(1)
تربطني بالبنك اليمني للإنشاء والتعمير -كتاريخ وحضور في الحياة العامة- علاقة وجدانية بطابع خاص منذ منتصف السبعينيات. فمبناه الذي صُمِّم بطريقة متميزة، كان بأحجاره الحمراء المهيبة، وتوزيع فضاءاته، يمثل بذهني الصغير أجمل مبنى في أهم شارع بتعز (شارع جمال)، فحينما كنت أمر بجواره، أو تتاح لي فرصة الدخول لردهاته تبهرني طريقة توزيع حجراته وصالاته ومكاتبه وملابس موظفيه وعماله العصرية والمرتبة، على العكس من مبناه الكائن في شارع 26 سبتمبر، المبني بالأسمنت وبالطريقة التي تشاد بها "بناجل" مدينة عدن ذات الطابع الشرقي، رغم أن الأخير كان يقع بالقرب من بيت خالي الذي كنت أتردد على مسكنه قبل الإقامة الدائمة فيه في العام 1983.
كان لخالي تأثير خاص بهذه العلاقة بوصفه أحد موظفيه المهمّين، وهو أنموذج كبير بوعيي، للمهابة والقيمة التي كانت تسبغه عليه صفة الموظف بالبنك، وكان لأصدقائه وزملائه الذين يعملون معه في ذات المرفق، والذين يمرون على دكان يعمل به والدي في السوق المركزي، بملابسهم النظيفة وعلامات الوقار في تصرفاتهم وأحاديثهم، أثرٌ بالغ أيضًا، وخصوصًا حينما يمر بذهني طيف الراحل الجليل عبدالباقي محمد سعيد العريقي(*)، وعبدالملك ثابت المحمدي، وجارتنا الخالة فتحية محمد عبدالله، وحتى الساعي البسيط في البنك الذي كان يوزع إشعارات البنك على عملائه في السوق في المساء، ببدلته الرمادية المميزة، يحضر في هذه العلاقة. مع الوقت صار لي أصدقاء حميمين من موظفي البنك وقياداته في صنعاء، خلقتها الكثير من الظروف الطيبة، حتى أني أحس بأني واحد من أبنائه، كما يقول لي صديقي الكبير حسين السفاري (أقدم عضو مجلس إدارة فيه).
وأنا طالب اقتصاد -في كلية التجارة بجامعة صنعاء في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات- كان ضمن مقررات المنهج مادة في التخصص اسمها "نقود وبنوك"، وحين طلب منا كتابة أبحاث نظرية في موضوع البنوك لم أتردد كثيرًا في الكتابة عن البنك من موقع هذه العلاقة الوجدانية. القراءات السريعة عن تاريخ البنك في ذلك الوقت، وكانت عمادًا لبحث طلابي مبتدئ وركيك، ثبّتت لدي قناعة كبيرة بمتلازمة الجمهورية بالبنك ومشاريعه التنموية.
كان رأس مال البنك عند التأسيس في أكتوبر 1962، عشرة ملايين ريال (ماري تريزا)، ووزع رأس مال التأسيس على مليون سهم، وقيمة كل سهم فيه عشرة ريالات
اهتمامي بموضوع التحول الجمهوري في اليمن بعد سبتمبر 1962، جعلني أنصرف لقراءات متشعبة في الوثائق والمذكرات والسِّيَر، وكان ضمنها قراءات في مسيرة البنك خلال العقود الستة المنصرمة والتي توثقت في كتابين مهمين؛ الأول لأستاذي الجليل الشاعر والاقتصادي الكبير سعيد الشيباني عنوانه "البنك اليمني للإنشاء والتعمير؛ أربعة وثلاثون عامًا من العطاء"، والذي أصدره في العام 1996، والكتاب الآخر صدر في العام 2012، مستفيدًا من المبذولات الوثائقية والتاريخية للكتاب الأول، أما عنوانه فقد صار "قصة تاريخ مجيد في خدمة الاقتصاد والمجتمع- البنك اليمني للإنشاء والتعمير 50 عامًا من العطاء" لمؤلفه المهندس عبدالكريم محمد أحمد الزبيري. من هذين الكتابين، بمحتوياتهما التوثيقية المهمة، حاولت عمل سيرة مقتضبة عن التأسيس الباكر للبنك بحافزين اثنين: الأول لتلك العلاقة الوجدانية التي ربطتني به على مدى خمس وأربعين عامًا، والثانية لتحوله إلى رمز من رموز الجمهورية في الجانب الاقتصادي، ولم يزل حتى الآن يقاوم عملية التجريف الممنهج والفناء الذي يُمارس ضد هذه المرموزات السبتمبرية العظيمة، وعلى رأس ذلك إفراغها من رأسمالها الرمزي في وعي المجتمع.
(2)
في 28 أكتوبر 1962، أصدر الرئيس عبدالله السلال (رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة) قرارًا بمنح ترخيص البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وحيثية إصدار القرار حسب الوثيقة -المكونة من ثلاثة أسطر فقط ومكتوبة بخط اليد- كانت للحاجة لتشجيع الاقتصاد الوطني حتى تضمن البلاد التطور والتقدم.
هذه الوثيقة البسيطة لم تسبغ عليه صفة أول بنك وطني يتأسس في اليمن وحسب، وإنما حددت مهامه وأهدافه الاقتصادية الوطنية الكبيرة في بلد خرج لتوه من العزلة والانغلاق قبل 32 يومًا، بقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962؛ ولكونه أول بنك وطني، فقد استلزم الأمر أن تتعدد أغراضه بحيث تشمل كافة الخدمات المصرفية الاعتيادية للقطاعين العام والخاص، إضافة إلى المساهمة في عمليات التنمية الاقتصادية من خلال تأسيسه لعديد من الشركات الحيوية التي كانت تفتقر إليها البلاد، وساهم في تأسيس شركات حيوية أخرى رافدة للاقتصاد الوطني، مثل (المحروقات، والتبغ والكبريت، والقطن، والكهرباء والملح، والتجارة الخارجية، والأدوية، والشركة اليمنية للطباعة، والشركة اليمنية للسينما، وشركة مأرب للتأمين، وشركة تسويق المنتجات الزراعية، وغيرها).
نظامه الداخلي الأول الذي صدر في العام 1963، حدد أهداف البنك بتحقيق جملة من المهام، منها: القيام بجميع العمليات المصرفية، وله في سبيل ذلك مزاولة جميع أعمال البنوك التجارية من خصم وتسليف على بضائع أو مستندات أو أوراق مالية أو تجارية، وقبول الأمانات والودائع، وفتح الحسابات والاعتمادات، وبيع وشراء الأوراق المالية والاشتراك في إصدارها.
وله أن يقوم بعقد عمليات ائتمان مع غيره من البنوك، كما يجوز أن يقرض الحكومة أو يضمن القروض والاستثمارات التي تعقدها مع الهيئات والمنشآت اليمنية والأجنبية، ويجوز أن تكون له مصلحة أو يشترك بأي وجه من الوجوه مع الهيئات التي تزاول أعمالًا شبيهة بأعماله أو تعاونه على تحقيق غرضه في الجمهورية (العربية) اليمنية أو في الخارج.
كان رأس مال البنك عند التأسيس في أكتوبر 1962، عشرة ملايين ريال (ماري تريزا)، ووزع رأس مال التأسيس على مليون سهم، وقيمة كل سهم فيه عشرة ريالات. امتلكت الحكومة نسبة 51% من الأسهم، تمثلت في قيمة دمج شركة المحروقات اليمنية [النفط] في البنك كجزء من قيمة مساهمة الدولة (مع منح المساهمين في الشركة أسهمًا في البنك)، والرصيد الدائن في ميزانية تصفية البنك الأهلي التجاري السعودي، حين تحولت ملكية هذا البنك بعد التصفية إلى البنك اليمني بعد قيام ثورة سبتمبر. بقية النسبة البالغة 49% تركت للاكتتاب العام، والتي بلغت في 31 ديسمبر 1962، أكثر من 67 ألف سهم.
أول تقرير سنوي قدمه البنك للجمعية العمومية (المساهمون وأعضاء مجلس الإدارة) كان عن العام المالي المنتهي في 31/ 12/ 1963، تضمن الإشارة إلى الدعم السخي الذي قدمه البنك لثورة السادس والعشرين من سبتمبر
ولم يصِرْ رأس مال البنك مدفوعًا بالكامل إلَّا في العام 1970، "حيث دفعت الحكومة قيمة أسهمها من نصبيها في شركة المحروقات والكهرباء، ومن نصيبها من أرباح الأعوام الثمانية (1962-1970)، كما استكمل القطاع الخاص سداد قيمة أسهمه خلال العام نفسه، أما الأفراد فقد دفعوا قيمة أسهمهم نقدًا عند الشراء، كما وزَّع البنك بقية الأسهم على موظفيه حسب الدرجات الإدارية والرتب، وحسم قيمتها من رواتبهم".
أول رفع لرأس مال البنك كان في أغسطس من العام 1977، بالتزامن مع التغيير الثالث في النظام الأساسي، وتم رفع رأس المال إلى مئة مليون ريال يمني، بدلًا من عشرة ملايين ريال. في أبريل من العام 2002، جرى التعديل الرابع للنظام الأساسي، وبموجبه تم رفع رأس المال إلى ملياري ريال، وآخر تعديل لنظام البنك الأساسي كان في مايو من العام 2011، وفيه تم تمديد مدة الشركة (البنك) خمسين عامًا أخرى؛ تبدأ من 28 أكتوبر 2012، وتنتهي في 27 أكتوبر 2062، ورفع رأس المال إلى اثني عشر مليار ريال يمني.
مهمة قيادة البنك خلال سنوات التأسيس الأولى لم تكن فقط لإدارة البنك، بل تجاوزتها إلى المشاركة في تحديد سياسة الدولة النقدية والاقتصادية، والمشاركة الفعلية في تسيير أمور البلاد. وتشير بعض الوثائق إلى أن اتصال إدارة البنك برئيس الجمهورية كان مباشرًا، كما كان من حق رئيس مجلس إدارة البنك حضور اجتماعات مجلس الوزراء، كونه يحمل صفة وزير.
أول اجتماع لمجلس إدارة البنك كان بتاريخ 31 ديسمبر 1962، في مقر مجلس الوزراء بالقصر الجمهوري بصنعاء، برئاسة أول رئيس لمجلس إدارة البنك، الدكتور حسن محمد مكي، وبحضور أول مدير عام للبنك، الدكتور محمد سعيد العطار. الدكتوران مكي والعطار كانا قد تأهلا تأهيلًا علميًّا عاليًا؛ الأول في إيطاليا والثاني في فرنسا، ومثّلا الصورة الجديدة لليمن الخارج من ركام السنين.
أما المركز الرئيس للبنك عند التأسيس، فقد كان في مدينة الحديدة، وزاول نشاطه في مقر البنك الأهلي التجاري السعودي الذي افتتح مقره الرئيس في الحديدة في العام 1956، وتحولت ملكيته للحكومة اليمنية الجديدة بعد الثورة مباشرة. أما اختيار مدينة الحديدة ومقر البنك الأهلي كمركز رئيس، فسببه أن التجهيزات والبنية التحتية للعمل المصرفي كانت متقدمة نسبيًّا عن مثيلاتها في صنعاء أو تعز، لأن النشاط التجاري في المدينة كان فاعلًا بسبب وجود الميناء فيه. (في إحصائية مبكرة ظهرت في كتاب د. سعيد الشيباني، بينت عدد موظفي البنك السعودي في الحديدة الكثيفة التي تتجاوز مثيلاتها في فروع صنعاء وتعز، وأيضًا فوارق المرتبات الكبيرة للعاملين، وهذا يؤشر لأهمية مركز الحديدة، الذي اتخذه البنك اليمني مقرًّا مؤقتًا له في تلك الفترة).
أول تقرير سنوي قدمه البنك للجمعية العمومية (المساهمون وأعضاء مجلس الإدارة) كان عن العام المالي المنتهي في 31/ 12/ 1963، تضمن الإشارة إلى الدعم السخي الذي قدمه البنك لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، "التي واجهت، منذ البداية، حربًا اقتصادية لا هوادة فيها، فكان البنك الدرع الواقي الذي تحطمت عليه جميع الأسلحة الاقتصادية التي أشهرتها الجهات المعادية في وجه الثورة، ولم يكن منتظرًا منه غير هذا، فهي باكورة إنتاج الثورة ووليدها الفتي، فكان لزامًا عليها العون والوفاء"، كما جاء في نص التقرير الذي لم ينسَ أيضًا الإشارة إلى دمج شركة المحرقات في البنك، كحصة للحكومة بوصفها أهم مداميك قيام البنك، وجاء في السياق:
"وقد كان لدمج شركة المحروقات اليمنية في مؤسستكم آثار حسنة، فالدمج في حقيقة الأمر تجميع لرأس المال اليمني، وتركيز لإمكانياته حتى يتمكن بالاضطلاع بمسؤوليات أكبر تجاه الاقتصاد الوطني وخدمته".
(يتبع)
(*) يظهر اسم عبدالباقي محمد سعيد، ضمن قوائم موظفي البنك اليمني فرع تعز في 31/ 12/ 1962، بوظيفة محاسب ومرتب شهري، قدره ثمانون ريالًا.