قدمت الدراما اليمنية خلال عقود مجموعة متنوعة من مسلسلات تشترك بالطابع الكوميدي، على قدرٍ متساوٍ أو متفاوت بين شخصية البطل وأحداث المسلسل، حيث تطغى الكوميديا على المسلسل والشخصيات من السرد القصصي إلى انفعالات الشخصية. نجحت سينما الجيل الأول في التوفيق بين الكوميديا المقدمة وبين المعالجة الاجتماعية في الأعمال الأولى، في حين استنسخت سينما الألفية الثالثة التجارب السابقة وأعلت الكوميديا على العمل الفني نفسه، يتوضح أكثر في السعي غير المفهوم لأبطال الأعمال الدرامية بخلق اللازمة، وترديدها في كل مشهد ممكن وغير ممكن من العمل الدرامي، بحيث يتقاطع الكوميدي مع التراجيدي في مسيرة الدراما اليمنية؛ ما يسترعي الانتباه إلى أن الكوميديا لا تعتمد على المفارقات اليوميّة المضحكة وحسب، بل حتى على المأساة التي تحكيها أو الظاهرة التي تتناولها.
استحوذ على صنّاع المسلسلات اليمنية هوس بمعالجة القضايا الاجتماعية، واستعراض ظواهر لا تنتمي لهذا العصر كالإقطاع واستبعاد البشر، وظواهر تنتمي لهذا العصر كالفساد والرشوة والمحسوبية والثأر وحمل السلاح إلخ، وتتوزع المعالجة بين الإطار الدرامي والكوميدي، إلا أن الكوميديا طغت على الدراما، مع أنّ نوع الكوميديا التي تقدمها في معظم الأعمال لا تكترث بالمضامين الرمزية أو الاجتماعية إلا كعنوان للعمل الدرامي/ الكوميدي، كونها تهدف في الأخير إلى تحقيق الضحك والترفيه.
حققت الأعمال الكوميدية في السنوات الأخيرة نجاحًا محدودًا على الشاشة يتوافق مع رغبات الممول بترويج منتجاته أثناء عرض المسلسلات الرمضانية، فهي تُعَد كالمشروبات الغازية، وتنتهي بعد عرضها، كونها تقوم على الدراما المباشرة والكوميديا الخفيفة. وبدلًا من الاهتمام في السيناريو وتطوير تقنية السرد وآلية المعالجة، استعان صنّاع الدراما مؤخرًا بوجوه غنائية بلا موهبة، مثل الأخفش والعزكي، في التمثيل، ومن المحتمل أن نرى في المستقبل نجوم السوشيال ميديا على الشاشة بحكم أن اختيار الدور لا يحتكم لمعايير فنية، مثل اختيار شخصية مناسبة أو بناء شخصية جديدة أو على الأقل تحرير الشخصية اليمنية من الصورة النمطية، بل لمبدأ تسويقي يتمثل بتحقيق أعلى نسبة مشاهدة للإعلانات المحلية.
أخرجت الصورة الحالية للكوميديا جيلًا من الساخرين، حيث انتقلت "العدوى" إلى صنّاع البرامج الكوميدية على التلفزيون واليوتيوب ومنصّات السوشيال ميديا بنسخة رديئة بأن أصبحت السخرية تجاه عادات اجتماعية أو سلوكيات عامة أو قضايا إنسانية فعل قيمي
بعد نصف قرن أو أقل على انطلاقة الدراما اليمنية، لا تزال الشخصية اليمنية في الأعمال الموسمية أقرب إلى الشخصية المسرحية منها إلى الشخصية التلفزيونية، من حيث الارتجال التمثيلي والانفعال اللغوي والاستخدام العشوائي للإيماءات والشكل الغرائبي الخاص بأبطال السيرك، وليس يغيب عن الذهن أن هذا الخليط البائس هو المادة الخام للكوميديا اليمنية، لا النص ولا المحاكاة البصرية، في حين تقترب أعمال الدراما الاجتماعية من مسرحيات موليير وإبسن التي استخدمت الملهاة من أجل الإصلاح. فهي تتغيا علاج ظواهر وقضايا بشخصيات وسيناريو مخلّ بالعمل الدرامي.
سيطرت "الكوميديا" على بنية المعالجة في الدراما اليمنية، وغابت "الحكاية" في الأعمال الكوميدية وحلت مكانها "مشكلة اجتماعية" يتولى المخرج معالجتها في جميع حلقات المسلسل. وإلى جانب أن الأعمال الكوميدية غير القائمة على حكاية والتي تأخذ على عاتقها مهمة "الإصلاح"، كرست نظرة بأن العمل الفني يجب أن يكون موجهًا إلى المجتمع؛ فعندما نرى عملًا "دراميًّا" يتضمن معالجة اجتماعية لظاهرة معينة أو شريحة في المجتمع يفترض أن يتسم بالجدية والواقعية بدلًا عن الكوميديا، كي لا نصنع "دِحباش" آخر، أو بتعبير أدق كي لا نضع شخصية أو فئة في قالب سلبي، فتغيب الرؤية الفنية من أجل المحتوى الترفيهي، وتغيب الرؤية الشخصية في خلق كوميديا ناضجة من أجل الإصلاح الاجتماعي، وإذا عدنا إلى غايات الفن نفسه -فضلًا عن الكوميديا- وجدنا أنه ليست وظيفته تقديم الحلول.
أمام تراجع الدراما، اتجه صنّاع المسلسلات إلى الأعمال الترفيهية، خصوصًا مع استمرار الحرب، إذ غالبًا ما تنشط الأعمال الكوميدية على حساب القيمة الفنية في فترات الحرب. ومن الشواهد العربية المماثلة نكوص السينما المصرية بعد هزيمة 1967، حيث انكب صناع الأفلام على تقديم أعمال كوميدية هابطة إلى مطلع السبعينيات، ويبرر صنّاع الكوميديا تدنّي أعمالهم بأن الناس بحاجة إلى الضحك، فلا هي تقترب من الواقع ولا تقدم كوميديا جيدة. مما يدفعنا إلى قراءة فترات صعود الكوميديا في بعض المجتمعات العربية كمؤشر على الانحلال الفني.
أخرجت الصورة الحالية للكوميديا جيلًا من الساخرين، حيث انتقلت "العدوى" إلى صنّاع البرامج الكوميدية على التلفزيون واليوتيوب ومنصّات السوشيال ميديا بنسخة رديئة بأن أصبحت السخرية تجاه عادات اجتماعية أو سلوكيات عامة أو قضايا إنسانية فعلًا قيميًّا. تلاشى الخط الفاصل بين السخرية والتهريج والتنمر وبين الإصلاح الاجتماعي، بحيث تكرست صور سلبية عن أمور جيدة والعكس. وأصبحت السخرية من مختلف البرامج "الكوميدية" مرجعًا لقراءة التحولات الاجتماعية والسياسية والدينية، في ظل انقسام غير مسبوق، مما سمح "للتفاهة" بمختلف أنواعها تقديم نفسها كمصلح اجتماعي. والمفارقة أن الخطاب الذي تصدّر مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات، والذي يقدم نفسه كقاضٍ ومصلح اجتماعي وكوميديان في آن، هو من تبعات الحرب على المجتمع والناس.