وراء البحر.
"جاوة خطفت قلوب الحضارم. الكل يحلم أن يسافر إلى جاوة، والزوجة في الوادي بين الجبال تتنظر عودة زوجها أو أحد أبنائها أو أخيها. الكل ينتظر ويترقب اللقاء بين الأحبة. الكثير من الزوجات الدوعانيات لا يعلمن عن زواج أزواجهن في المهجر مثل والدتي يرحمها الله، لم تعلم عن زواج والدي، وبعد وفاتها وأنا عمري خمسة عشر سنة علمت أن لي أختًا في جاوة اسمها خديجة". [عمار باطويل، رواية سالمين، ص 38]
فكرة الموت الغريب للمهاجر البائس تيمة شديدة الوضوح في منظومة النقد، والأكثر تعليلًا فيها ميتة عبده سعيد الشخصية الرئيسة في "يموتون غرباء
جاوة التي اختطفت والده، ستختطفه هو الآخر، بعدها بسنوات مدينة جدة التي هاجر إليها لمزاولة أعماله التجارية، وستتحول محنته إلى تظهير سردي ناقد للهجرة بصوت الراوي الرئيس؛ والحنين القليل الذي كان يجرفه إلى حضرموت "الوطن"، بدأ يتلاشى رويدًا رويدًا، لأن ما كان يظنه في مغامرة زواجه من سوسن المكاوية المولدة الحضرمية، سيعزز من ارتباطه بماضيه، صار وهمًا بعد أن جرفته الحياة الصاخبة، وبعد أن فقد الأمل كلية في استعادة ممتلكاته المؤممة في عدن والمكلا، ليصير الوطن لديه أشبه بجرح، لكن لا يعلو عليه أي جرح كان، فالوطن أكبر من الحكومات والأحزاب، يرحل الرؤساء وتسفط الدول ويبقى الوطن شامخًا يداوي جراحه بنفسه ويتجدد ويتطهر من دناسة الشر". [سالمين، ص 93]
فكرة الموت الغريب للمهاجر البائس تيمة شديدة الوضوح في منظومة النقد، والأكثر تعليلًا فيها ميتة عبده سعيد الشخصية الرئيسة في "يموتون غرباء":
"مات ولم يترك شيئًا طيبًا في حياته سوى الآلام. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة، وابن لم يعرفه، وأرض لم يقدم لها أي قطرة من دمه. لقد مات غريبًا كما يموت مئات اليمنيين في كل أنحاء الأرض يعيشون ويموتون غرباء، دون أن يعرفوا أرضًا صلبة يقفون عليها. أما هذا القبر فهو ليس قبره، إنها ليست أرضه. إنها قبور أناس آخرين، قبور الأحباش نحتلها نحن، ألا يكفي أن نلتهم اللقمة من أفواههم، لنلتهم حتى قبورهم، يا إلهي كم نحن غرباء؟!". [يموتون غرباء/ الرواية، ص 95 – 96]
العبد "سالمين" هاجر مع سيده إلى جدة، التي نال فيها حريته وتجنس بجنسية دولتها، وزاول التجارة فيها. كان يظن أن الحياة الجديدة فيها ستنسيه تاريخه الشخصي مع العبودية وعقدة اللون، غير أن حنينه إلى حضرموت كان يضمر نقدًا للهجرة التي بدلت من طباع أبناء المهاجرين الحضارم الذين قطعوا صلتهم بالمنبت الجغرافي، وكان كلما جلس مع البعض من عيال الحارة، يقول لهم: "أنتم تنظرون للحياة بعين الرفاهية، بعدما كان آباؤكم وأجدادكم صبيانا في بيوت أهل الحجاز، وبعدما كانوا قماشين لا يغادرون محلاتهم، صبروا على الحياة وحققوا لكم مستقبلًا لا تحلمون به، وأنتم تريدون دفن الماضي، ودفن أرض أجدادكم ومحوها من ذاكرتكم بهذه الأعمال الشنيعة". [الرواية، ص73 و74]
خوف المهاجر ناصر الهيثمي على أبنائه المولدين المفترضين، جعله يتردد طويلًا في اتخاذ قراره بالزواج بإحدى المولدات اليمنيات في بورتسودان، وكان يقول:
"أنا الذي خلقت في قلب الريف اليمني أشعر بالضياع والغربة، فكيف بهم الذين سيخلقون في وطن آخر غير الوطن الذي سيحملون جنسيته؟! فالسودانيون هنا سيعاملونهم كمهاجرين يمنيين مثلهم مثل آبائهم، وإذا قدر لهم يومًا أن يعودوا إلى وطنهم اليمن، فقد يعاملون هناك كمهاجرين سودانيين، أو على الأكثر أنصاف يمنيين؛ لأنهم خلقوا بالرغم منهم في وطن غير وطنهم، فتأثروا بحكم ذلك الظرف ببعض عادات وتقاليد ذلك البلد، ودرجت ألسنتهم على التحدث بلهجة أبنائه. فأكون بمسلكي هذا قد أنقذت نفسي من ضياع محدود، مقابل إيقاع أبنائي في ضياع لا حدود له". [محمد حنيبر، رواية قرية البتول، ص 233]
الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تغدو في رواية رجال الثلج، وبقية أعمال عبدالناصر مجلي، معادلًا واضحًا للموت؛ لهذا تحضر مدانة وبقسوة في خطابه السردي:
"في ذلك اليوم كان الحزن مخيمًا، في سماء دكس، وفي عيون الناس. انتهينا من صلاة الجنازة، وتعاونّا على حمل التوابيت الثلاثة، وخرجنا بها لنضعها داخل سيارة دفن الموتى واتجهنا إلى المقبرة. كنا في الصيف، والدنيا مكسوة بالأخضر الريان، والأرض لا تزال ندية من بلل الشتاء الطويل. وصلنا إلى المقبرة، حيث كان في استقبالنا ثلاثة قبور موحشة. ألهذا أتينا؟! سألت نفسي، تخنقني الدموع، "أهذه هي النهاية المحتومة للحلم الذي سعينا لتحقيقه، وأتينا إليه بأقدامنا؟!". [رجال الثلج، ص 106]