مارست السينما الأمريكية، خلال ما يزيد عن قرن، أشكالًا من التشويه المتعمد في صورة الآخر، وكرّست صورًا متخلفة عن الشعوب الأخرى استمرت في استحضارها بشكل أقرب إلى الانتقام الثقافي منه إلى الانفتاح على الآخر. وظلت صورة العرب والهنود والآسيويين والأمريكان السود والأيرلنديين واللاتينيين وغيرهم، حبيسة الذهنية الأمريكية. وبينما تلاشت أغلب الصور النمطية بقت صورة العرب تزداد قسوة ووحشية.
في سبعينيات القرن الماضي، نشر إدوارد سعيد كتاب "الاستشراق" الذي فضح العلاقة بين رحلات الاستشراق والمؤسسات الكولونيالية. ويمكن الجزم، بحالة السينما، بنشوء هوليوود جنبًا إلى جنب مع إدارة واشنطن، في تأثّرها المُسبق عن العوالِم التي ستقتحمها، وقد استلهمت أدبيات الاستعلاء من الصورة الكولونيالية عن أرض العرب. يتكشّف الخطاب الاستشراقي في الخلط الواضح بين العرب والمسلمين، والمغالطة في عرض صورة موحدة باعتبار أنّ جميع العرب مسلمون وجميع المسلمين عرب، فضلًا عن أنّها لا تفرق بين بلدان العالم العربي مثل سوريا ومصر واليمن، ونتيجة لهذه الصورة العمياء حضرت اليمن كجزء من تعميماتها الفجة.
لا تقل صورة اليمن عن صورة العرب بشاعة. فلا يكاد هذا البلد الذي ظلّ مغلقًا على نفسه إلى الستينيات أن يتلمّس الاتصال بالعالم الخارجي حتى يجد عشرات الأفلام والمسلسلات بانتظاره لمجرد أنّه ضمن الخارطة العربية. ولم تتوانَ المسلسلات الأمريكية في توظيف سنوات العزلة بعد عقود من انتهائها.
في مسلسل "سوبرناترال" يصرّح الممثل "جنسن أكلز" بأنه يرغب في الذهاب إلى مكان خارج العالم، فيردّ أخوه بكل ثقة: "أنا سأذهب إلى اليمن". وفي مشهد ساخر من مسلسل "فرندز" يتلعثم الممثل "ماثيو بيري" أمام خطيبته ويقرر السفر إلى اليمن كي يهرب منها، ويغمز له صديقه في إشارة منه بأنه توفّق في ابتكار اسم بلد.
اليمن كجانب من صورة العرب المشوهة
بعد عقود من عرض فيلم "جزار الابتذال" الذي تضمن مشهدًا حواريًّا بين شخصيتين في مطعم، ويصرح أحدهما للآخر قائلًا: "كنا متوجهين إلى مكة، والطائرة امتلأت بالعرب وحيواناتهم: ماعز، خرفان، دجاج... إنهم لا يذهبون إلى أي مكان إلا صحبة حيواناتهم".
تحولت الصورة النمطية في الحوار إلى حلقة كاملة عن اليمن في مسلسل "شيملس"، حيث يقوم فرانك -الممثل "ويليام ميسي"- بتهريب عائلة يمنية من أمريكا إلى كندا رفقة الدجاج والأغنام، في طريق شاقّ بالكاد أمكن الهروبَ عبره، بينما ظلّ "سمير" وعائلته متمسكين بالحيوانات كأفراد من العائلة، ويستنكر فرانك بصمت، عادات العائلة اليمنية الكريهة. وفي مشهد آخر من المسلسل نفسه، تجري محادثة بين ممثلة صغيرة بالسن مع صديقها الممثل "جيرمي ألن وايت"، يسألها عن سبب غيابها، ترد بأنها تزوجت شيخًا من اليمن وسافرت إلى بلده.
كشف الفيلم الوثائقي عن اليمن "حروب قذرة"، آليات الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب، واستعرض جرائم القتل للمدنيين الأبرياء في اليمن والصومال وأفغانستان من قبل القوات الأمريكية، كوجه آخر لعملياتها العسكرية التي روّجت لها هوليوود
لم تختلف صورة اليمن عن صورة العرب في هوليوود. إذ لا يزال "الشيخ" اليمني (أو من أي بلد عربي آخر) حبيس شهواته ويتزوج البنات القاصرات، كما لا يزال العرب متخلفين وفق أنماط محددة منذ عشرينيات القرن الماضي، كما عبر عنها جاك شاهين في دراسته المفصلة.
بلاد "الإرهاب السعيدة"
شيّطنت السينما الأمريكية الشخصية العربية وقدّمتها كنموذج للتخلّف والتمرّد والترهيب، وظلّت تتناول الفعل المستفز أو الشخصية الكريهة في الإطار العربي دون تبرير موضوعي يشرح تحوُّل الشخصية إلى عوالم الجريمة والهمجية والاستبداد أو دوافعها للقيام بذلك الفعل. وترسّخت تدريجيًّا الانطباعات السينمائية عن طباع العرب، وتحولت إلى بديهيات. ولئن ارتبطت صورة العربي بالترهيب، فإن سينما الألفية الثانية ستكرس صورة نمطية عن اليمن بأنها مسقط تنظيم القاعدة.
في البلدان التي تعرضت للغزو الأمريكي، مثل العراق وأفغانستان والصومال، حاولت هوليوود أن تظهر الجيش الأمريكي كمنقذ للأطفال والنساء، وغالبًا ما تبدو مغامراتها العسكرية قد انطلقت في الإطار الإنساني من أجل إنقاذ المدنيين. وتزداد حساسيتها في المعالجة السينمائية حسب انتهاكاتها، إلا أنها في فيلم "قواعد الاشتباك" صبّت جحيمها على اليمنيين، وقتلت 83 مدنيًّا من الأطفال والنساء، وحوّلت سكان البلاد إلى مجموعة من الإرهابيين الغاضبين؛ مما دفع بقائد الفرقة الممثل "صامويل جاكسون" إلى قول جملته العنصرية: "اقضوا على هؤلاء الأوغاد"، ويقتل الجميع، وهو أمر من غير الممكن أن يحدث في بلد آخر لولا انحطاط صورة العربي في هوليوود، وتقديم اليمن كجزء منها. الملاحظ أنّ تاريخَ عرضِه سبق حادثة انفجار مدمرة كول، وحادثة ١١ سبتمر؛ إذ من بعد حادثة ١١ سبتمبر شعر صنّاع الأفلام في هوليوود باكتساب نوع من المشروعية في شيطنة الشرق الأوسط.
بعد عقد كامل، ظهرت اليمن من جديد في دراما متصلة في مسلسل "نيكيتا"، حيث تقوم جماعة إرهابية باستهداف السفارة الأمريكية في صنعاء عبر عبوة ناسفة داخل سيارة الممثل "شين ويست". ويقود مسلسل "هوملاند" عملية ملاحقة عناصر إرهابية في جنوب اليمن عبر الأقمار الصناعية، ويشرف رئيس شعبة الشرق الأوسط الممثل "ماندي باتينكن" على عملية الاستهداف بطائرة دون طيار، في سياق إظهار الجدية والحزم في مكافحة الإرهاب. بينما عاد مسلسل "بريزون بريك" في موسمه الخامس بأحداث حول اليمن، كشف فيها عن وجود الممثل "مايكل سكوفيلد" حيًّا في أحد سجون اليمن "أوجيجيا" (سجن خيالي غير موجود في الواقع)، بعدما احتجزه تنظيم "داعش" الإرهابى، ليسعى أخوه لينكولن بوروز هو ومجموعة من أصدقائه القدامى، لتحريره من هناك. حظي المسلسل في الموسم الخامس باستحسان من المشاهدين العرب؛ كونه دافع عن الإسلام وهاجم داعش واتهمها بالتطرف وأنّها لا تمت إلى الإسلام بصلة، بجملة قيلت على لسان الممثل السجين. المفارقة أنه استحضر الصورة النمطية عن اليمن كمسقط للإرهاب في سبيل تصحيح صورة نمطية أخرى عن الإسلام والتطرف، بالأخذ في الاعتبار أنّ الرسالة موجهة إلى الجمهور الغربي وليس العربي. في ذات السياق، وجّه الفيلم اليمني (الرهان الخاسر) رسالته إلى الداخل بالكشف عن ألاعيب الجماعات الإرهابية في اليمن، وأسباب تناميها ومخاطرها.
نمطية التعصب
ارتبط اسم اليمن في هوليوود مع "الإرهاب"، ترافق ذلك مع تصاعد التقارير الإخبارية عن الهجمات الإرهابية في اليمن، سواء التي تعرضت للسياح الأجانب أو المرافق اليمنية الحكومية والمدنية في العقد الأول من الألفية الثانية. وتوالت الضربات الأمريكية داخل بلدان الشرق الأوسط في سياق حربها على الإرهاب. بالمقابل، كشف الفيلم الوثائقي عن اليمن "حروب قذرة" آليات الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب، واستعرض جرائم القتل للمدنيين الأبرياء في اليمن والصومال وأفغانستان من قبل القوات الأمريكية، كوجه آخر لعملياتها العسكرية التي روّجت لها هوليوود.
ساهمت الصور النمطية عن البلدان في تكريس التعصب، استعرضها بشكل أوضح فيلم "باسم الأب" وهو من السيرة الذاتية لكونلون، عندما انتقل إلى لندن بحثًا عن العمل، وأثناء تجواله في الشوارع وقعت حادثة انفجار، فأوقفت الشرطة البريطانية الأشخاص من ذوي الأصول الأيرلندية وبدأت باستجوابهم واتهامهم بالتفجير دون أدلة أو شهود، وصولًا إلى الحكم بالسجن المؤبد بعد إرغامهم على الاعتراف بالغصب، إلى أن تأتي المحامية "جوسيبي" بعد ١٥ عامًا لتقلب موازين القضية. وبالعودة للبداية كانت الجناية الوحيدة هي أصولهم الأيرلندية، إذ لازمت أيرلندا صورة نمطية مرادفة للتخريب والشغب والعنف منذ إعلانها الاستقلال عن بريطانيا. الأمر نفسه ينطبق على صورة اليمن، وما يترتب عليها من عبء تنميطها بالإرهاب. إذ غالبًا ما تكرّس الصورُ النمطية الأحكامَ المسبقة، وتحول التمييز إلى واقع مَعيش ومقبول ومشروع، بحيث تصبح الحياة في الداخل أو الخارج، تنويعات على الصورة السوداء.